اهتم المفكرون والفلاسفة المسلمون بالدراسات التربوية والنفسية التي عنيت بالطبيعة البشرية وَفق المنهج الإسلامي، ومنهم العلامة ابن مسكويه الذي كان له دور في تأصيل العلوم التربوية الإسلامية وأكسبها فاعلية في التطبيق والتأثير، لذلك حققت تقدمًا كبيرًا في المجال التربوي الذي يغرس في المرء الفضائل والمبادئ السليمة في الحياة الاجتماعية.
ولقد تأثر هذا العالم الجليل بفلاسفة اليونان ما جعله يُحاول أن يمزج أفكاره بثمار نتاجهم دون الإخلال بقواعد الأخلاق الإسلامية التي آمن أنها تدعو إلى المحبة والحكمة والخير والفضيلة والعدل.
من هو ابن مسكويه؟
هو أبو علي الخازن أحمد بن محمد بن يعقوب المشهور بلقب ابن مسكويه نسبة إلى المسك، ويُسمى – أيضا- في كتب التراث بمشكويه وهي مدينة قرب الري.
ولد أحمد في بلاد فارس بمدينة الري في عام 320هـ، وطلب العلم بهمة عالية ووجد غرامه في القراءة والإطلاع على كتب الأدب والتاريخ والكيمياء والفلسفة، وفي بغداد دخل قصور الوزراء فكانوا يستعينون به ويثقون فيه ويستشيرونه.
ثم اتصل بابن العميد وأخذ من أدبه، وأصبح خازنا للكتب في مكتبة عضد الدولة بن بويه فزاد اطلاعه وتوسّعت دائرة ثقافته وتوثقت علاقاته بأركان الفكر في عصره واستقلت شخصيته، وبرع في الأدب والفلسفة والتاريخ والأخلاق، واهتم بالكيمياء ويُقال إنه حاول أن يصنع الذهب فلم يفلح.
كان الخازن في ذلك العصر يحتفظ بالكتب ويرمم شعثها ويبذلها للمحتاج إليها ويسهل استعارتها للفقراء وعلى الخازن أن يراعيهم أكثر من الأغنياء، وليس للخازن أن يُعير الكتاب إلا برهن.
وقد كان أحمد شديد التأثر بفلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو وبروسن وجالينوس، وحاول في كتاباته الجمع والتوفيق بين الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية، فكانت ثقافته هي خليط من ثقافة العرب والهند والفرس واليونان، وقرأ كتب الفلاسفة وثقافة الفلسفة اليونانية ونقل الكثير من آراء فلاسفتهم وتبنّاها في مناقشاته.
وقد شكّل النموذج السياسي عند الفرس قبل الإسلام الكثير من آراء هذا العالم المسلم، فيما يتصل بالتربية السياسية فأبرز ملامح العدل وتطبيقاته من الشواهد الإسلامية وألحقها ببعض النماذج الفارسية طبقًا للتجربة الساسانية.
وسار على نهج الفلاسفة في تبني أفكاره وربطها بأدبياتهم ومناقشاتهم وآمن أن الشريعة الإسلامية وشعائرها تشتمل على منهج واضح في رياضة النفس وتهذيب الخُلُق وأنها تعلي من شأن العقل وهي بذلك تنسجم مع معطيات الفلسفة.
وقد تعرض للنقد من أبي حيان التوحيدي في كتاب “الإقناع والمؤانسة”، فقال عنه إنه قصير الباع في الفلسفة النظرية لانشغاله عن تحصيلها بالاهتمام بالكيمياء وانشغاله بخدمة الحاكم بخزانة كتبه، ومع ذلك فقد قال عنه إنه ذكي، حسن الشعر، نقي اللفظ، وقد تُوفي هذا العالم في أصفهان عام 421هـ.
الفلسفة التربوية عند ابن مسكويه
ومن خلال مطالعة كتابات ابن مسكويه يُمكننا ملاحظة فلسفته التربوية بوضوح وذلك على النحو التالي:
اهتم ببيان اختلاف الفلاسفة في فهم طبيعة النفس البشرية، وتساءل هل هي مطبوعة على الخير أو الشر؟ وآمن بقدرة التربية على التغيير، ويُطلق على التربية اسم التأديب والتقويم والتهذيب والسياسة، ويقول: “والشريعة هي التي تُقوّم الأحداث وتعودهم الأفعال المرضية وتعد نفوسهم لقبول الحكمة وطلب الفضائل والبلاغ إلى السعادة الإنسانية بالفكر الصحيح والقياس المستقيم، وعلى الوالدين أخذهم بها وبسائر الآداب الجميلة بضروب السياسات من الضروب إذا دعت إليه الحاجة أو التوبيخات إن صدتهم أو الإطماع في الكرامات أو غيرها مما يميلون إليه من الراحات أو يحذرونه من العقوبات. حتى إذا تعودوا ذلك واستمروا عليه مدة من الزمان كثيرة أمكن فيهم حينئذ أن يعلموا براهين ما أخذوه تقليدًا”.
وآمن أنّ هناك فروقًا فردية بين الناس ويجب أن يراعي المعلم ذلك، فتحدث عن مراتب الناس في قبول الأخلاق الفاضلة.
رأى أن فلاسفة اليونان ومدارسهم الفلسفية من أبرز المدارس الإنسانية التي حاولت سبر أغوار النفس وتحليلها تحليلًا فلسفيًّا، ومن هذه المدارس المدرسة الرواقية: Stoicism والرواقية تاريخيًّا مذهب فلسفي أنشأه الفيلسوف اليوناني زينون السيِّشيومي (336-264ق.م). سموا بالرواقيين لأن معلمهم زينون كان يُعلّمهم في رواق، والرِّوَاقُ سقف في مقدم البيت.
يؤمن الرواقيون كما يقول هذا العالم، بأن الناس كلهم يخلقون أخيارًا بالطبع، ثم بعد ذلك يصيرون أشرارًا بمجالسة أهل الشر والميل إلى الشهوات الرديئة التي لا تقمع إلا بالتأديب فينهمك فيها ثم يتوصل إليها من كل وجه ولا يفكر في الحسن والقبيح منها، ويؤمن الرواقيون بوحدة الوجود وأنه ليس في الوجود إلا المادة، وقد انتقد في بعض هذه الأفكار.
والحديث عن مصاحبة الأخيار والأشرار المبثوث في كتابات هذا العالم المسلم، فيه دلالة على فهم فلاسفة المسلمين لأهمية الدور الاجتماعي والبيئة المحيطة، وبخاصة جماعة الرفاق في عملية التنشئة.
ويشير “أحمد” إلى ناحية تربوية مهمة في التعامل مع الصبي وهي أن نمدحه على كل ما يظهر منه من خُلُق جميل وفعل حسن ونكافئه عليه، وإن حدث منه مخالفة فالأولى ألا يُوبخ عليها ولا يكاشف بها بل يتغافل عنها، سيّما إذا حاول إخفاءها، ذلك أنه إذا تعوّد على التوبيخ والمكاشفة حَمَلَه ذلك على الوقاحة وحرّضه على معاودة ما كان قد استقبحه، وهان عليه سماع الملامة في ركوب القبائح التي تدعو إليها نفسه.
وبالنسبة لأدب العلم والتعلم يقول: إنه ينبغي أن يعود الصبي على خدمة نفسه ومعلمه وكل من كان أكبر منه، وأن يعود على طاعة والديه ومعلميه ومؤدبيه وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والتعظيم، وفي تلقيه العلم من أستاذه عليه ألا يعترض ولا يسأل بل يكتفي في بداية أمره بالقبول حتى إذا بلغ في العلم شأنا يمكنه من معرفة الأسباب والعلل طالع الحكمة فوجدها موافقة لما تقدمت عادته به فاستحكم رأيه وقويت بصيرته ونفذت عزيمته.
وينبغي أن يؤذن للصبي في بعض الأوقات أن يلعب لعبا جميلا ليستريح إليه من تعب الأدب ولا يكون في لعبه ألم ولا تعب شديد. وقد نقل الغزالي هذا القول عن ابن مسكويه وردده في كتابه إحياء علوم الدين.
وتعرّض بتفصيل كبير إلى آداب الأكل والطعام، فأشار إلى عدة مبادئ مهمة منها أنّ يُوضح للنشء أن الأطعمة إنما تراد للصحة لا للذة أي أننا نأكل لنعيش ولا نعيش لنأكل، وهو مبدأ صحي وأخلاقي سليم فالأطعمة والأغذية شبيهة بالأدوية نداوي بها الجوع كما نداوي بالأدوية المرض.
ومن آداب الطعام – أيضًا- أن يعلم الصبية إذا جلسوا مع غيرهم على مائدة الطعام ألا يبادروا إلى الطعام أولا، وألا يديموا النظر إلى أنواعه الموجودة، ولا ينبغي لهم أن يتسرعوا في الأكل أو يضخموا الكمية المتناولة، وينبغي عليهم أن يمضغوا الطعام جيدا ولا يبادروا ببلعه، ولا ينبغي للصبي أن يلطخ يده أو ثوبه بما يتناوله من طعام.
ويشير إلى الشعوب العربية والإسلامية، وهي ألا يجعل غذاءه الرئيسي نهارا لأن ذلك يحمله على الكسل ويلجئه إلى النوم ويتبلد ذهنه وفهمه، وإنما يستوفي غذاءه بالعشي، لأن هذا أصح له وأنسب بعد عناء يومه، ومن الواضح أنّ هذا على نقيض ما تجري عليه عادة الكثيرين منا من جعل وجبة الغذاء الرئيسية في منتصف النهار.
وينصح بمنع الصبي من الإكثار من أكل اللحم، وإن منع منه في أكثر أوقاته كان أنفع له حتى لا يتعود على الترف، أما الحلوى فيمنع منها البتة إن أمكن وإلا فليتناول القليل منها لأنها تستحيل في بدنه فتكثر انحلاله كما أنها تعوده على الشره والاستكثار من الأكل، وهذا عكس ما يفعله كثيرون منا مع أبنائهم إذ يغمرونهم باللحوم من مختلف الأنواع وبالحلوى من مختلف الأشكال والمذاق.
وبالنسبة إلى آداب اللباس يشير بألا يتزين الصبي بملابس النساء، ولا يلبس الخليع منها، ولا يفتخر على أقرانه بشيء من مأكله وملبسه ولا بما يملكه والده. ويجب أن يعوّد الصبي على التواضع وكرم المعاشرة وعدم الكذب وعدم الحلف باليمين البتة سواء كان صادقا أم كاذبا. ويجب أن يعود الصمت وقلة الكلام. ويمنع من خبيث الكلام ومن السب واللعن ولغو الكلام.
التربية الأخلاقية
إنّ كتاب “تهذيب الأخلاق”، من أهم الآثار العلمية التي تركها ابن مسكويه في هذا الميدان، وفيما يلي جملة من الآراء التربوية الأخلاقية التي أشار إليها في هذا الكتاب:
- حب الناس لبعضهم واجب لأنهم أعضاء لبدن واحد وقوام الإنسان بتمام أعضاء بدنه فكل واحد يتمم الآخر.
- الأخلاق تتكون من أربع فضائل وهي: الحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة، وهي مصدر سائر الفضائل، وأضداد هذه الفضائل: الجهل، والشره، والجبن، والجور.
- وربط بين الأخلاق السيئة والأمراض النفسية مثل: الخوف، والحزن، والغضب.
- استخدم كلمة التهذيب وتأديب وتقويم بمعنى التربية.
- حذّر مِن أن يسمع الطفل الشعر الفاحش ونهاه عن الاستكثار من الطعام والانهماك في الملذات.
- اتباع اللذات البدنية الدنيئة تدمر الإنسان، حيث يقول: “والناس مائلون بالطبع الجسداني إلى الشهوات فيكثر اتباعهم”.
يرى أهمية تربية الطفل، وطالب بضرورة وضع المناهج المتنوعة له، لأن المناهج تلعب دورا كبيرا في التأثير في شخصية المتعلم، يقول: “فمن اتفق له في الصبا أن يربى على أدب الشريعة ويؤخذ بوظائفها وشرائطها حتى يتعودها ثم ينظر بعد ذلك في كتب الأخلاق حتى تتأكد تلك الآداب والمحاسن في نفسه بالبراهين. ثم ينظر في الحساب والهندسة حتى يتعود صدق القول وصحة البرهان فلا يسكن إلا إليها ثم يتدرج حتى يبلغ إلى أقصى مرتبة الإنسان فهو السعيد الكامل”.
قرن السعادة بالتربية وأكد أن “الإنسان في ابتداء تكوينه محتاج إلى سياسة الوالدين ثم إلى الشريعة الإلهية والدين القيم حتى تهديه وتقومه إلى الحكمة البالغة ليتولى تدبير نفسه إلى آخر عمره”.
ووفقًا للدكتور أحمد محمود صبحي، فإن هذا العالم المسلم، حاول ترويض النفس على التفكير حتى تصل للذة أكبر من لذّات البدن والمال والسلطان، وتربية الشباب على الفضيلة، ومعرفة نفوسهم وملكاتهم وقواهم وغايتهم وكيفية الوصول للكمال.
ويرى الخازن أحمد وفقًا للكاتب علي رمضان فاضل، أن هناك ثلاث صفات إذا تحلى بها الإنسان كان إنساناً كاملاً، وتلك الصفات من وجهة نظره تُعد من الصفات التي تميزه عن سائر المخلوقات وهذه الصفات هى: التمييز الصحيح، والتفكير الدقيق، وحسن الاختيار.
كما يرى أنّ الإنسان يكتسب الخلق عن طريق التأدب والتعليم والوعظ، فالإنسان له صفات تميزه عن غيره وتلك الصفات يمكن للإنسان أن يصقلها، من خلال الشريعة، فيقول: “الشريعة هي التي تقوّم الأحداث وتعودهم الأفعال المرضية وتعد نفوسهم لقبول الحكمة وطلب الفضائل والبلوغ إلى السعادة الإنسية بالفكر الصحيح والقياس المستقيم، أو من خلال الفلسفة فيقول: “الفلسفة تنقسم إلى قسمين؛ الجزء النظري والجزء العملي، فإذا كمل الإنسان بالجزء العملي والجزء النظري فقد سعد”.
المصادر والمراجع:
- ابن مسكويه: كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص 45.
- تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية .
- محمد منير مرسي: كتاب التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية، ص 336 و
- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، 71/3.