إنّ احترام الوالدين قاعدة تربوية راسخة مُنذ بدء الخليقة، فهي سلوك يرتبط بالتربية التي مارسها البشر مُنذ نزل سيدنا آدم وحواء إلى الأرض، وحرصا على تربية الأبناء تربية صالحة طيبة، ولكن رغم حرص الكثير من الآباء والأمهات على غرس القيم الحميدة في نفوس أبنائهم، وتعليمهم المبادئ الإسلامية الصحيحة، فإنّ تصرفات الكثير من الأبناء غير سويّة في التعامل معهم.
إن الطفل يولد كالصفحة البيضاء لا يدري من أمور الدنيا شيئًا ولا يملك في لحظات عمره الأولى سوى القدرة على الصراخ والبحث عن الحنان، بينما يبدأ الأبوان رحلة التربية وكلنا آمال عريضة أن ننشئ أطفالا أصحاء جسديا ونفسيا، ولكن مع الأسف كثيرًا ما نخطئ خلال هذه الرحلة الصعبة، بسبب الجهل أحيانا وبسبب اليأس أحيانا أخرى، ونرفع سريعا الراية البيضاء متهمين الطفل البريء بعيوب في طباعه لا يمكن تغييرها(1).
احترام الوالدين في الإسلام
أوجب الله- سبحانه تعالى- احترام الوالدين وبرهما وتوقيرهما وخفض الجناح لهما ومعاملتهما ومخاطبتهما بما يقتضي ذلك، فبر الوالدين من الأمور البديهية التي دعا إليها الإسلام بشكل خاص، وأقرته جميع الشرائع الأخلاقية السامية، فلا أحد يستحق الإحسان والبر والعطف أكثر من الأمهات والآباء الذين سهروا على راحة أبنائهم، وحرموا أنفسهم من ملذات الدنيا ليمنحوهم حياة كريمة تليق بهم.
لذا حرم الإسلام تحريمًا غليظًا كل ما يقتضي خلاف ذلك، فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[النساء: 36].
وشدد في أمر الإحسان في مخاطبة الوالدين باللين والقول الحسن بقوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:23-24].
وهو التغليظ الذي أكد معانيه النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله: “رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ](صحيح مسلم).
وشدد النبي الكريم على أدب مخاطبة الوالدين وعدم التسبب في إيذائهما فقال فيما رواه عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه-: “من الكبائرِ شتمُ الرَّجلِ والدَيْه، قالوا: يا رسولَ اللهِ! وهل يشتُمُ الرَّجلُ والدَيْه؟ قال: نعم، يسُبُّ أبا الرَّجلِ؛ فيسُبُّ أباه؛ ويسُبُّ أمَّه؛ فيسُبُّ أمُّه” (أخرجه البخاري)(2).
وسائل احترام الوالدين
الوالدان يسعدان بسعادة أبنائهما، ويفرحان لفرحهما، ولا تسعهما الدنيا حينما تنطلق منهم ضحكاتهم، ولا يحتاجون منهم إلا الإحسان وبرهما بعد كل ما قدموه من أجلهم.
إن احترام الوالدين وبرهما يكون بطاعتهما وتوقيرهما، والدعاء لهما، وخفض الصوت عندهما، والبشاشة في وجوههما، وخفض الجناح لهما، وترك التأفف والتضجر عندهما، والسعي في خدمتهما، وتحقيق رغباتهما، ومشاورتهما، والإصغاء إلى حديثهما، وترك المعاندة لهما، وإكرام صديقهما في حياتهما وبعد موتهما.
ولا بد من تقليل الخلاف الواقع بينهما، بالنصح والتذكير قدر الاستطاعة، والاعتذار للمظلوم منهما، وتطييب خاطره وترضيته بالقول والفعل، وودهما دائمًا وزيارتهما بغير انقطاع عنهما بل وتفقد حالهما، وتجنب كل ما يغضبهما أو يحزنهما، ما لم يترتب على ذلك إثم أو معصية لله، والدعاء لهما دائما(3).
هل على المسلم نصح والديه؟
نصح الأب أو الأم ليس من العقوق في شيء، بل هو من جملة احترام الوالدين والإحسان إليهما، ودعوتهما إلى الحق، وإرشادهما للخير، وجلب المنفعة إليهما، وتحذيرهما من المعصية، ومما يشيع البغضاء. لكن يتعين على الأبناء في نصْحِهما الرفق، والشفقة الزائدة، والإحسان، والتحبب، مع الأدب الجم، وسلوك أحسن الطرق وأرق الأساليب، والحذر من المعاملة الخشنة، أو فيما نهى الله عنه.
وعندما يأمرهما بمعروف أو ينهاهما عن منكر فالوالدان من جملة من أمر الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ووجوب برهما وطاعتهما لا يمنع من نفعهما بالنصح، فقد سُئل الحسن عن الولد يحتسب على الوالد، قال: “يعِظُه ما لم يغضب، فإن غضِب سكت عنه”.
ويقول ابن مفلح الحنبلي: إذا رأى أباه على أمر يكرهه يعلِّمُه بغير عنْف ولا إساءة، ولا يغلظ له في الكلام وإلاَّ تركه، وليس الأب كالأجنبي(4).
الصحابة وبر آبائهم
ليس فقط على الوالدين النصح والدعوة والتوجيه وحسن التربية للأبناء، بل وجب على الأبناء احترام الوالدين وحسن النصح إليهما ومصاحبتهما بالحسني كما أمر الله سبحانه: {وَصَاحِبْهُمَا فِى ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15).
وكان الصحابة نموذجًا طيبًا في حسن مصاحبة والديهم وبرّهما حتى مَن كان منهم على ملة الكفر، رجاء هدايتهم، حتى إن بعضهم كانوا يرجوا النبي أن يدعو الله لوالديه بالهداية.
فهذا أبو هريرة- رضي الله عنه- إذا دخل على أمه (وكانت كفيفة) يقول لها: “رحمك الله كما ربيتني صغيرا”، فتقول أمه له: “وأنت رحمك الله كما بررتني كبيرًا”.
وهذا مصعب بن عمير الذي حرص على إخفاء إسلامه عن أمه، حتى لا يضايقها، وكان دائمًا ما يدعوها إلى عبادة الله وترك الأوثان، وكان يدعو الله لها، وكان يقول لها: “يا أمة إني لك ناصح عليك شفيق، فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله”(5).
آداب مخاطبة الوالدين
احترام الوالدين والإحسان إليهما خُلُق عظيم، وبغيره تضطرب الحياة الاجتماعية، واللين لهما في الخطاب، والتبسط لهما من الأمور التي حثّ عليها الشّرع الحنيف، بل وشدد في حسن مخاطبتهما، ومن أبرز آداب التعامل مع الآباء والأمهات:
- مخاطبتهما بألفاظ الاحترام والتوقير، مع خفض الصوت، والاستماع لهما، وعدم مقاطعتهما، وتجنب الكلمات والعبارات التي قد تجرحهما وتضايقهما.
- إلقاء السلام عليهما عند الدخول والخروج، وعدم حدّ النظر إليهما.
- الدعاء لهما مع إظهار الود، وإكثار الشكر لهما على ما قاما في حقك.
- التعظيم لهما وتبجيلهما وإنزالهما منزلتهما الرفيعة العالية، والتأدب معهما غاية الأدب.
- التبسط معهما في الحديث والنزول به لمستوى فهمهما، مع وضوح الكلمات، ولين الحوار.
- ألا يرفع نفسه عليهما أو يقدم ذاته أنه أعلم منهما، وألا يتفاخر أمامها أنه أفضل منهما وأنهما أقل منه علمًا أو ذكاء.
- عدم العبث بالجوال في حضرتهما، والإنصات لحديثهما والتفاعل معه، مع تقبل رأيهما، والنظر إليهما مباشرة بتذلل، مع المدح والإشادة الدائمة لهما.
- مشاركتهما الأخبار المفرحة، وعدم نقل الأخبار السلبية إليهما، والحديث والتذكير الدائم بإنجازاتهما في الحياة.
- تجنب الأحاديث الجانبية في حضورهما، وعدم مقاطعتهما وتركهما يسترسلان في حديثهما، والسيادة لهم في حضورهما وإظهار ذلك أمام الجميع حتى الأحفاد.
- عدم المشي قبلهم أو أمامهم إلا أن يخاف الأذى أو الضرر عليهما، وعدم الأكل قبلهما، وعدم مد الرجل أمامهم أو إعطائهما الظهر، مع مناداتهما بأحب الأسماء إليهما(6).
إن احترام الوالدين وحسن مخاطبتهما من أهم الواجبات والفرائض على كل إنسان، وأقل ما يقال فيه أنه أمر رباني، وواجب إنساني، وسلوك أسري راق، ومظهر للوفاء والرحمة والتقدير، وهي أقل ما يجب نحو الوالدين.
المصادر والمراجع:
- سارة حجاج: الأخطاء العشرة فى تربية الأطفال، 12 يناير 2012.
- وجوب مخاطبة الوالدين باحترام: 17 أكتوبر 2000.
- كيف يبر المسلم والديه؟: 15 يوليو 2003.
- خالد عبدالمنعم الرفاعي: هل النصيحة للوالدين تعد عقوقًا؟: 3 نوفمبر 2015.
- فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ: صور من بر الصحابة بآبائهم وتربيتهم لأبنائهم، 15 أكتوبر 2018.
- خالد بن جمعة بن عثمان الخراز: موسوعة الأخلاق، طـ 1، مكتبة أهل الأثر، الكويت، 2009، صـ 343.