تختلف قُدراتُ الناسِ في الفَهمِ والاستِيعابِ للأُمورِ، لذا أكد الإسلام ضرورة إنزال الناس قدرهم وبما لا ينفرون منه، وهذا لأنّهم طوائف مختلفة وجماعات شتى وثقافات متباينة وانتماءات متكاثرة وعقليات متفاوتة وعادات وتقاليد عديدة.
ويُخطئ بعض الدعاة والمربّين حينما يعتقدون أنّ أُسلوبًا واحدًا في الخطاب هو المناسب لجميع الناس للتأثير فيهم وحثهم على الإيمان والعمل، ويُخطئ آخرون عندما يعتقدون أن طريقة واحدة هي الشدة في توصيل المفهوم وبيانه بالطريقة الخطابية وجمع كل الأدلة له أمام السامع هي الطريقة المثلى التي تأثر القلوب، وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى، ومعلم البشرية جمعاء، يُنوّع أسلوبه ويختار ما يناسب عقول الناس، بل ويأمر أتباعه من الدعاة إلى الله بمخاطبة الناس كل على قدر فهمه ومستواه.
إنزال الناس قدرهم في القرآن والسنة
ولقد أكد الشرع ضرورة إنزال الناس قدرهم ومراعاة الحكمة والموعظة الحسنة في دعوتهم إلى الله- تبارك وتعالى- ونصحهم في أمور دينهم ودنياهم، يقول- عز وجل-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن) [النحل:125].
وقال الله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة:83]، وقال سبحانه: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء:53]، وحذر سبحانه من الدعوة بالغلظة وسوء الخطاب، فقال- جل شأنه-: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران:159].
وهذا المنهج القرآني في التأكيد على الحكمة وأهميتها في دعوة الناس، سار عليه النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم-، فكان- صلى الله عليه وسلم- يستعمل في بعض الحالات أسلوبا من الرفق لا يجارى، من ذلك حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، فلما زجره بعض الصحابة بشدة قال- صلى الله عليه وسلم-: “دَعُوهُ، وأَهْرِيقُوا علَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِن مَاءٍ -أوْ سَجْلًا مِن مَاءٍ- فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ ولَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ” (البخاري).
وقد بيَّن- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- للأعرابي خطَأَه وأرشده للصَّوابِ، كما في روايةٍ أُخرى في صحيحِ مُسلمٍ، من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ- رضِيَ اللهُ عنه-، وفيه: “إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعاه فقال له: إنَّ هذه المساجِدَ لا تصلُحُ لشيءٍ من هذا البَولِ ولا القَذَرِ، إنما هي لذِكرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، والصَّلاةِ، وقراءةِ القُرآنِ”.
والشاب الذي جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فطلب منه أن يبيح له الزنا، فدعاه- صلى الله عليه وسلم- فجعل يسأله: “أتحب الزنا لأمك؟ فيقول: لا والله، جعلني الله فداك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟ فيقول: لا والله، جعلني الله فداك، فيقول صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لبناتهم…. الحديث” (رواه أحمد).
وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم-، يدرب ويعلم أصحابه الكرام على اتباع أسلوب المنطق والحكمة والتدرج مع الناس في الدعوة، ففي صحيح البخاري: أنه- صلى الله عليه وسلم- بعث معاذًا إلى اليمن وقال له: “إنَّكَ سَتَأْتي قَوْمًا أهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إلى أنْ يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ..”.
وورد في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السُّلَمي، قال: بيْنَا أنَا أُصَلِّي مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فَقُلتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي القَوْمُ بأَبْصَارِهِمْ، فَقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاهْ، ما شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأَيْدِيهِمْ علَى أفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَبِأَبِي هو وأُمِّي، ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا منه، فَوَاللَّهِ، ما كَهَرَنِي ولَا ضَرَبَنِي ولَا شَتَمَنِي، قالَ: إنَّ هذِه الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شيءٌ مِن كَلَامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقِرَاءَةُ القُرْآنِ”.
والداعية إلى الله يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته، ولا يحملها فوق طاقتها، وقد فهم ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ قول الله تعالى: (وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) فقال: “كونوا حلماء فقهاء”، وقال البخاري: “ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره”، والبدء بصغار العلم مرجعه مراعاة العقول حتى لا تنفر من الدعوة، قال ابن حجر: “والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها”.
مبررات إنزال الناس قدرهم
ومبررات إنزال الناس قدرهم كثيرة، نذكر منها للدلالة ما يلي:
- من أجل عدم انفضاض الناس من حول الدعاة، فالأسلوب الذي لا يناسب المستمع وينفّره يجعلنا نخسر كثيرًا من المدعوّين الذين قد تكون قلوبهم وصدورهم على استعداد للسماع والهداية، والطريقة العلمية المركزة وجمع الأدلة كلها، وسوق التعليقات والرّدود والشبهات وتفنيدها وغيره قد لا يناسب بعض المدعوّين، بل قد يجر الملل والسأم إليهم، وبالتالي يفقد العلم هيبته.
- اختلاف أصناف الناس، وأولهم العوام غير المتعلمين، والتعامل معهم ودعوتهم تحتاج إلى خبرة واسعة وتجربة وفهم، وكل صعوبة أو تعقيد قد يصرفهم عن الدعوة، وهؤلاء لا تُلقى عليهم المسائل العويصة، والتفاصيل الدقيقة، والبراهين المعقدة والنظم المتشعبة، والصنف الثاني: المتعلمون من خريجي الجامعات، ومَن في مستواهم في التقدم المعرفي، وهؤلاء يبحثون عن التحليل والاستنتاج والمعنويات ودلائل الإعجاز، والصنف الثالث: أصحاب التخصصات العلمية، إذ لكل تخصص مصطلحاته ووسائله، ومن يتعرف إلى هذا المناخ الخاص فإنه أقدر على توجيهه.
رسائل إلى الداعية
وتطبيق قاعدة إنزال الناس قدرهم تحتاج إلى داعية صاحب حكمة وتروٍّ وعقل رشيد، لذا نسوق هنا بعض الرسائل للداعية الذي يرغب في أن يسير على نهج الرسول- صلى الله عليه وسلم- في دعوة الناس كل حسب فهمه واستيعابه وقدرته على القبول والتلقي، ومن ذلك:
- لا بُد من مخاطبة العقول بالمنطق، لا على إثارة العواطف بالمُبالغات، فمعجزة الإسلام الكبرى معجزة عقلية هي القرآن، الذي تحدى الله به، ولم يتحد الخوارق، مع وقوعها للنبي- صلى الله عليه وسلم- ولم تعرف البشرية دينا يحترم العقل والعلم كما يحترمه الإسلام.
- أن يدع التكلف والتقعر في استخدام العبارات بالأساليب، ولا بد من استخدام اللغة السهلة القريبة المأنوسة، سواء للأستاذ الكبير، أو الطالب الصغير، أو التاجر، أو العامل، فكلهم يجب أن يفهم ويعي.
- وأن يذكر الحكم مقرونا بحكمته وعلته، مربوطا بالفلسفة العامة للإسلام.
- التزام القول الحسن، فإذا أحكم صاحب الدعوة قوله، وسدد لفظه؛ فقد أوتي من الحكمة بابا عظيما، يقول الله عز وجل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
- التصريح والتعريض، ومن الحكمة في بعض المواقف الجنوح إلى التعريض والتلميح دون التصريح؛ فالتّصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم، والتبجح بالمخالفة، ويهيج على الإصرار والعناد.
- تحري أوقات الفراغ والنشاط والحاجة عند المدعوين، وتخوّلهم بالموعظة والتعليم من أعظم ما يعين الداعية على استجلاب الناس وجذب قلوبهم إلى دعوته.
- البدء بالأهم، ثم الذي يليه، وأن يجعل للمدعو من الدروس ما يسهل عليه حفظها وفهمها، والتفكر التام فيها، وأن يعلم العوام ما يحتاجون إليه بألفاظ وعبارات قريبة من أفهامهم تناسب مستواهم مع مراعاة التنويع في الأسلوب والتشويق.
- يجب التلطّف والتودّد والابتعاد عن الغلظة والقسوة في دعوة النّاس وترك الألفاظ الجافّة والمنفّرة، فالنّاس تحبّ الأسلوب اللطيف والتعامل الليّن.
- الإيجاز في الدّعوة وعدم الإطالة في وقت النُّصح والإرشاد؛ حتى لا تملّ نفوس المدعوّين.
- من الضروري- أيضًا- معرفة طبيعة العصر وطبيعة الناس فيه، ولا بد من إزالة الحرج من صدورهم ببيان حكم الله فيما شرع، وبذلك يتقبلون الحكم راضين منشرحين، فمن كان مرتابا ذهب ريبه، ومن كان مؤمنا ازداد إيمانا.
- الاستعانة بالله- تعالى- والدّعاء للمدعوّ بأن يهديه الله عزّ وجلّ، مع عدم الاستعجال على تحصيل النتيجة والآثار المطلوبة.
إن من أهم قواعد الدعوة إلى الله سبحانه، إنزال الناس قدرهم، لأن الدعوة إلى الله تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، ومن الحكمة معرفة المناسب من الدعوة لكل فئة من الناس.
المصادر والمراجع:
- همام سعيد: كتاب قواعد الدعوة إلى الله، دار الفرقان، يناير 2014، صـ 36-38.
- الدكتور خالد روشة: خاطبوا الناس على قدر عقولهم.
- الدكتور يوسف القرضاوي: مخاطبة الناس بلغة العصر.
- عبد الرحمن بن فؤاد الجار الله: فن التعامل مع الناس.
- ابن حجر: فتح الباري، 1\162.
- النووي: شرح مسلم 1\75.