ابني الحبيب طالب جامعي كان ككل الشباب له أصحاب وخروج وسهرات وهوايات وانطلاقات حتى ما كنا نراه في اليوم والليلة إلا ما ندر.
وبما أنه طالب جامعي كان أبوه يوصيني ألا أمنعه أو على الأقل ألا أقف منه موقفا صداميا، لأن هذه المرحلة العمرية ملؤها القوة والحماسة والانطلاق وسرعان ما تمر وتأتي بعدها الوظيفة والزواج والاستقرار وتحمل المسؤولية ويأتي الهدوء الحياتي المرتقب بإذن الله.
وكنت استجيب لكلام والده رغم اقتناعي من الداخل أنه ينبغي علينا ألا نترك له الحبل على الغارب، لأنه شاب وأصحابه ليسوا محمودي الأخلاق للدرجة التي نطمئن بها عليه معهم لكن هكذا الشباب وهكذا حياته وسرعان ما ستهدأ أمواجه كما قال أبوه.
إلا أن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن، فقد فوجئت بابني المتحمس للانطلاق والحياة الصاخبة يطيل فترة وجوده بالبيت ويرتبط بالمسجد أكثر وأكثر، ثم يلتحي ويقصر ثوبه ويبدل أصحابه بأصحاب آخرين على شاكلته الأخيرة، ثم يقتني الكتب التراثية القديمة ويذهب لدروس العلم ويجتهد في تعلم أحكام القرآن الكريم وحفظ ما تيسر له من القرآن والأحاديث، ناهيك طبعا عن هجران التلفاز إلا ما يجب مشاهدته من دروس للعلم التي يحب أصحابها.
والحق أنني رغم تغيره للأحسن خفت عليه! ليس لأني لا أحب تدينه لكن لأن التدين جاء فجأة ظننا معها أنه جاء نتيجة إحساس بالذنب لشئ فعله لا نعلمه، ثم إنني رغم سعادتي الداخلية لصلاح حاله لم أكن سعيدة بكثرة انعزاله في غرفته للقراءة والصلاة أو مكثه في المسجد وجلوسه لدروس العلم إلا أنني أفتقده كابن، فأنا قلما أراه وأستمتع به رغم ثقتي أنه مشغول عني بالخير، لكن الخير له طرق عدة لا يستغني بعضها عن بعض، لاسيما إذا كان يتعلق بالوالدين.
زاد عليّ ذلك ما أراه من تشدد في تعامله مع شقيقته التي لا تلبس الحجاب الذي يريده، أو مع قريباتنا اللاتي أغلق باب التعامل معهن بالكلية ما جعلني أشعر بعزلته بعض الشيء حتى عن محيط بيتنا الصغير، ناهيك عن بقية بيوت العائلة.
والسؤال: هل ما حكيته لك أمر طبيعي؟ أم أنني لا أشعر بنعمة الله عليّ وعلى ولدي لذا أنظر للجانب السلبي في التزامه طريق الله لا الجانب الإيجابي؟
الإجابة:
{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} هذه نعمة من الله تستحق الشكر، لا يمكن تخيل أنها رياح لا تشتهيها السفن. إذا تملكنا القلق بسبب غفلة أبنائنا ومصاحبة غير محمودي الخلق ثم انتابنا القلق بعد اختيارهم طريق العلم والالتزام، فمتى تكون الطمأنينة؟!
انشغالكم بالسبب وراء التزامه وتوقعكم أنه ربما أخطأ خطأ دفعه لذلك ربما هو من حيل الشيطان حتى يقلقكم ويبدل فرحكم حزنًا، في الوقت الذي عليكم أن تحمدوا الله على هدايته، وهي أمنية عزيزة لدى غالبية البيوت لشبابها الآن، بل ثقوا في تحقق موعود رسول الله فيه: (إنك لن تدع شيئا لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه).
نعلم جيدًا أن نضج الآباء قد يجعلهم أحيانًا أقل صبرًا على أبنائهم لحين بلوغهم ذات النضج، فلا يحتملون رؤية أبنائهم يتخبطون ويجربون ويتحولون من طريق إلى طريق أملًا في رؤيتهم مستقرين، لكن هذا ما يجب أن يحدث لتحط سفنهم بأمان.
وعلى كل فخوفك على ابنك من طريقه الحالي لا يجب أن يقارن بقلقك عليه في مساره الأول، بعد أن عرف طريق العلم والمسجد بعد صحبة السوء والسهرات. ونظرًا للبون الشاسع بين الطريقين فإنه من المتوقع أن تكون ردة فعل ابنك على النقيض تمامًا وبشكل مبالغ فيه. هو الآن يتعرف على هذا الطريق ويفهم سننه وفروضه، تدفعه همة قوية وشباب متقد وربما ندم على ما فات وحداثة علم كل هذا يجعل للأمر في بداياته شِرّه فكما قال رسول الله: (لكلِّ عملٍ شِرَّةٌ ولكلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فمن كانت شِرَّتُه إلى سنَّتي فقد أفلح، ومن كانت فَتْرَتُه إلى غيرِ ذلك فقد هلكَ)، لذلك سيأخذ الأمر بعض الوقت و نسأل الله أن يرزقه من يعلمه الوسطية والتوازن والتدرج في امور دينه.
بدلًا من الخوف اسألي الله له الثبات والرشد واحذروا أن تكونوا معول هدم له خلال هذه الفترة بانتقاداتكم وإظهار عدم التقبل، احترموا حماسته وانغماسه قليلًا بدلًا من محاولة إخراجه من عزلته كي تنضج التجربة ويكتب لها التوفيق، بل كونوا داعمين ومشجعين له وأظهروا رضاكم عنه، ساعدوه على توفير الكتب التي يحتاجها، اجعلوه يشعر أن اختياره هذا الطريق زاده قربًا منكم، اقتربي منه واطلبي منه أن تتعلمي وتسمعي معه، وهذه فرصة لكي تطمئني أنه يستمع للثقات في أمر دينه.
انصحوه بلطف للعمل بحديث رسول الله: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق)، بأن يراعي سنة التدرج حتى لا يستشعر المشقة فيدفعه ذلك للترك. سيحتاج إلى وقت لكي يدرك حديث رسول الله: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا)، وحديث المصطفى: (ليصل أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد).
احذروا من السخرية أو التهكم عليه أو التصادم معه حول طريقته الشديدة نوعا ما، فكلما زاد فهمًا كلما تحسنت طريقته، فاصبروا على طريقته، صبركم عليه سيعينه ويرده إلى الرفق.
أما عن افتقادك له كابن فنعذرك عليه، لكن ليس السبب فيه طريق الخير الذي اختاره فقد كان كذلك حتى قبل أن يلتزم كما قلت في رسالتك، فلا تربطي بين الأمرين، بل هي طبيعة مرحلة الشباب وما ذكرتيه عنها من انطلاق وارتباط بالخارج أكثر من البيت، بل طيبي نفسًا واطمئني لأن تعلمه للقرآن وحضوره دروس العلم حاليًا يضمن لك سماعه عن بر أبويه وحقوقهما عليه، وهو ما لم يكن ليحدث سابقًا.