تفرّدت الحضارة الإسلامية عن غيرها من الحضارات بإسهامات علمائها العظام في مجال التربية، ومنهم العالم ابن أبي الدنيا بكتابه العيال الذي وَضع فيه خلاصات تربوية في كيفية التعامل مع العيال والزوجة واليتامى.
ولقد صارت هذه الحضارة بفضل العلماء الذين وضعوا قواعدها، قِبلة للفلاسفة والحكماء والتربويين في أقطار الدنيا، نظرًا للدعائم التي بُنيت عليها، وأهمها: الربّانية، العدل، والمساواة، والأخوّة الإنسانيّة، والشورى، والثبات على الحق، والموازنة بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصّة، والرحمة، والسلام، وغيرها.
ابن أبي الدنيا في سطور
في عصر الخليفة هارون الرشيد وبالتحديد عام 208 هـ، وُلد أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس القرشي، وكنيته ابن أبي الدنيا في مدينة بغداد لأسرة اهتمت بالعلم والعلماء، حيث طلب العلم وهو ابن العاشرة على يد الإمام أحمد بن حنبل وغيره.
وحينما برز كان أحد الذين عُهد إليهم بتربية أبناء الخلفاء، وبخاصة أنه عاش في قرن شهِد تأثيرًا كبيرًا في التطوير الفكري، حيثُ نهضت حركات من الإبداع في الآداب والتراجم المختلفة التي تشرَّب منها “أبو بكر” وأثرت على فكرة تأثيرًا إيجابيًّا وأساسيًّا.
زخرت المكتبة بالكثير من مؤلفاته التي كان لها إسهامات جليلة في إنعاش حركة التأليف وتزكية النفوس والإصلاح والتربية، وقد توفي في عام 281 هـ (1).
ابن أبي الدنيا.. وكتاب العيال
أسهم ابن أبي الدنيا في الحركة الإصلاحية التي استهدفت تربية الجماهير الإسلامية مقتفيًا أثر شيخه ابن حنبل والثوري وغيرهما في الزهد والرقائق والتربية.
وترجع أهمية كتاب العيال إلى كونه عالج مسؤولية العيال، وتضمن الكتاب 674 نصًّا- حسب قول الدكتور نجم عبد الرحمن خلف الفقيه المحدث- جامعًا لكل ما يتعلق بشؤون العائلة وتربيتها من أحاديث مرفوعة، وآثار عن الصحابة والتابعين، وبهذا التوسع الموضوعي الشامل أصبح الكتاب وحيدًا في بابه، فريدًا في استيعابه، وضم بين دفتيه طائفة كبيرة من النصوص النادرة التي قد لا تجدها في كتاب مسند سواه.
وكتاب العيال يُعطينا الصورة الحيّة لما كان عليه المجتمع الإسلامي حينئذ، ذلك المجتمع الذي وَرَثَ الدّين والخُلُق عن مرحلة من أقرب المراحل إلى الهدي النبوي، وهي عهد الصحابة والتابعين، ولم يستمد شيئًا من الثقافة اليونانية، وكذلك ما دوّن في هذا الكتاب لم يكن تأملات فكرية فلسفية وإنما كان رواية وإسنادًا وإخبارًا عمّا قيل أو فُعل.
وتناول الكتاب جانبًا تربويًّا في كيفية اختيار السلفِ الزوجةَ وأساليبِهم في تربية البنات والبنين ماديًّا ومعنويًّا، بل هو منارةٌ أمام المربين يعينهم في حل مشكلات التربية (2).
الجوانب التربوية في حقوق النساء
واستند ابن أبي الدنيا إلى الأحاديث النبوية التي اهتمت اهتمامًا بليغًا بتماسك الأسرة والحفاظ على المرأة، والحثّ على ضرورة القيام على البنات وإعالتهن وتحمل مسؤوليتهن والإحسان إليهن، فعن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ يُؤَدِّبُهُنَّ وَيُزَوِّجُهُنَّ وَيَكُفُّهُنَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ” قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ؟ قَالَ: “وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ” قَالَ: فَرَأَى بَعْضُ الْقَوْمِ أَنْ لَوَ قَالُوا وَاحِدَةً لَقَالَ: وَاحِدَةً] (صحيح).
ولقد تناول “أبو بكر” في كتابه العيال العديد من الجوانب الخاصة بالفتاة والنساء، كالجوانب التربوية المتعلقة بالإحسان إلى البنات من خلال الأحاديث النبوية الشريفة، وأيضا الجوانب التربوية المتعلقة بزواج البنات.
وتضمنت العديد من المفاهيم التربوية كشفقة النبي- صلى الله عليه وسلم- على مَن رُزق بالبنات وذلك لضعفهن، وأيضا حثّ الآباء والأمهات على تزويج بناتهن للأصلح وعلى أساس الكفاءة، وعدم تزويجهن لأصحاب البدع، وترك الخيار لهن لاختيار الزوج والموافقة عليه (3).
قطوف تربوية من كتاب العيال
بعد باب النفقة والإطعام والتعهد بالرعاية والنمو، ينتقل بنا الإمام ابن أبي الدنيا إلى ما يتعلق بالنمو النفسي والروحي والوجداني، فمن ذلك:
- باب في العطف على البنين والمحبة لهم، فعن نافع، قال: كان ابن عمر إذا لقي سالمًا ابنه قبَّلَه ويقول: “شيخ يقبل شيخا”.
- وعن الأشجعي، قال: كنا مع سفيان الثوري فمر ابنه سعيد فقال: “ترون هذا ما جفوته قط، وربما دعاني وأنا في صلاة غير مكتوبة فأقطعها له”.
وأكد صاحب كتاب العيال، أن تلك هي الروح التي كان السلف ينظرون بها إلى الأولاد، فنظرتهم كانت تطبعها الرقة والرأفة والمحبة الشديدة إلى درجة البكاء، ما يشعر الولد أنه محبوب وأنه ذو مكانة في هذه الدنيا، تلك المكانة التي تبدأ من قلب أبيه وأمه، ما يجعله ينظر إلى غيره بالنظرة نفسها (4).
تربية الصغار على الصلاة
بعدما أفرد ابن أبي الدنيا بعض الصفحات عن النفقة والمداعبة والملاعبة، أفرد بعض الصفحات من كتابه حول تعليم الصغار الصلاة، ذلك لأنّ الطفل من العام السابع ينبغي أن يُعوّد الجد والعمل والالتزام، بحسب ما يليق بعمره، وفي هذا من التربية الخلقية والاجتماعية من الفوائد ما لا يعلمه إلا الله، ذلك أنّ الصلاة تُعوّد الطفل الالتزام بالوقت، وتعوده البكور لأجل العمل واستقبال اليوم الجديد بمزيدٍ من الحيوية وانشراح العقل والصدر للدرس.
لقد استفاد كثير من التربويين بما أفرده وجمعه صاحب كتاب العيال في هذا المبحث، وبخاصة في زماننا هذا، حيث أدركوا أن التلاميذ المحافظين على الصلاة في المنزل والمسجد والمدرسة بعيدون كل البعد عن العنف والانحراف داخل المؤسسات التعليمية.
لذا، كانت عبقرية الإمام أن جعل بداية التربية والتعليم، تبدأ بتعليم الصلاة أولًا، فحشد لذلك مجموعة من النصوص، سواء المروية عن النبي- صلى الله عليه وسلم-، أو عن بقية السلف الصالح- رضي الله عنهم-، مثلما روى عن محمد بن عبد الرحمن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مُروا أولادَكم بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سنينَ واضربوهُم عليها وهمْ أبناءُ عشرٍ وفرِّقوا بينهُم في المضاجعِ” (حسن صحيح) (5).
تحفيز تربوي
من الفوائد التربوية الجليلة التي اهتم بها ابن أبي الدنيا في كتابه تشجيع الحذاق (المتفوقون ذاتيا) ويورد في ذلك عن ابن عبد الله بن الحسن بن أبي الحسن قوله: “كان الغلام إذا حذق قبل اليوم نحروا جزورا وصنعوا طعاما للناس”، ولا أحد يجهل قيمة الجزور ونحرها، ولا يجهل أحد قيمة من تنحر له الجزور، وهذا ما يسمى بوليمة “الحذاقة أو التحلية”، وهي من مظاهر الاحتفاء والتكريم والاحتفال بالقرآن أمام ملأ من الجمهور؛ في مناسبة حذق الصبي أو حفظه القرآن.
كما أورد في كتابه- أيضا- ما أورده إسحاق بن إبراهيم الباهلي الصواف، عن عبد الجبار أبو خبيب الكرابيسي، قال: كان معنا ابن لأيوب السختياني في الكتاب فحذق الصبي (أي حفظ القرآن) فأتينا منزلهم فوضع له منبر فخطب عليه ونهبوا علينا الجوز، وأيوب قائم على الباب يقول لنا: “ادخلوا وهو خاص لنا”.
ومن أبرز أنواع التحفيز الذي لا تكتمل التربية والتعليم إلا به، تحفيز المعلم الذي يعلم النشء، وفي هذا الصدد يورد صاحب كتاب العيال، أن المهاجرين كانوا يعرفون حق معلمي أبنائهم، أي: يوقرونهم ويبجلونهم ويحترمونهم، لذلك كان المعلم يقدم على العطاء دون عجز أو كلل (6).
فكر تربوي مع اليتامى
ألحق ابن أبي الدنيا اليتامى أيضا بكتابه، وجعلهم ممن يستحقون العناية والتأديب، ومَن يقوم بذلك له الأجر والثواب إذا كان يهدف لتأديب وتهذيب سلوكيات اليتيم حتى ولو بالضرب غير المبرح، فعَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: “رَحِمَ اللَّهُ مَنِ اتَّجَرَ عَلَى يَتِيمٍ بِلَطْمَةٍ”. وعن شُمَيْسَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ فِي أَدَبِ الْيَتِيمِ: إِنِّي لِأَضْرِبُ الْيَتِيمَ حَتَّى يَنْبَسِطَ.
وطالب بالتكافل الاجتماعي والتراحم بحيث إذا انقطع رب البيت بموته أو سفره تكفل المجتمع بأهله وأولاده وهي سمة لا توجد في المجتمعات غير الإسلامية (7).
أخيرًا
لقد تميّز ابن ابي الدنيا بفكره التربوي في كتابه العيال، ما أهّله لأن يختاره الخلفاء مربيًا لأولادهم لنهجه طريقة مشايخه أمثال أحمد بن حنبل.
واهتم في كتابه بالمفاهيم التربوية بدءًا من اختيار المرء زوجتَه؛ بحيث يتوفر الوعي التام بأهمية المرحلة التي يقبلون عليها، وضرورة توافر الكفاءة بينهما، خصوصًا في الجوانب العلمية الشرعية التي تُسهل سبل العيش بينهما، وضرورة اتخاذ التعاليم الإسلامية دستورًا للحياة الأسرية.
المصادر والمراجع:
- السمعاني: الأنساب، جـ4، دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الهند، 1963م، ص ـ 470- 475، https://waqfeya.net/book.php?bid=11169.
- نجم عبدالرحمن خلف: كتاب العيال، جـ1، المقدمة، دار ابن القيم، 1990م، صـ 20.
- رحاب حسين مصطفى حميدات: الجوانب التربوية في كتاب العيال لابن أبي الدنيا – دراسة وتحليل- كلية الشريعة، جامعة اليرموك، الأردن، 1998م، صـ 14- 23.
- ابن أبي الدنيا: العيال، جـ1 دار ابن القيم، الدمام، السعودية، 1410هـ- 1990م، صـ319، https://waqfeya.net/book.php?bid=4049 .
- صحيح أبي داود، رقم: 495.
- سعد أمختاري: قطوف تربوية من كتاب العيال لابن أبي الدنيا، 10 أبريل 2016،
- ابن أبي الدنيا: العيال، جـ2، صـ 808- 840 بتصرف، https://waqfeya.net/book.php?bid=4049.