تتنوع العبادات والسنن في شهر رمضان الكريم، وتنزل الرحمات وتتضاعف الحسنات لأصحاب الهمم، الذين لا يتركون ساعة تمر دون عمل صالح متأسين برسول الله – صلى الله عليه وسلم- الذي كان يكثر من الخير في أيام وليالي هذا الشهر العظيم حتى توفاه الله، وهو ما سار عليه الصحابة الكرام ومن بعدهم السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وفي بحث بعنوان: “اعتكاف النبي – صلى الله عليه وسلم- بين الأحكام الفقهية والقيم التربوية”، للباحث محمد عبد الحكيم القاضي، يرى أنه لمّا كان الاعتكاف سُنَّة من أطيب السنن العبادية، وطريقة من أمتع الطرق السلوكية والتربوية، كان من الحسن التعرف إلى الهدي النبوي الكريم فيها تسهيلًا لطريق الاتباع وسدًّا لمسارب الابتداع.
اعتكاف النبي فريضة قديمة
ويصح أن نقول إن اعتكاف النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- هو من قبيل إحياء السنن القديمة التي ترجع إلى ما قبل سيدنا إبراهيم – عليه السلام-، يلفتنا إلى ذلك لفتًا شديدًا قول الله تعالى: {وَعَهِدْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِۦمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (البقرة: 125).
فالعاكفون المذكورون في الآية هم المعتكفون، سواء عبّر عنها ابن عباس بأنهم “الجالسون”، أو عطاء بأنهم “المجاورون بمكة”، أو ابن عمر بأنهم “الذين ينامون في البيت الحرام”، لذلك رجّح الرازي أنهم “مَن يقيم هناك ويجاور”، وهذا المفهوم من اختيار أبي طالب القيسي.
وقال أبو محمد عبد الحق بن عطية الغرناطي: “.. فمعناه لملازمي البيت إرادة وجه الله”، وكان من دأب النبي – صلى الله عليه وسلم- إحياء سنن الأنبياء السابقين، خصوصًا أباهم إبراهيم – عليه السلام-، صاحب الملة القويمة، والدعوة الكريمة.
من ثم كان الاعتكاف في المسجد هو هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- وطريقته التي واظب عليها، إلا أنه اختار لها أيامًا هي من أعظم الأيام عند الله، وموسمًا هو من خير المواسم، إن لم يكن خيرها على الإطلاق، وهي العشر الأواخر من رمضان، فتُخبر أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها-: “أن النبي – صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله” (مسلم).
وهذا من منطلق التشمير للطاعات في مواعيد القرب، والاغتراف من معين البركات حين تتفسح الطرقات، وتتكشف الأغطية، وهو من فنون العبادة التي يؤتاها الصادقون في مودتهم مع الله – جل وعلا-، ومن فقه الطاعة الذي يمنحه الموفقون في سلوكهم إليه تعالى، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- هو رائدهم وفرطهم ومقدمهم، به الاقتداء، ومنه الاهتداء.
ولعل السيد الجرجاني التفت إلى معنى تربوي للاعتكاف حين عرفه بقوله: “الاعتكاف: تفريغ القلب عن شغل الدنيا وتسليم النفس إلى المولى، وقيل: الاعتكاف والعكوف: الإقامة، معناه: لا أبرح عن بابك حتى تغفر لي”.
أين كان اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم؟
ولقد كان موضع اعتكاف النبي – صلى الله عليه وسلم- عند “أسطوانة التوبة”، فقد قال نافع مولى ابن عمر: “وقد أراني عبد الله بن عمر المكان الذي كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يعتكف فيه من المسجد”.
نعم! هذا هو اتباع الأثر، وتعقب السنَّة، واقتفاء السبيل، وهذا هو طريق الهدي وأصل الفلاح. وهذا المكان تحدده رواية ابن ماجه عن نافع عن ابن عمر عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا اعتكف طرح له فراشه، أو يوضع له سريره وراء “أسطوانة التوبة” وهذا حديث حسن جدًا، قال عنه البوصيري: “هذا إسناد صحيح رجاله موثوقون”.
وأسطوانة التوبة هي التي تاب عندها أبو لباية، وهو رفاعة بن عبد المنذر، من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، وكان حليفًا لبني قريظة، فأشار إليهم بما أفهمهم حكم النبي فيهم، وهو الذبح، فأراد أن يتوب، فانطلق إلى المسجد وربط نفسه بأسطوانة من أساطينه بضع عشرة ليلة حتى تاب الله عنه وأطلقه النبي – صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأسطوانة هي الرابعة من ناحية المنبر، فهي تلي أسطوانة عائشة من جهة المشرق بلا فاصل، وهي الثانية من ناحية القبر، والثالثة من ناحية القبلة، وشرقي هذه الأسطوانة تقع أسطوانة أخرى اسمها “أسطوانة السرير”، وذُكر أن سرير النبي – صلى الله عليه وسلم- كان يوضع عندها، حتى ظنّ ابن فرحون أنّ هذه الأسطوانة هي عينها أسطوانة التوبة، لكن يبدو أن السرير كان يوضع بين الأسطوانتين، لأنه كان يوضع “وراء أسطوانة التوبة” يعني أمام الأسطوانة الشرقية، وهذا يجمع بين الاسمين.
وقد يكون ما أورده صاحب الذخائر القدسية من أنّ النبي كان يعتكف وراء أسطوانة التوبة من ناحية القبلة يساعد على هذا الجمع بين التسميات.
الخباء والخلوة الصحيحة
ومعروف من خلال كتب الحديث أن اعتكاف النبي – صلى الله عليه وسلم كان في خباء، وهو قبة تشبه الخيمة، وهذا أعون على الخلوة، والانصراف إلى الله، والانقطاع عن الشواغل الخارجية، وفي هذا تمام السكينة بمناجاة الحق سبحانه.
ونستعير من الإمام ابن القيم هذه الكلمات التي يتحدث فيهن عن خلوة المعتكف بأن الله تعالى: “شرع لهم الاعتكاف، الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولى عليها بدلها، ويصير الهم به كله، والخطرات كلها بذكره، والفكرة في تحصيل مراضيه. فيصير أنسه بالله بدلًا من أنسه بالخلق. فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم”.
فأما خباء النبي – صلى الله عليه وسلم- الذي كان يتخذه فهو “قبة تركية على سُدَّتِها قطعة حصير” على حد تعبير أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في صحيح ابن خزيمة، ويفسر لنا الرواة ذلك بأنها قبة خوص بابها من حصير. ويقول القرطبي في المفهم: “في قبة تركية: هي قبة صغيرة من لبد”، واللَّبَدُ: هو الصوف المتبلّد.
ولا شك أن اختيار الخوص والحصير واللباد، مع وجود أنواع القماش، يوحي بالتقشف والتقلل من المتاع، وهذا مناسب للخلوة بالجليل سبحانه.
وقت اعتكافه صلى الله عليه وسلم
أمّا عن وقت اعتكاف النبي – صلى الله عليه وسلم- فالثابت الذي لا ريب فيه ولا اختلاف أنه اعتكف في رمضان، وأنه قضى الاعتكاف مرة في شوال، وكذلك الثابت أنّ آخر الأمر هو اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان، وهو المستفاد من حديث عائشة الآنف: “أن النبي – صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى”.
إلا أنّ الأمر الذي تتداوله الرواة هو أنه – صلى الله عليه وسلم- اعتكف أولًا في العشر الأوائل، ثمّ في العشر الأوسط، يدل على ذلك حديث أبي سعيد عند ابن خزيمة والطبراني أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأول من رمضان، ثمّ اعتكف العشر والأوسط، وذلك التماسًا لليلة القدر، فلما أوحى إليه أنها في العشر الأواخر مكث العشر الأواخر، ثم ظل على اعتكاف هؤلاء العشر حتى توفاه الله، ومثل هذا روي عن أم سلمة عند الطبراني أن النبي – صلى الله عليه وسلم-، اعتكف أول سنة العشر الأُوَل، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم اعتكف العشر الأواخر، وقال: “إني رأيت ليلة القدر فيها فأُنْسِيتها” فلم يزل يعتكف فيهن حتى قبض – صلى الله عليه وسلم-.
وفي هذه الأحاديث ما يشعر بجد النبي وصحابته في طلب ليلة القدر، وفيه ملمح تربوي، يلفت إلى جدية طلب الخيرات، وعدم اليأس من البحث عن الهدى وتحري الفضائل، وقد يستنتج منها حكم فقهي وهو اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف، وهو مذهب جماهير السلف وأكثر الصحابة، وبه أخذ أبو حنيفة ومالك، وهي الرواية المعتمدة عند المتأخرين من الحنابلة، وهو الصواب الذي نميل إليه.
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عائشة – رضي الله عنها- قالت: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه”، وهذا لفظ صريح في أنه كان يدخل المعتكف بعد صلاة الفجر، لا قبلها، وعند البخاري: “فكنت أضرب له خباء، فيصلي الصبح ثم يدخله”.
وقال مالك والشافعي وأحمد: يدخل في الاعتكاف قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر بعينه، وهو مذهب أصحاب الرأي.
وتمسك بهذا الظاهر بعض المتأخرين، وأحسنوا، قال العلامة الصنعاني في (سبل السلام) بعد ذكر الحديث: “فيه دليل على أن وقت الاعتكاف بعد صلاة الفجر، وهو ظاهر في ذلك، وقد خالف فيه من قال إنه يدخل المسجد قبل طلوع الفجر إذا كان معتكفًا نهارًا، وقبل غروب الشمس إذا كان معتكفًا ليلًا، وأول الحديث بأنه كان يطلع الفجر وهو في المسجد، ومن بعد صلاته الفجر يخلو بنفسه في المحل الذي أعده لاعتكافه”.
وأما خروج النبي – صلى الله عليه وسلم- من معتكفه فلم أقف على شيء صحيح صريح في التوقيت، إلا أنه يبدو أن السنَّة كانت الخروج من المعتكف إلى الصلاة، يعني صلاة العيد، قال إبراهيم: “كانوا يحبون لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في المسجد ثم يغدو من المسجد إلى المسجد”.
الهدي النبوي في المعتكف
وفي اعتكاف النبي – صلى الله عليه وسلم- قيم تربوية عظيمة، فهو التعبير عن الشوق إلى الله واللجوء إلى حماه سبحانه وتعالى، والاشتغال به عمّن سواه، لا يخلو وقته عن عرض القرآن ومدارسته مع جبريل عليه السلام، أو الصلاة وقراءة القرآن، وألوان العبادة الروحية، يشغله ذلك عن عيادة المريض وشهود الجنائز، لأن السنَّة على المعتكف ألا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأته، ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة، إلا لما لا بد منه. فإذا كان لا بد له من عيادة مريض عاده مارًا عليه، دون أن يعرج عليه، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، حتى إنه كان إذا أراد أن يمتشط أخرج رأسه من المعتكف إلى حجرة عائشة فمشطته، ولا يخرج بدنه.
لذلك نقل ابن المنذر وغيره إجماع العلماء على جواز خروج المعتكف للبول والغائط، وهي حاجة الإنسان، وفي حكمه الطعام والشراب، إن لم يتمكن من أن يكلف غيره بذلك أو من اصطحابه في المسجد إن لم يؤذَ المسجد أو المصلين بذلك.
إلا أن هذا العكوف المبارك لم يمنع النبي – صلى الله عليه وسلم- من بعض المباحات التي فعلها تشريعًا لأمته وبيانًا لجوازها، مثل السَّمَر مع ضيوفه ساعة بالنهار أو بالليل، وبخاصة زوجاته، فهو قد استقبل زوجه أم المؤمنين صفية بنت حيي، فسمرا معًا ساعة، ثم قال لها: “لا تعجلي حتى انصرف معك، فمشى معها حتى بلغا باب المسجد”.
قال الحافظ: “وفي الحديث من الفوائد جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة من تشييع زائره والقيام معه، والحديث مع غيره، وإباحة خلوة المعتكف بالزوجة، وزيارة المرأة لمعتكف”.
ولم يختلف أحد في جواز الاشتغال بالمباحات بعض الوقت، لكن مع التأكيد أن الاعتكاف، في أصله، خلوة بالله تعالى، فينبغي أن يقلل المرء مما يشغله عن ربه، وهذا كان دأب النبي – صلى الله عليه وسلم-.
ويستفاد من الأحاديث الصحيحة المروية في الاعتكاف النبوي أنه كان يقود المعتكفين إلى الخير، ولا يمنعه اعتكافه من أمرهم بالمعروف، وتعريفهم بالصواب، فقد روى الإمام أحمد وغيره أن الصحابة، وهم معتكفون مع النبي قرأوا القرآن، فكل منهم قرأه بصوت مرتفع، فأخرج النبي رأسه من خبائه: وقال لهم: “ألا إن كلكم مناجٍ ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة” (أخرجه أحمد والنسائي).
وهذا يدل على أنّ القائد لا يتخلى عن موضع القيادة، والدأب في مصلحة أصحابه حتى في لحظات الخلوة بربه، لأنّ أبواب الخير لا يدفع بعضها بعضًا، وإنما يشد بعضها بعضًا.
قضاء الاعتكاف
إن اعتكاف النبي – صلى الله عليه وسلم كان نموذجًا لمن أراد أن يتأسى ويسير على الخطى، بل حتى في ترك هذه السنة لعذر كان القضاء في أقرب فرصة، وهو ما حدث مع خير البشر، لما نقض اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان قضاه في شوال.
وقد صنع ذلك كُلّما اضطر إلى ترك الاعتكاف، فروى الترمذي عن أنس أن النبي – صلى الله عليه وسلم- لم يعتكف عامًا في رمضان، فلمّا كان في العام المقبل اعتكف عشرين والظاهر أنّ سبب تركه للاعتكاف هذا العام كان لعذر السفر، فقدر روى النسائي وابن حبان رواية واضحة في ذلك عن أبي بن كعب: “أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فسافر عامًا فلم يعتكف، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين يومًا”.
هذا هو دأب النبي الكريم في كل العبادات، وهو مشعر بمدى وده – صلى الله عليه وسلم- للعبادة، وحرصه على اتصاله بها، واتصالها به، وتفانيه في العطاء من نفسه لرضا ربه، وفيه ما فيه من الزاد لمَن خلفه من المُحبّين، وورثة علمه من العاملين المخلصين.
المصادر:
- أبو محمد عبد الحق بن عطية الغرناطي، تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز)، ص 208.
- الجرجاني: التعريفات، ص 38.
- فاطمة محجوب: الموسوعة الذهبية، 4/138·
- ابن القيم: زاد المعاد، 2/87.