السؤال
السلام عليكم، منذ بداية أحداث غزة الأخيرة وأنا أتفاعل مع الحدث بشكل يومي، وأشارك ابني ما يحدث، فتعجب من اهتمامي بالقضية، ويسأل لماذا نهتم بحدث بعيد عنا ولا يحدث على أرضنا، حاولت أن أوضح له مفهوم أن المسلمين كالجسد الواحد، ولكنه يجادلني بشدة، فشعرت بأني أحتاج لمن يساعدني في كيفية توضيح هذا المعنى المهم بشكل يجعل ابني يتفاعل مع الأحداث من منطلق إسلامي لا إنساني كما يفعل الكثيرون.
الرد
السائلة الكريمة، أهلا بك ضيفة عزيزة على موقع المنتدى أو صفحات، نسأل الله أن يبارك في سعيك وغرسك مع ولدك.
ما أجمل المعنى الذي تريدين تنشئة ولدك عليه، وما أنسب الوقت الذي تريدين إيصال هذا المعنى فيه، فقد مضى وقت التربية في أوقات الرخاء، وجاءت هذه الأحداث لتسلط الضوء على قيم ومعان إسلامية كم حاول الأهل العمل على إرسائها وحال بينهم وبين ذلك عوائق شتى.
كم اشتملت الأحاديث على معان تهذب تلك الصفة، وكم زخرت السيرة بمواقف توضح هذا المعنى، والآن نشاهد تطبيقاتها على الأرض، في مسيرات ووقفات ومساعدات طافت أنحاء العالم تعلن غضبها وتنديدها بما يحدث، فصارت البيئة خصبة أكثر لغرس مثل هذه القيم.
بداية، حتى يتفاعل الطفل مع الآخر، يجب أن نعمل على أمرين:-
- إرساء مفهوم تقديره لنفسه أولًا وفهم احتياجاتها وتلبيتها والاعتراف ببشريتنا ومن ثم قبول ضعفنا.
- تعزيز تواصله مع الآخر والحرص على فهمه والتواصل الجيد من خلال المفاهيم الإسلامية،
فبعض الناس ذهبوا في العناية بأنفسهم إلى أبعد مدى، وأعلوا من قيمة تقدير النفس على حساب الآخر حتى وصفوا بما يعرف بـ(الذاتوية)، بما يعني الاهتمام المبالغ بالأنا على حساب حقوق الآخر.
وعلى صعيد آخر، نجد البعض قد تربى على أن الآخر أهم من النفس، فأفرط في منح الآخرين حقوقهم على حساب حق نفسه.
كان نتاجًا طبيعيًا لهذين المنهجين القاصرين الأثرُ السيئُ في استقبال أبنائنا معانيَ الأخوة والإيثار، و فهم حقوق الآخرين، فمن ركز على ذاته لن يفهم أن هناك آخر له عليّ حقوق ومن سحق نفسه لمرضاة الآخر يأتي عليه وقت تكون جل طاقته نفذت في العطاء- الذي قد يكون في غير محله- فلا تكون له همة لتبني قضية كبيرة كما نحن بصدده الآن!
إذًا التوازن في التنشئة بين تقدير الذات وتقدير الآخر، هي الأرض الصلبة التي نقف عليها لنرسي معانيَ الأخوة، يقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم: (تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى)،
لا يفهم الأطفال المعاني المجردة من غير أن يفهموا تطبيقاتها ولعل الجمع بين الحديث السابق وهذا الحديث، يقرب الصورة من أذهان الأطفال أكثر وأكثر، فعن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: (إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا. وشَبَّكَ أصَابِعَهُ”.
اطلبي من ابنك أن يسمي أصابعه بأسماء أهله وجيرانه وأصدقائه، ثم دعيه يتأمل وجودهم منفردين، ثم اطلبي منه تشبيك أصابعه كفعل الحبيب المصطفى، واسترسلي معه في الشرح، كيف بتشابك الأيدي صار هذا الجمع قوة، صاروا كالبنيان المرصوص، هل يسهل هدمه، ماذا لو دفع أحدهم إصبعًا من أصابع يده وهي متفرقة، سيسهل دفعها بلا شك، بينما حينما تتشابك كالجسد الواحد لا يسهل تمزيقها.
هذا ما يفعله الحكام الظلمة، يرفعون شعار “فرق تسد” ترعبهم الوحدة ومظاهر الالتفاف، والإسلام لا يعرف التفرقة على أساس عرقي؛ فمن قال لا إله إلا الله، هو تحت مظلة (أمة الإسلام)، فما يحدث لأخي في الهند أو في فلسطين أو حتى المسلمين في بلاد الكفار، هو أمر يهمنا ويتداعى له سائر جسد الأمة.
بالعودة إلى الحديث الشريف الأول، بيني له نظام المناعة الرباني، في خلق أجهزة الجسم التي تتفاعل مع بعضها البعض إذا أصاب أحد أعضائها مكروهٌ، فلا يقول القلب: ما شأني وشأن يده المجروحة! يقوم بوظيفته في إرسال الأكسجين ليمد اليد بأسباب الحياة، وإذا ما تلوث الجرح لا قدر الله، ترتفع درجة حرارة الجسم كله، كنذير بأن خطرًا داهمًا في هذا العضو المصاب، أرأيت يا بني لو أن كل عضو قال: ما لي وما للعضو الذي بجانبي! هكذا نتداعى ونتألم لما يحدث لأي مسلم على وجه الأرض، قَرُبَ منا مكانًا أو بعد، لأن أمة الإسلام جسد واحد كجسدك.
هكذا يجب أن نكون مع كل مصاب في الأمة، المصاب يكون في جسد أمة الإسلام، يقوم باقي أعضاء الأمة بالتحرك لغوث المنكوب منها، لأن المصاب يا ولدي اليوم عندهم، ولا قدر الله غدًا عندنا، فماذا تود أن يفعل باقي المسلمين إذا حدث لنا مكروب لا قدر الله؟! فبالحوار والتبيان والإقناع والتمثيل والمشاهدة يصل المعنى.
سيتساءل: كيف لي أن أساعدهم من بعيد والدول قد وضعت الحدود؟!
هنا نساعد في إزالة اللبس الحاص في الفهم لديهم، ليزول التقاعس عن المشاركة، فليس شرطًا أن تكون الآفة في عدم اقتناعهم بمفهوم الجسد الواحد، بقدر عدم استيعابهم لكيفية المؤازرة عن بعد؛
- فالدعاء الصادق مؤازرة،
- الشعور بالآخر مؤازرة (توادهم/ تعاطفهم)،
- تتبع أخبارهم دليل على العناية والاهتمام لأمرهم،
- بذل ما تستطيع من نشر الوعي لدى الأهل والأصدقاء والجيران،
- المساعدة بالمال إن أمكن،
- مقاطعة السلع المحببة للنفس، أقل شيء نقدمه لمن يبذلون أرواحهم ودماءهم في سبيل الله،
- توضيح أهمية سلاح المقاطعة والتدرج في تنفيذه حتى لا يضج الصغار،
- توضيح أهمية كل ما سبق في إغاظة العدو، هو يتخيل أنه سيفعل ما يفعل ولن يحرك العالم ساكنًا بدعوى انشغال كل بلد في همه، لكن المسلم اليقظ يعرف أن على هذا الأمر مدار كل شيء،
- تغذية الطفل بالمعلومات الصحيحة عن تاريخ علاقتنا بالأرض، وكيف أنها كانت قبلة المسلمين الأولى، فرد الأمر إلى مرده الشرعي وليس الإنساني، سيضبط بوصلة الأخوة، فرباط الدين أقوى رباط على وجه الأرض.
غدًا ستنتهي هذه الأحداث بإذن الله، ويبقى دورنا في تأصيل تلك المعاني طوال الوقت:
- أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه: فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
فيتدرب على هذا المعنى طوال الوقت، راقبي تصرفاته حينما يختار من الحلوى لنفسه وما يمنحه لغيره، وذكريه بمعاني الإيثار.
أراد أحد السلف الصالح (محمد بن واسع) -رحمه الله- أن يبيع حمارًا له، قال له رجل: “أترضاه لي؟ فردّ عليه: لو لم أرضه لك، لم أبعه”، أحيانًا نجد أن الأطفال يختارون لأنفسهم الأحلى أو الأغلى أو الأجمل، أو يمنحون غيرهم ما لا يرضونه لأنفسهم، علينا أن نوجه ونرشد ونكون لهم قدوة في الخير.
- المساهمة في أعمال البر: تأتي مواسم الخيرات كشهر رمضان المبارك والعيدين، فيخرج الأهل الصدقات والزكاة، فلنشارك أبناءنا الإعداد والتوزيع، حتى يرق قلبه للآخر ويشعر به، ثم يكون يومًا ما هو من يخرج الزائد عن حاجته كما كان يفعل التابعي الجليل أويس القرني- رضي الله عنه- كان يقول: “لا أبيت وعندي فضل طعام ولا فضل ثياب” رضي الله عنه وأرضاه.
- التربية بين التخلية و التحلية: فكما نعمل على غرس صفات إيجابية تعضد التآخي والتواد والتراحم، علينا أن نحرص على تخلية أبنائنا من الصفات التي تنخر في جسد الأمة، كما جاء في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: “لا تَحاسَدُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا. المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هاهُنا. ويُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ. كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ.
فالتخلية تكون من الصفات السيئة، دورنا وواجبنا، وبعدها تكون التحلية بحسن الخلق أرجى نفعًا، فكيف نطلب من أبنائنا أن يكونوا كالجسد الواحد، وبينهم تباغض وتنابذ بالألقاب والغيرة والحسد!
فالتخلية تكون قبل التحلية؛ فساعدي ولدك ونحن على أعتاب شتاء قارص أن يطبق معاني الأخوة عمليًا، وأن يشعر بإخوانه في فلسطين، من ينامون في العراء بعد أن فقدوا البيت بكل ما يحوي وأن يخرج من ملابسه ما يدفئ الصغار، فإن صعب على بعضنا الوصول لأماكن تبرعات موثوقة، فأضعف الإيمان أن نخرج الزائد عن الحاجة لذوي القربى حتى يأذن الله بأن تتداعى جميع أجساد الأمة لنصرة أهلنا بشكل عملي أكثر وأكثر.
فرج الله كرب أهلنا في فلسطين الحبيبة، وأعاننا على الاستفادة من هول الحدث في إحياء موات قلوبنا وقلوب من هم في مسئولياتنا ورعايتنا، وإن قصرت أيدينا عن مد يد العون، لا تقصر مشاعرنا فنتعلم من صحابة رسول الله الذين تخلفوا عن غزوة تبوك حين لم يجدوا ما يحملهم عليه: {تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} (التوبة: من الآية 92)، حزنوا أنهم لم يكون لُحمة مع إخوانهم، ولم يقعدوا فرحين ظنًا منهم أنهم قد نجوا، بل تداعت دموعهم على فراق أجسادهم لأرض المعركة، ولم يكونوا مع إخوانهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا.
اللهم كن لأهل غزة، وربِّ أبناءنا في تلك المحن على الوجه الذي يرضيك عنا وعنهم.