أنا أم لابنتين، ربيتهما بمفردي بعد انفصالي عن أبيهم، وبمعاش والدي القليل، تخرجت بنت منهما من إحدى كليات القمة، وتعاملني بقسوة وتقليل من شأني، وذلك على أي مشكلة صغيرة، وترفع صوتها وتتطاول بالكلام، هذا غير نظراتها الحادة جدا جدا جدا إليّ، وتخاصمني بالأشهر!
تُشعرني أنها لم تعد تحتاج إليّ، بل وتنكر كل ما قدمته لها، وتؤكد أنها وصلت لما هي فيه لأنها “شاطرة”، أدعو الله دائمًا أن يصبرني على هذا البلاء، وأنا حزينة جدًا وخائفة من أن يعاقبها الله على سوء معاملتها لي.
السائلة الكريمة: أعانك الله على حالك وجزاك خيرًا على تعبك في تربية بناتك.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم :”من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترًا من النار”، فبإذن الله تثابين على سعيك عليهما وحدك، ويخلفك الله فيهما خيرا.
من الطبيعي أن يمتن الأبناء لسعينا عليهم، وإن لم نسمع منهم كلمات الثناء- وهي أقل ما يجب في حق الأهل- فعلى الأقل لا نتوقع منهم جحودًا، ونؤكد على حقك في الحزن مما آل إليه حال ابنتك معك، هداها الله وردها إلى رشدها مردًا جميلًا.
حينما نواجه سلوكًا مغايرًا لما نتوقع من أبنائنا يجب أن ننظر في الماضي بحثًا عن الأسباب، لعلك مارست معها بعض الأخطاء (كلنا بشر ونخطئ) بغير وعي ولا قصد منك، فتراكمت لديها بعض مشاعر الأسى والغضب.
بعض الأمهات حين يتحملن مسئولية الأسرة، قد يتلفظن بكلمات ثقيلة في وقت الغضب، كأن تقول الأم: (حرمت نفسي لأطعمكم!)، (لم أرض بالزواج ثانية من أجلكم!)، (كنت أخرج اللقمة من فمي لأوفر نقود الدرس لكم!)، إلى غيرها من العبارات التي تشعر الأبناء بالمن عليهم، وبالتالي يتولد لديهم الغضب، ونسمع منهم عبارات مثل :(لم نجبركم على أن تنجبونا!) (أنتم من أتيتم بنا إلى الدنيا!) إلى غيرها من الكلمات التي تؤدي للسخط على وجودهم في الدنيا بالأساس!
فالأخطاء منا كأهل واردة، لكن ما لا ندركه هو أثر هذه الأخطاء على علاقة أبنائنا بنا، نظن أن الزمن كفيل أن ينسيهم، لكن بعض العبارات تحفر في النفس، ويعمل شياطين الإنس والجن على تأجج معانيها في النفس، فيكبر الغضب ويتضاعف ونجني ثمارًا لتعبنا معهم غير التي توقعناها، ثمارًا مع الأسف فاسدة!
كذلك قد يسبب غياب الوالد من المشهد حالة السخط هذه، ولا تجد سواك كي تنفس عن غضبها! لا نبرر أبدًا سوء الأدب مع الأهل مهما حصل، بل نجتهد معكم بأن نضع أيدينا على الأسباب حتى نصل إلى حلول مستعينين بالله.
بعيدا عن الظروف المادية المتواضعة التي ربيت بناتك فيها، تصل أحيانًا رسائل خاطئة للأهل من أبنائهم بمجرد تعرضهم لدراسة متميزة، لم يتلقاها أهليهم، فيترجم الأهل تصرفات قد تبدو عادية على أنها كبر من الأبناء ونسمع أيضًا عبارات مثل (هتكبر على أمك؟!)، استنكارًا لبعض تصرفات الأبناء، التي قد تبدو طبيعية لكن يستقبلها الأهل بحساسية شديدة.
المهم في هذه النقطة ألا نتعامل مع أبنائنا بمنظور حساس لأنهم تلقوا دراسة مختلفة عنا، أو درسوا في كلية من كليات القمة كما تقدمت وأشرت في سؤالك، فإذا خالفتك ابنتك الرأي في أمر ما، لا نعتبر ذلك عصيانًا، لعل لديها مدخلات ومعلومات غير التي عندك، ورأيها بالفعل أصح، إن خلينا بيننا وبين الحساسية، سنترجم هذا الاختلاف بفخر، أن أبناءنا نضجو وتعلموا وأصبحنا نرى الدنيا بعيونهم بعد أن كانوا يرونها بعيوننا في الصغر، نعم تتبدل الأوضاع، يجب أن نعترف.
أسلوب الأبناء حين الاختلاف في الرأي مهم جدًا وأساسي، فلا تتواني في توجيهها، بتعديل أسلوبها لأنه يفسد توصيل المعلومة حينها، وتصل إليك رسالة خاطئة، فقط حينما نسمي ما يحدث بيننا وبين أبنائنا اختلافًا وليس خلافًا ستتغير الأمور كثيرًا، وسنتقبل أن أبناءنا كبروا وعرفوا ما لم نعرفه أحيانًا، وخبروا أشياء جديدة، فقط جربي أن تغيري نظرتك للأمور.
السائلة الكريمة:
ونحن نفند الأسباب التي ربما أوصلت ابنتك لسوء الأدب معك، لا نعفيها أبدًا من المسئولية، فقد تخرجت وأصبحت أنضج، وأفهم لأعباء الحياة أكثر، وربما عانت نفس معاناتك في تحصيل أسباب الرزق مما يجعلها تلتمس لك العذر فيما قد يغضبها منك.
وإن كنا سنوجه الحديث لها فلن نعفيها من مسؤولية أفعالها معك، حتى وإن رأت منك ما يؤلمها فيما مضى فهذا لا يبرر أبدًا خصامها لك، فما أقرب أن تتواصل معك، وتحدثك بمنتهى الأدب، أن لديها بعض التراكمات من الصغر، أثرت على العلاقة بينكما، وإما سمعت منك توضيحًا طيب خاطرها، فأشفقت عليك بما تحملت، وإما اعترفت لها بقلة حيلتك حينها مما دفعك لبعض التصرفات التي أغضبتها منك، فاعترافك بممارسة بعض الأخطاء التربوية معها إن وجدت، يطيب خاطرها، ويذيب جبل الثلج في العلاقة بينكما.
وإن كانت ستستمع لحديثنا فنذكرها ببركة بر الوالدين ما لم يأمرا بإثم أو قطيعة رحم، فلن تر خيرًا وهي تغضبك، وإن سرت أمورها على ما يرام بعض الوقت، فهذا من استدراج الله لعباده، يفتح لهم أبواب الخير رغم عصيانهم له، فلا تظن أن ذلك دليل مرضاة الله، هو استدراج والاختبار قادم قادم عافاها الله أن تكون ممن وقع في العقوق!
السائلة الكريمة:
مهما بلغت قسوة أبنائنا علينا، فلن نمل من الدعاء لهم، أن يردهم الله للخير مردًا جميلًا، وأن يرزقنا برهم، وأن تقر أعيننا بصلاح أحوالهم، احتضني ابنتك في الدعاء، واحتضنيها في الحقيقة. يتحدث التربويون عن أهمية الاحتضان وأثره الطيب في نفوس أبنائنا، مهما بلغت أعمارهم.
جددي نيتك في علاقتك بابنتك، بأنك لن تسمحي للشيطان أن يتغلب على مشاعرك، ويزيد الفجوة بينكما، تكلمي معها بصدق، وتجنبي استخدام عبارات المن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ}، فما نفعله مع أبنائنا مأمرون به: “كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته”، لا ننتظر المثوبة من أحد، نبتغي وجه الله فيهم، نؤدي ما علينا ونسأله عز وجل الذي لنا.
وأخيرًا.. قد يكون عقوق أبنائنا لنا محض ابتلاء، وليس نتيجة أخطاء ارتكبناها في تربيتهم؛ فلنصبر ولنحتسب، ونثابر على الدعاء لهم أن يردهم الله إلى دينهم مردًا جميلًا، أقر الله عينكِ ببر بناتكِ لك، وأراكِ منهم ما يسرك.