لديّ طفل في العاشرة من عمره هو الخامس في الترتيب بين إخوته، وهناك فارق كبير بينه وبين إخوته الذين يسبقونه، وكان يتم معاملته بحفاوة وحب من كل إخوته، وهو طفل ذكي جدا ولمّاح، ولديه ذكاء لغوي ورياضي وعلمي بشكل مرتفع، إلا أننا بعد إنجابه بعامين رزقنا بطفلة جديدة، لقيت هي الأخرى حفاوة من العائلة، ورغم أنها شخصية بسيطة في متطلباتها وأفكارها فهي تتمتع بروح جاذبة جدا، ربما لأنها متسامحة وودودة ومحبة للناس فقد أدى هذا إلى توسعة نطاق محبتها عند الآخرين وهذا قد أثّر على نفسية أخيها لدرجة أنّ أول جملة كتبها في حياته كانت لها: (موتا هنيئا يا.. وكتب اسمها!).
ولم يقف الأمر عند هذا، بل دخلت معه المدرسة وحظيت بأصدقاء ومحبين كثر بينما هو غير قادر على تكوين صداقات وأصبح يُعاني من التبول اللاإرادي، هذا غير عدوانه المستمر عليها وتحقيرها ووصفها بالغباء والتفاهة والحقارة دائما، ولكن الأمر يزداد سوءًا إذ أصبح يختار أوقاتا لليقظة أثناء نومها وينام في وقت يقظتها حتى يتجنبها، وأنا قلقة من كون العلاقة بينهما على هذه الدرجة الخطيرة من الغيرة التي ترقى إلى مستوى الكراهية.
السؤال: لا أدري هل معي حق في كوني أستشعر أن حجم المشكلة كبير؟ وبخاصة أن والدهما يقول لي إن هذا أمر طبيعي وإن الزمن سيكون جزءًا من العلاج في هذه الحالات، أنا خائفة على الولد، أحيانا أشعر أنه يفتقد إلى التفكير الواقعي، ويميل إلى اللامعقول في شطحاته وقد عرضته على طبيبة نفسية قالت إنه بحاجة إلى علاج سلوكي من خلال إدماجه في أنشطة رياضية وعقلية، وللأسف لسنا في سعة زمنية أو جغرافية أو صحية تمكننا من الهرولة به هنا وهناك، فهل ثمة حلول سهلة في متسعنا وطاقتنا؟
الإجابة:
الأم الفاضلة.. تبادر لي حينما قرأت رسالتك الأحاديث التي أخبرنا فيها المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بأن (غارت أمكم)، يقصد السيدة عائشة- رضي الله عنها وأرضاها-.
فالغيرة طبيعة بشرية وفطرة فطر الله الناس عليها، ويُبيّن لنا هذا الحديث حال الشخص الذي يغار “كأنه جاءه شيطانه”، فقد روي (أنَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج من عندها ليلا، قالت: فغِرْتُ عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: مالكِ يا عائشة! أَغِرْتِ؟ فقلتُ: وما لي لا يغارُ مثلي على مثلِك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقد جاءك شيطانُكِ؟ قالت: يا رسول الله! أوَ مَعِيَ شيطان؟ قال: نعم، قلت: ومع كلِّ إنسان؟ قال: نعم، قلتُ: ومعك يا رسول الله؟! قال: نعم، ولكنَّ ربي أعانَني عليه حتى أسلم).
إذًا فاعترافنا بأن الغيرة أمر طبيعي، حدث لأمهات المؤمنين، يجعلنا أكثر طمأنينة ونحن نرقب تصرفات أبنائنا، وفي الوقت نفسه نبحث على وسائل تعيننا على شيطاننا، فلن نصل إلى مقام الحبيب المصطفى ولكن نتعلم ونتأسى ونجتهد أن نكون على الطريق.
ولكي نضع أيدينا على العلاج يجب أن نعرف ماهية الغيرة، وأسبابها.
الغيرة هي شعور يحدث معه تغير في القلب، ويتضمن ثلاثة مشاعر (شعور بالحزن وشعور بالقلق وشعور بالغضب)، فالحزن هو ما يغير القلب لمشاركة الغير ما يظنه الإنسان حق أصيل له، وهذه أدنى درجات الغيرة “الحزن”.
وتأتي مشاعر القلق فتكون باعثة على للتفكير: (هل أنا شخص جدير بأن يُحَب؟ لماذا يفضلون أختي عليّ؟، هل أنا سيئ لهذا الحد؟، ماذا عليّ أن أفعل لأوقف هذا التمييز ضدي …إلخ)، فتبدأ مشاعر الغضب في الدخول، ويبدأ في التفكير في سلوك انتقامي، تنفيسًا عن غضبه، وليس معنى الانتقام اتخاذ أعنف سلوك، فقد يدفع أخته بلا داعٍ، أو يخفي بعض ألعابها، هذا على المستوى الأدنى من الغضب، ورسالة الكراهية التي كتبها، تقع في مستوى أعلى من ردود الفعل الغاضبة، لكن الأمر بالاستعانة بالله، وفهم دوافع السلوك، وتعلم إدارة الغضب، والسعي قدما في العلاج، يمكن تغييره وتحويله لمشاعر حب وود وسكينة.
إذا بعدما فهمنا معنى الغيرة، ورأينا مستويات رد الفعل من البسيطة إلى الأكثر تعقيدا، ينبغي علينا كأهل ألا نترك الأمور تصل إلى الحد الذي يصعب معه التدخل، أو تتفاقم فيه الأمور حتى يكون الحل مشوارًا طويلًا مجهدًا مرهقًا مستنزفًا لمقدرات الأسرة.
نعم يغار الأطفال والكبار- أيضًا- إذا ما فعلنا بعض الأمور، التي تسبب الغيرة، والتي منها:
- الحماية الزائدة: وكون الحالة الحاصلة بين ولد وبنت فبالطبع ستكون ثمة حماية زائدة نحو الابنة كحال أكثر البيوت يخفن على البنات فيقدمن لهن الحماية الزائدة عن البنين.
والأمر نعالجه بتوجيه الابن نحو أنه شخص مسؤول وكبير، فتنمو مشاعر إيجابية تجاه أخته كونه رجل يحميها فيشترك معكما في الحماية بدلا من أن يشعر باهتمام زائد منصب عليها.
- الخوف الزائد: يولد مشاعر الغيرة، وهذا قد يحث- أيضا- تجاه البنات أكثر منه مع البنين بطبيعة ضعف البنات.
فخوفنا على الأبناء بشكل عام أمر طبيعي، أما أن ينقلب لخوف زائد في المواقف المختلفة كتأخر بالخارج، أو مرض وغيره، ويلاحظ الابن مستوى مختلفًا من القلق والخوف على أخته أكثر منه، حينها يصبح الخوف مبعثًا من مباعث الغيرة.
- الدلع الزائد: عادة يرتبط الدلع باسم البنات أكثر منه عن الأولاد، فمتعلقات البنات تُشجّع على مظاهر التدليل إذا ما قارنا متعلقاتهم بمتعلقات البنين، كما أن المعتقد والموروث أن ندلل البنات، ونغلظ على الأولاد حتى يصبحوا رجالا!، وهذا ما يثير حفيظة البنين ولا يضعوه في سياقه، ويترجمونه على أنه تدليل زائد، فالاعتدال في كل شيء مطلوب.
- عدم العدل: وإذا كان كون مشكلتك بين ابنك وابنتك، ويصعب أحيانًا على الأهل الموازنة في النقاط الثلاثة السابقة لطبيعة تكوين الإناث اللاتي قال عنهن المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: “رفقا بالقوارير”.. أسماهن قواريرًا!، فالقارورة تعامل بحذر، وهي عرضة للكسر بسهولة، فيجوز مع البنات بعض الحماية الزائدة، وبعض الخوف الزائد، وبعض التدليل الزائد، لكن ما لا يجوز مطلقًا، هو عدم العدل.
ويحتار الآباء كثيرًا في فهم معنى العدل وتنفيذه في الواقع، وهنا نفرق بين أمرين: العدل في النفقة، والعدل في الهدية.
فالنفقة تكون على قدر الحاجة، وتختلف حاجة كل ابن حسب سنه، ومرحلته الدراسية، وصحته ومرضه، والمقياس هو الحاجة.
أما الهدية، فهي ما يجب فيها العدل، وعلى سبيل المثال، فإذا أهدى والد ولده سيارة ومات قبل أن يهدي الثاني، وكان قد وعده، فعلى الورثة تنحية ثمن السيارة، قبل تقسيم التركة إنفاذا للعدل الذي كان ينتويه أبيهم فطابت نفس الابن وانطفأت نيران التمييز والغيرة.
وغيره من الأمثلة الكثير، أب يمنح في حياته أبناءه المتزوجين راتبًا شهريًا بالمساواة بين الولد والبنت، حتى إذا كانت الوفاة أخذ الكل نصابه وفق الشرع، ففي حياة الأب كان هذا هو مفهوم العدل (المساواة في الهدية)، وبعد وفاته أصبح مفهوم العدل تنفيذ ما شرعه الله، ولا معنى حينها لوصية تميز أحدًا عن أحد.
هكذا العدل من أجل القيم، والسعي في إنفاذه، يزيل العوالق النفسية بين الأبناء ويضيق الفجوة بينهم ويقلل من آثار الغيرة ونتائجها المزعجة.
- المقارنات: وهي أس كثير من البلايا بين الأبناء، فلا داعي للمقارنة بين أداء ابنك وابنتك في أي موقف، كبر أم صغر، فالمقارنات تشعل فتيل الغيرة وتأججها، ولا تحترم الفروق الفردية بين الأبناء، فالأصلح دائمًا أن نُقارن الابن بنفسه ودرجة تطوره، وكذلك الابنة، وليس بالآخر.
- الطفل الصغير: قد يأخذ فؤاد الأهل، ويدللونه لا إراديًا ويلمح الطفل الأكبر ذلك، فتنشأ الغيرة مبكرًا.
وقد انتبه كثير من الأهل لتلك الحالة، فأصبحوا يجهزون مع حقيبة الولادة، هدية للطفل الأكبر، كأنها هدية من المولود، فتقطع هذه الهدية بداية المشاعر وتشغل الطفل عن الرضيع، فبعد أن كان الكل في الكل كما يقولون انسحب البساط من تحته، وفي حالتك قد تكونين أغفلت هذه التهيئة حين ولادة الصغيرة، فنمت مشاعر الغيرة بشكل كبير متسارع لدى ولدك!
ماذا نقول عندما ننسى البسملة أول الطعام؟
الجواب: نقول بسم الله أوله وآخره، هكذا في التربية، إذا فاتنا شيء لا نقول فات الأوان، فيمكننا بإذن الله استدراكه، كأنا نقول بسم الله أوله وآخره فيما نقص من أدائنا ونحن نربي.
فتستطيعين الاتفاق مع ابنتك وإحضار هدية لأخيها في مناسبة عيد أو نجاح، وتسعى لتقديمها بإحسان، فذلك مما يحسن المشاعر بينهما بإذن الله، كما علمنا نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- (تهادوا تحابوا).
بينّا فيما سبق أسباب الغيرة، وتضمنت بعض الحلول، يبقى لنا أن نتقبل نحن الكبار ابننا الذي تتملكه مشاعر الغيرة، ونقر بمشاعره، ونصحح له فهمه الخاطئ لبعض الأمور، ونحبه حبا غير مشروط، فكلما وصله منا قبول، كان أهدأ وقلّت غيرته، أيضًا كلما شغل وقته بالمفيد داخل المنزل وخارجه؛ قل الفراغ الذي يقتل كل جميل في الإنسان.
ولتعلمي أيتها الأم الفاضلة أن للغيرة أحد سلوكين (انسحابي /عدواني).
قد يُقلق الأهل السلوك العدواني كالرسالة المكتوبة من ابنك لأخته، وما يقلقنا أكثر هو السلوك الانسحابي كما فعل- أيضا- ولدك بتغيير أوقات النوم حتى لا يجتمع بأخته، وهذا ما عليك البدء بالتركيز في تعديله بوضع قواعد عامة للنوم والاستيقاظ لجميع مَن بالبيت، دون توجيه رسالة بشكل خاص لابنك صاحب المشكلة.
فنفرح كأهل بالتعبير مهما كان خطأ، فالخطأ فرصة للتعلم، كما يقول التربويون، بينما الانسحاب فيه كبت وتخزين للمشاعر، ثم انفجار على أتفه الأسباب، لذا نُوجّه بالحرص في بدء تغيير مواعيد النوم.
وعلى ذكر النوم، لا نلتفت هنا إلى مسألة التبول اللاإرادي، بمعنى أنها ستتحسن حينما يتحسن ما بينه وبين أخته، فلا توبخيه، ولا تسلطي الضوء على تلك المسألة.
كما يجب أن تكون هناك حزمة من التوجيهات لأخته، بأن لا تستدعي مسببات الغيرة لديه، كأن تحكي عن صداقاتها أمامه بينما لديه عقبات في تكوين الصداقات.
وننصح بتخصيص بعض الأعمال البسيطة التي تقدمها لأخيها بشكل مستمر، كإحضار كوب ماء، واللعب بألعاب مشتركة في حضرتك في البداية ثم الانسحاب تدريجيًا حتى يعتادا مشاركة بعضهما البعض أوقاتًا طيبة.
كما يكون من الجميل أن نقدم لهما النموذج الصالح كأهل في علاقاتنا مع إخواننا، بالتهادي وغض الطرف عن سفاسف الأمور، والفرحة والدعاء بالبركة لهم في أرزاقهم، فالقدوة كفيلة في التأثير والتغيير بإذن الله.
كما لا ننسى أن ندعو دائمًا: {وَالَّذ۪ينَ يَقُولُونَ رَبَّـنَا هَبْ لَنَا مِنْ اَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ اَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّق۪ينَ اِمَاماً}.