أنا أم لطفل عمره ست سنوات وقد تم تشخيصه بالتوحد في عمر ثلاث سنوات، ومنذ ذلك الحين وأنا ووالده قمنا بالكثير من التضحيات لتوفير متطلبات الأطباء النفسيين بالرغم من عدم توفر تأمين صحي لدينا. ومع كل ما يتطلبه هذا المرض من التزامات مادية ومعنوية أصبحنا لا نقدر على القيام بالمزيد مع قساوة الظروف وعدم توفر أي دعم اجتماعي.
وإني أتساءل: كيف يمكننا مواصلة المسيرة التي بدأناها مند ثلاث سنوات مع كل الضغوطات الحياتية التي أصبحنا نعيشها؟
فنحن نحتاج دعمًا معنويًا واجتماعيًا ممن يحيطون بنا أكثر من حاجتنا المادية، والتي هي أيضًا ملحة نظرًا لما يحتاجه هذا المرض من نفقات. المشكلة أننا أصبحنا مرعوبين من فكرة أن يصاب أحدنا بمكروه أو كلانا ونترك ابننا التوحدي وحيدًا دون مأوى!
أعانكم الله وبارك في مجهودكم مع ابنكم ورزقكم الطمأنينة واليقين في الله بأننا مجرد أدوات ووسائل نسعى بها لتحقيق احتياجات أبنائنا، وبنا وبدوننا يكبر الأبناء، فطيبي نفسًا واطمأني، فلن يسري في ملك الله إلا ما أراده.
تقول القصيدة التي تخاطب صاحب الهم:
يا صاحبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنْفَرِجٌ *** أَبْشِرْ بخيرٍ فإنَّ الفارجَ اللهُ
اليأسُ يَقْطَعُ أحيانًا بصاحِبِهِ *** لا تَيْأسَنَّ فإنَّ الكافيَ اللهُ
اللهُ يُحْدِثُ بعدَ العُسرِ مَيْسَرَةً *** لا تَجْزَعَنَّ فإنَّ القاسمَ اللهُ
إذا بُلِيتَ فثقْ باللهِ، وارْضَ بهِ *** إنَّ الذي يَكْشِفُ البَلْوَى هو اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غيرُ اللهِ مِن أحدٍ *** فحَسْبُك اللهُ في كلٍّ لكَ اللهُ
كلمات طيبة توصي صاحب الابتلاء بألا يجزع، وألا ييأس، وأن يستبشر خيرًا، فاستبشري خيرًا أن يمد الله في عمرك وعمر أبيه وأن يقدر لابنكما الخير دائمًا.
يقولون: “تفاءلوا بالخير تجدوه”، و”القضاء موكل بالمنطق”، والخوف لن يمنع وقوع القدر أختنا الكريمة، بل يجعلك تعيشين أيامك ولياليك قلقة على شيء لم يحدث بعد.
كما نعلم ورأيناها مرارًا وتكرارًا أن أقدار الله إذا ما وقعت، دائمًا ما يصاحبها ألطاف، فيجب علينا أن نعيش هنا والآن، هذه اللحظة التي نملكها، ولدينا معطياتها، هذا ما بأيدينا فعله، الغيب يعلمه الله، وسبحانه إذا قدر شيئًا مما يقلقك، تنزل معه الرحمات، أطال الله في عمرك وأحسن عملك.
لعل ما يمكنك فعله لولدك فيما يخص المستقبل ثلاثة أمور:
- أن تجتهدي في إيجاد بيئة محبة حاضنة متفهمة، وهو ما تسعين له من الآن.
- أن تعلميه الاستقلالية قدر المستطاع.
- ادخار مال له يغنيه عن سؤال الناس.
اخترنا أن نبدأ بتخوفك قبل أن نناقش أدوات ووسائل تعينك في رحلة علاج ولدك، حتى تقري نفسًا وتطمئني، وتستقبلي الأفكار بحماس وأذن واعية.
يفرق العلماء بين التوحد والذاتوية، وأغلب الحالات التي يطلقون عليها التوحد، هي في الحقيقة حالات لأشخاص يعانون من الذاتوية، فالتوحد يقصد به الاتحاد مع شخص أحبه بقدر عالٍ جدًا، قد يكون هذا الشخص قريبًا أو شخصية مشهورة، يصل هذا الحب إلى المحاكاة في الأفعال والأقوال.
بينما الذاتوية تشير إلى اضطراب نمائي كون معظم أعراضها تظهر في السنتين الأولى والثانية من حياة الطفل، ويحدث في هذا الاضطراب تكرار لسلوكيات غريبة وانسحاب الطفل وانعزاله.
ودائمًا ما نسمع كلمة طيف في التشخيص وهي كلمة تشير إلى وجود تفاوت كبير في نوع وشدة الأعراض التي يمر بها الأشخاص ذوو الاضطراب الذاتوي، وعلى كل حال قد تم التشخيص بالتأكيد من قبل مختصين، فالتشخيص في حد ذاته مهم جدًا، فيمنحك اللغة للتعبير عن الحالة وفهم تطوراتها، وما هي الأعراض الأصيلة للمرض، وما هي الأعراض الثانوية نتيجة عوامل بيئية أخرى، كما أن التشخيص يمنح المصابين الحصول على الدعم اللازم.
نأتي إلى نقطة محورية تأتي بعد التشخيص، وهي التقبل؛ تقبل الأهل نصف العلاج، وأن طفلك من ذوي الاحتياجات الخاصة لا يعني أبدًا أن حياتك قد تعطلت، وأنه سيظل معتمدًا عليكِ في كل شيء، قد يأخذ الطفل وقتًا وجهدًا أكبر إذا ما قورن بأقرانه، لكن يقينًا يفتح الله للأهل سبلًا وطرقًا وعونًا يعينهم على تبعات هذا التكليف.
السائلة الكريمة: قلتِ في طيات سؤالك، أنك ووالده تقومان بتضحيات من أجله، هذا الشعور معطِّل، فأن تضحي شيئًا وأن تقومي بدور أوكل إليكِ من لدن رب العالمين شيء مختلفٌ تمامًا.
شعورك بأن هذه مهمة كلفكِ الله بها- فيقينا أنتِ أهلٌ لها- لأنه سبحانه إذا كلف أعان، هذا الشعور يتبعه مصاحبة ومعية الله لك دائمًا، أما شعور التضحية، فهو شعور معطِّل، فالإنسان يستطيع أن يضحي لبعض الوقت، لكنه لن يستطيع أن يضحي كل الوقت، فاجتهدي أن تغيري نظرتك للأمر، وأن تستجلبي لنفسك وقتًا خاصًا مهما حصل، هذا الوقت تشحنين فيه طاقتك، وتجددين العزم فيه على المضي قدمًا مرحبة بقضاء الله، يعينك من حولك (زوج وأهل) في اقتناص تلك اللحظات، وكم من أسر كان هذا الاختبار في الولد، فتحًا لها في الرزق والأسفار والعلاقات ومجالات العمل.
أمهات كثر يُحملن فوق الرؤوس تعلمن دروبًا ومجالات لم يكن يعلمن عنها شيئًا إلا بمنحة ربانية لهن في أبنائهن، فعلى نياتكم ترزقون، ترزقون العون والسند والمدد بحول الله وقوته.
القبول كما أسلفنا له سر في تهوين كل صعب والإقدام على ما يلزم من عمل وجهد بصدر رحب، القبول يختصر الوقت والمسافات، ويُشعر الطفل بعاطفة جياشة وأنه ليس حملًا ثقيلًا على أهله.
قد تقبل الأم ابنها بسهولة لكنها قد تجد معوقات من المجتمع، فطريقة تقديمكم الطفل للمحيطين هي التي تحل هذه الإشكالية، فالمجتمع بطبيعته يرفض الاختلاف، لكن إذا ما قُدم صاحب الاختلاف على أنه صاحب ميزة؛ شُدت له الأنظار، وحظى باهتمام الجميع، فعندما نقدم أبناءنا للمحيطين، نعرفهم بميزاتهم- التي لا يلغي وجودها وجود قصور في بعض الجوانب- فإنهم إن كانوا عاجزين عن فعل بعض الأشياء (كالاندماج بسهولة) فلا يعني هذا أبدًا أنهم عاجزون بالكلية، فلديهم نقاط قوة من الممكن أن تكون قيمة مضافة يستفيد منها المجتمع، لذا علت بعض الأصوات مؤخرًا، وسنت قوانين بدمج هؤلاء الأطفال في التعليم والوظائف، حينما أعيد النظر كونهم يمتلكون نقاط قوة أكبر من الأشخاص الطبيعيين.
يقول أحد المصابين بطيف الذاتوية، كنت أفهم عن نفسي أنني سيء؛ لأنني لا أستطيع فعل بعض الأشياء، هذا ما كان يصلني من معلمي عن نفسي (كوني سيء)، لكن حينما علمت أن ما لدي يسمى (نقص مهارات)، أدركت أن الحل في التعلم، فالذي لا يعرف الطبخ شخص غير سيء، هو شخص تنقصه مهارة، حله يكمن في التعلم!
إذًا، حينما يدرك المجتمع أن المشكلة في نقص المهارات، وأن بإمكان الطفل التعلم؛ سيدفع معك الدفة نحو الأمام، ولن يكون ذلك إلا بحرصنا على إدماج الطفل وتقديمه في كل المجتمعات،
مؤخرًا أطلق مصطلح (ذوي الهمم) على الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو تعبير ملهم، وفارق، فكثرت من بعدها المحاضن التي تسعى لضم هؤلاء الأطفال لديها، لأنه تم تسليط الضوء عليهم بشكل مختلف، فرب ضارة نافعة! فلا تألي جهدًا في البحث عن أفضل هذه المحاضن وأقربها لك، حيث إنك تعانين من نفقات العلاج، فبالتأكيد توجد جمعيات تدعم مثل هذه الحالات، الأمر قد يتطلب مزيدًا من الجهد في البحث، أعانكم الله.
وبعد التعريف والتشخيص والقبول، يوصي العاملون في المجال أهل الطفل ببعض النصائح والوصايا:
- يجب التركيز على النقاط الإيجابية للطفل المصاب، بالتعزيز الإيجابي والتشجيع المتواصل له، وذلك عن طريق تشجيع الطفل عند قيامه بسلوك حسن والثناء عليه عند إعادته في مواقف أخرى.
- يجب اتباع برنامج ثابت وروتين محدد كونه يشعر الطفل بالراحة والأمان، مع الانتباه أنّ المصابين يشعرون بالانزعاج عند حدوث تغيير في حياتهم.
- التعلم من خلال الألعاب وإدخالها في برنامجهم، لأنها تشكل عامل راحة وتقلل من أحاسيسهم بالضغط.
- التخفيف من توجيه الانتقادات للطفل طوال الوقت.
- توجيه الحب للطفل سواء بالكلمات أو لغة العيون أو كثرة الاحتضان، وهي نقطة جوهرية تساعد الطفل على الاندماج والقبول بدلًا مشاعر الرفض، تحكي أم أحد الأطفال الذاتوية، أن ابنتها تعاني من نوبات بكاء، وبسؤال المتخصصين وبالتجربة، وجدت أن عمل المساج لطفلتها واحتضانها بقوة، يهدئ من روعها.
- أن تحيطوا أنفسكم بمجموعات داعمة وإيجابية وتبتعدوا كل البعد عن كاسري الهمم الذين يقللون مما تفعلونه، أو يصفونه بأنه غير مفيد، بالإضافة إلى مشاركة تجربتكم مع أفراد يعانون من الحالة عينها فيحدث تبادلٌ للخبرات، وإفادة بما يستجد على الساحة من معلومات.
- التواجد بفاعلية في برامج العلاج، فبعض الآباء تنتهي علاقتهم بعملية التعلم بإرسال الطفل إلى بيئة التعلم، غير عابئين بتفاصيل البرنامج، وعلاقة الأخصائيين بابنهم، فالتواصل الإنساني مع المعالجين، وأهالي بقية الأطفال، وحضور اللقاءات التوعوية، والمشاركة في العلاج المنزلي، وتعلم أحدث التقنيات المتاحة وتطبيقها في المنزل، كل هذا وغيره يسرع من تحسن حالة الطفل، وجعل برامج العلاج أكثر فاعلية.
- كما نوصي بالإطلاع على محتويات مكتوبة تساعد في فهم الحالة أكثر، مثل: “الدليل المصور لمرض التوحد”، وهو كتاب مترجم عن نسخة كندية Autism Physician Handbook، ومتابعة بعض المواقع المهتمة بالتوحد كموقع autismspeaks، ومتابعة أمهات سبقنك في المجال كأم محمود اللبنانية، لها صفحة ملهمة على الفيسبوك.
وتبقى لنا نصيحة أخيرة، وعلى طريقة لا تعطني سمكة ولكن علمني كيف أصطاد السمكة، فنذكرك بأن خطوة تعليم طفلك الاعتمادية على نفسه، خطوة هامة وضرورية جدًا، تلخصها إحدى الأمهات، في أربع نقاط:
- افعلي الشيء أمامه بحب، حتى يصل لطفلك أنك مستمتعة بما تفعلين (تواصل بصري).
- شاركي طفلك أجزاء من المهمة، فتطلبين منه إحضار الخبز من الثلاجة مثلًا.
- أن يكون التواصل من خلال معلومات شفوية فقط (لا تدخلي جسديًا).
- وفي المرحلة الأخيرة تتركين له المهمة يفعلها بدون تدخل جسدي ولا شفوي.
أعانك الله على تربية طفلٍ يافعٍ نافعٍ، وأحاطكم بصحبة معينة، ويسر لكم أمركم وما فيه الخير لكم.