اعتياد النعم وإِلفها مرضٌ صامتٌ وخفيّ يُصيب كثير من الناس، فيشعرون بأنّ ما حولهم من صنع أيديهم وبجُهدهم وذكائهم، بل قد يَرون أنهم يُبصرون ويسمعون لأن لديهم أعيُن وآذان، ويتسوّقون احتياجاتهم لأنهم يملكون المال، وأن كل شيء في الحياة فطري وطبيعي، وهو كذلك، لكن ينقص هذه الفئة من الناس بُعد آخر وهو التفكّر في أن كل نعمة إنما هي بتيسير من الله – عز وجل- الذي يقول للشيء كن فيكون، فكل مقدر بقدره سبحانه وتعالى.
ولقد حرص الشرع الإسلامي الحنيف على تزكية النفوس وتطهير القلوب والحث على شكر النعم، بل وَعَدَ بالزيادة في النعم إذا أحسن العبد شكر ربّه على ما أنعم به عليه، فقال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
فالشمس والقمر والنجوم، نِعَمٌ لا يتحكم فيها إلا رب العالمين، وكذلك الماء والهواء والصحة وكل ما يتعلق بالإنسان والكون الذي يعيش فيه، وإلف النِّعمَ من الأمور التي يجب أن ندق ناقوس الخطر من أجلها.
مفهوم اعتياد النعم
ويتلخّص مفهوم اعتياد النعم وإِلفها، في أنّ المرء يعتقد أنّ كل ما يتمتع به عبارة عن حقوق لا تستحق شكر الله عليها، بل ربما تمر عليه نعم أو ينجيه الله من محنة أو يعينه الله على أمر فتأخذه الفرحة وينسى أن يشكر الله عز وجل عليها، وتمر النعمة تلو النعمة فلا يُؤدي شكرها قولا أو عملا.
فعن عبد الله بن عباس – رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “مُطِرَ النَّاسُ علَى عَهْدِ النبيِّ – صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، فقالَ: النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-: أصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شاكِرٌ ومِنْهُمْ كافِرٌ، قالوا: هذِه رَحْمَةُ اللهِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذا وكَذا” (صحيح مسلم).
والتعود على النعم آفة تُناقض الشكر الذي عرّفه ابن القيم بقوله: “الشّكر ظهور أثر نعمة اللّه على لسان عبده: ثناءً واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبّة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة) (1).
مظاهر اعتياد النعم
بسبب تغيب الوعي الإسلامي الذي يمارس ضد مظاهر الإسلام، وتغيب الدعاة والمصلحين والعلماء وحجبهم عن الناس أدى إلى تمييع قيم ومظاهر الدين الإسلامي في قلوب الناس، حتى أصبحت كثير من القيم الإسلامية تحارب، في مقابل كثير من الحرام الذي صار في نظر الناس حلالا. ومن مظاهر اعتياد النعم التي ذكرها الشيخ محمد راتب النابلسي:
• أن تألف نِعمَ اللهِ عليك وكأنها ليست بِنِعَم، وتفقد الإحساس بها، كأنها حقٌ مكتسب.
• أن تتعود الدخول على أهل بيتك وتجدهم بخير وفي أحسن حال.. فلا تحمد الله.
• أن تذهب للتسوق، وتضع ما تريد في العربة وتدفع التكلفة وتعود إلى منزلك دون أدنى إحساس بالمنعم وشكره، لأن هذا عادي وحقك في الحياة.
• أن تستيقظ كل يوم وأنت في أمان وصحتك جيدة لا تشكو من شيء.. دون أن تحمد الله (2).
متى تتحول النعمة إلى نقمة؟
إن اعتياد النعمة يُؤدي إلى تحولها لنِقمة وبلاء على الإنسان، فقد رزق الله سبحانه كل عباده النعم الكثيرة فمنهم من شكر ومنهم من كفر بها وبدّل، فبدله الله من حال إلى حال، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
فنعم الله تتبدل إلى نقمة على الناس إذا سُخّرت فيما لا يُرضى الله، كما لم يؤد حقها بالشكر قولا وعملا. وأيضا إذا استعملناها في معصية الله وظلم العباد والإفساد في الأرض.
وتتحوّل النعمة إلى نقمة (بل ربما تزول) إذا لم نشارك الفقير والمحتاج بهذه النعم، ولم نؤدّ زكاتها.
أيضا تتحول إلى نقمة إذا ظنّ المرء أنه ورثها كابرا عن كابر، مثلما اتضح في قصة الأبرص والأقرع ببني إسرائيل حينما رزقهم الله بالنعم وأرسل لهم ملكًا يطلب حق الله فيها فقالوا لقد ورثناها كابرا عن كابر فمحقَها الله. وأيضا قصة أصحاب الجنة التي وردت في سورة (ن) (3).
ويقول أبو حامد الغزالي: “أعلم أنه لم يقصر الخلق عن شكر النعمة إلا الجهل والغفلة، ولا يتصوّر شكر النّعمة إلّا بعد معرفتها، ثمّ إنّه إن عرف العبد نعمة ظنّ أنّ الشّكر عليها أن يقول بلسانه: الحمد لله، الشّكر لله، ولم يعرف أنّ معنى الشّكر أن يستعمل النّعمة في طاعة الله عزّ وجلّ” (4).
أهمية الشكر
شُكرُ النعمة تتم بأمور منها أن تنسبها إلى الله سبحانه، وتشكره عليها، وتحسن استخدامها، في مرضاته وعدم الإسراف فيها، ولقد قرن الله الشكر بكثير من النعم التي أنعم بها على المرء: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]. وقال تعالى:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147].
وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم:7]. وقال تعالى: {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7].
وتعود أهمية الشكر في حياة المسلم – أيضا- إلى أنه يحميه من اعتياد النعم وإلفها، ويجعله يقتفي درب النبيين، الذين كانوا شاكرين لله – جل وعلا-، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: الآية 121].
ويقول عبد الله بن عبده نعمان العواضي: “أطلق الله – تعالى- الجزاء على الشكر ولم يُقيده بالمشيئة؛ وما ذلك إلّا كرمًا منه على الشاكرين”.
ومن أسباب دوام النعم شكر الله – تعالى- عليها، فالنّعم إذا شكرت بقيت، وإذا كُفرت زالت، والشكر من الإيمان وطريق لرضا الله كما أنه قرين للعبادة (5).
فوائد شكر النعم
ويتسبب اعتياد النعم في الغفلة عن الشكر، لذا يلزم المؤمن أن يعتاد ذكر نعم الله – تبارك وتعالى – لعدة فوائد منها أن:
- ذكر النعم بصورة مستمرة باب عظيم لأداء الشكر {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].
- ذكر النعم تزيد محبة المرء لربه وتعلقه به كونه المحسن صاحب النعم، فيحيا القلب بهذا الحب، قال الحسن البصري “أكثروا ذكر النعم فإن ذكرها شكرها”.
- النعم تؤدي بالإنسان إلى العمل على إرضاء الله وشكره سواء بالثناء عليه أن وفّقه الله للطاعات أو رزقه ووهبه أو منع عنه مصيبة، أو شكرا عمليا أن يحافظ المرء على طاعته وعبادته كباب من أبواب شكر الله على النعم.
- ذكر النعم يدفع الإنسان للحياء من ربه والامتناع قدر استطاعته عن معصيته، وارتقاء قيمة الاستغفار في نفسه وقلبه الحي فلا يرتكب ذنبا إلا آلامته نفسه اللوامة حتى يتوب.
- ذكر النعم من أهم أبواب علاج الكبر وبَطر الحق والطغيان والظلم، فكلما تذكر الإنسان نعم ربه أدرك بأن من هو أكبر وأعظم منه يراقبه فلا يقدم على ظلم أو كبر خشية الله سبحانه.
- ومن فوائدها استعظام نعم الله عليه وأنه فضله على كثير من خلقه، فيدفعه للرحمة بالناس، كما يدفعه لعدم النظر إلى النعم التي وهبها الله لغيره بل على العكس تجعله ينظر لمن دونه من النعم، قال صلى الله عليه وسلم: [انظروا إلى من هوَ أسفلَ منْكم ولا تنظُروا إلى من هوَ فوقَكم ، فإنَّهُ أجدرُ أن لا تزدَروا نعمةَ اللَّهِ عليْكم] (الترمذي) (6).
أثر شكر النعمة
الشكر ثلاثة أنواع: “شكر باللسان، وشُكر بالقلب، وشكر بالعمل”، وهى أمور تعود على الإنسان بالنفع وتحميه من آفة اعتياد النعم وإِلفها، حيث يظل لسانه يلهج بذكر الله وشكره، ويحيا قلبه بحب الله وحمده، وتُترجمه جوارحه أفعالا.
وهي أمور تجعل المرء ينقاد إلى الله سبحانه وتعالى، ويكون ذلك بالوقوف عند أوامره والانتهاء عن نواهيه.
كما تجعل المرء دائم التفكر في عظيم قدرة الله سبحانه، وحفظ نعم الله علينا، بحسن استغلالها والتصرف بها، وذلك حسب أنواع هذه النعم.
ومن أثر الشكر أن يدفع المرء لمعرفة أمور دينه وحقوق ربه وشرائع عقيدته، يقول الله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] (7).
أخيرا
لا تجعل اعتياد النعم يُنسيك عبادة الشكر، فشكر الله سبحانه على نعمائه من القيم التي تعود على الفرد ومجتمعه بالخير والبركة، وغياب الشكر لا يضيع علينا دنيانا فحسب، بل يضيع علينا آخرتنا – أيضا-، فليحرص المسلم أن يكون دائما شاكرا لله على نِعَمه بلسانه وقلبه وجوارحه، بل يعمد أن يكون قدوة أمام زوجته وأبنائه فيشكر الله أمامهم حتى يقتدوا به في درب السائرين إلى رب العالمين.
المصادر
1. ابن القيم الجوزية: تهذيب مدارج السالكين، دار النشر للجامعات، القاهرة، 2010 صـ346.
2. محمد راتب النابلسي: المرض الصامت!، 3 أغسطس 2021،
3. خالد صابر خان: متى تتحول النعمة إلى نقمة والمنحة إلى محنة؟،
4. الإمام الغزالي: إحياء علوم الدين، الجزء الرابع، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2016، صـ149.
5. براء أيمن شلتوني: أهمية شكر النعم، 20 أبريل 2021،
6. مجدي الهلالي: ذكر النعم العبادة المهجورة: إسلام أون لاين،
7. من آثار الشُّكر ونتائجه: 5 ديسمبر 2020،