الشبهات برزخ بين الحلال والحرام، وهي الأمور المشتبهة التي لا تتبين أنها حلال ولا حرام لكثير من الناس، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يتبين لبعض الناس أنها حلال أو حرام لما عنده من مزيد علم، وجاء في لسان العرب: الشبهة: الالتباس، واشتبه الأمر: أي اختلط. والأمور المشتبهة: هي الأمور المشكَلة بعضها على بعض.
اتقاء الشبهات في الكتاب والسنة
روى الإِمام البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فمَن تَرَكَ ما شُبِّهَ عليه مِنَ الإثْمِ، كانَ لِما اسْتَبانَ أتْرَكَ، ومَنِ اجْتَرَأَ علَى ما يَشُكُّ فيه مِنَ الإثْمِ، أوْشَكَ أنْ يُواقِعَ ما اسْتَبانَ، والمَعاصِي حِمَى اللَّهِ مَن يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يُواقِعَهُ)).
وعند الإِمام مسلم: ((الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ وبينَهُما مشتَبِهاتٌ لا يعلمُها كثيرٌ منَ النَّاسِ فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرَأ لدينِهِ وعِرضِهِ ومن وقعَ في الشُّبُهاتِ وقعَ في الحرامِ كالرَّاعي حولَ الحِمى يوشِكُ أن يرتَعَ فيهِ ألا وإنَّ لِكُلِّ ملِكٍ حِمَى ألا وإنَّ حِمَى اللَّهِ محارمُهُ ألا وإنَّ في الجسَدِ مُضغةً إذا صلُحَتْ صلُحَ الجسَدُ كلُّهُ وإذا فسَدَت فسَدَ الجسَدُ كلُّهُ ألا وَهيَ القَلبُ)).
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات هناك من الناس من يعلمها وكثير منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان:
أحدهما: يتوقف فيها لاشتباهها عليه.
والثاني: يعتقدها على غير ما هي عليه.
فمن اتقى الشبهات واجتنبها فقد حصّن عرضه من القدح والشين، ومن ارتكب الشبهات فقد عرّض نفسه للقدح فيه والطعن، كما قال بعض السلف: من عرّض نفسه للتهم فلا يلومنّ من أساء الظن به. وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه واقفاً مع صفية: ((إِنها صفية بنت حيي)).
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يبيع الرجل من الشبهة ولا يشتري الثوب للتجمل من الشبهة.
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: ((إِني لأنقلب إِلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها)).
وأخرج الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس)).
وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (إِني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها).
وصلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإِن كان قلبه سليماً ليس فيه إِلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله وخشية الله والوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات. (جامع العلوم والحكم).
وهناك شبهات أخرى تثار وتفترى وتزين كما جاء في القرآن الكريم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} [ آل عمران: 71 ].
شبهات كيدية: تثير الشك والارتباك في صدق حقيقة الدعوة إِلى الله والقائمين عليها وهى سنة الله في العباد: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)} [ فصلت: 4 ].
وفضح القرآن الكريم الباعث عليها: {لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [ الأنعام: 137 ].
ومن الشبهات الكيدية: ما يتعلق بالأشخاص القائمين على الدعوة إِلى الله، بقصد تنفير الناس منهم وعدم الثقة فيهم، وذلك بالطعن في شخصه وسيرته وسلوكه، وإِلصاق التهم به، كأن يقال إِن له اتصالاً مشبوهاً {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ} [ الفرقان: 4 ].
– ومنها ما يتعلق بالمنهج بتهمة الابتداع والتشكيك في مرجعية الدعوة.
– ومنها ما يتعلق بالعامة بإِظهار الحرص عليهم وعلى مصالحهم وبإِثارة حماس الناس ضد الدعاة إِلى الله. (أصول الدعوة د. عبد الكريم زيدان).
كيف نتعامل مع الشبهات
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [ الإِسراء: 36 ].
هذه الكلمات القليلة تقيم منهجاً كاملاً للقلب والعقل؛ فالتثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإِسراء: 36]. لا تتبع ما لا تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبت من صحته من قول يقال ورواية تروى، من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة، ولا ينقل رواية ولا يحكم العقل حكماً ولا يبرم الإِنسان أمراً إِلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هناك شك ولا شبهة في صحتها. (مختصراً من [في ظلال القرآن] للأستاذ سيد قطب).
وسائل عملية
1- الرد إِلى الله والرسول، وذوي الرأي والحجة، كما قال سبحانه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
2- الإِصغاء الجيد والمراجعة إِذا لزم أو أشكل الأمر: عليّ رضي الله عنه يعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر ثم يقول: ((اذهب فقاتل حتى يفتح الله عليك ولا تلتفت)) ويشعر عليّ رضي الله عنه بعد مضيه لأداء مهمته أن التكليف الذي كلف به غير واضح في ذهنه فيعود بظهره امتثالاً للأمر ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: علام أقاتل الناس ؟ فيرد النبي صلى الله عليه وسلم: ((قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إِله إِلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإِن فعلوا ذلك فقد منعوا منا دمائهم وأموالهم إِلا بحقها وحسابهم على الله)) رواه البخاري.
3- الجمع بين كل الأطراف مع المواجهة: ((إِن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك فإِذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإِنه أحرى أن يتبين لك القضاء)) أخرجه أبو داود وأحمد. قاله صلى الله عليه وسلم لعليّ حين بعثه قاضياً على اليمن. (آفات على الطريق – د. سيد نوح).
4- السؤال والمناقشة لصاحب الشأن: وخير ما يوضح ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مع حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إِلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وأطلع الله عز وجل نبيه على الأمر، وجيء به إِليه صلى الله عليه وسلم إِذ دعاه النبي وسأله قبل أن يقضي في أمره قائلاً: ((يا حاطب ما هذا ؟)) فقال: يا رسول الله لا تعجل علىّ إني كنت امرءاً ملصقا في قريش (أي: حليفاً لهم)، ولم أكن من أنفسها، وكان معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم، فأحببت إِن فاتنى من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإِسلام، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((أما أنه قد صدقكم))، ولما استأذن عمر رضي الله عنه قائلاً: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، رد عليه صلى الله عليه وسلم قائلاً: ((لعل الله قد اطّلع على من شهد بدراً فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) رواه مسلم في فضائل حاطب بن أبي بلتعة.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.