إنّ إغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج خُلُقٌ إسلامي عظيم، ودليل على مروءة الإنسان وشهامته، خصوصًا أنّ الإنسان بطبعه خلق ضعيفًا ويحتاج للمساعدة بكل أنواعها في كثير من المواقف، سواء كان بالمال أو النصيحة أو المواساة، لذا حث الإسلام على تفقد الأصدقاء والجيران لتقديم العون لهم في الأوقات التي يحتاجون فيها إلى الدعم.
وشهدت السيرة النبوية منذ صدر الإسلام هذه القيمة، فحينما عاد النبي – صلى الله عليه وسلم- من غار حراء خائفًا تلقفته السيدة خديجة مُهوّنة عليه بأنّ الله لن يخذله، لأنه يغيث الملهوف، ويرحم الضعيف ويسارع إلى نصرة الخائف، وهي من أعظم العبادات لقول الإمام ابن تيمية: “من أعظم العبادات: سدّ الفاقات وقضاء الحاجات ونصْـرة المظلوم وإِغاثة الملهوف والأمر بالمعروف” (1).
معنى إغاثة الملهوف
أوضحت كُتُب المعاجم العربية معنى إغاثة الملهوف أو المكروب، فورد في معجم المعاني الجامع أن الملهوف في اللغة من لَهِف يلهَف لَهَفًا فهو لاهف ولهْفان ولهِف، والمفعول ملهوف عليه، والجمع لهافَى ولُهُف، ويُقال لاهف القلب أي محترقه، ولهِف الشخص على ما فات، أي تحسّر وحزِن عليه.
ويُقال عن الشخص ملهوف على شيء، أي يسعى إليه بحرص شديد وتشوّق كالذي يسعى إلى المنصب ويتشوّق إليه، ويُقال رجل ملهوف، أي رجل أصابه الحزن والغمّ بسبب فقدان عزيز، أو ذهاب مال، فهو يستغيث الناس ويناديهم، ويُقال رجل عاشق ملهوف القلب، أي قلبه محترق من الحبّ والشّوق إلى الحبيب (2).
إغاثة الملهوف في الإسلام
أكد الإسلام أنّ مِن أسباب بعث النبي – صلى الله عليه وسلم- تقويم الأخلاق لكونها ترجمة حقيقية لتعاليم الإسلام، وهو المعنى الذي وصفت به السيدة عائشة النبي – صلى الله عليه وسلم-: “كان خُلُقُه القُرآنَ” (صحيح الجامع).
وحفل القرآن الكريم بالعديد من صور إغاثة الملهوف والمكروب، ومن أشهرها قصة سيدنا موسى حينما ورد ماء مدين وأغَاث لهفة امرأتين ضعيفتين، يقول الله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص:23- 24].
والشهامة ونصرة الضعيف كانت من صفات النبي – صلى الله عليه وسلم-، بل كانت من صفات قريش وأكدها الإسلام بعد ذلك، وفي ذلك يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- :”مَن كانَ في حاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه بها كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ” (صحيح مسلم).
وفي الوقت الذي نهى النبي – صلى الله عليه وسلم- عن الجلوس في الطرقات، استثنى منذ ذلك بعض الأمور، كإغاثة الملهوفين، فيقول صلى الله عليه وسلم: “وتُغِيثوا الملهوفَ، وتَهدُوا الضَّالَّ” (صحيح أبي داود).
واقع مر
رغم توضيح الإسلام أهمية حسن الخلق والتراحم بين الناس، فإن واقعنا ينم عن خللٍ كبيرٍ في المنظومة الأخلاقية، فأصبحت إغاثة الملهوف محل اتهام ومخالفة للقانون، بل ربما يغيب صاحب هذا الخلق خلف قضبان السجون.
وكشف واقعنا عما طرأ على سلوكيات بعض المسلمين في بلاد الغربة، الذين انشغلوا بأنفسهم عن غيرهم من الملهوفين والمكروبين، وربما بخل بعضهم بالقليل ينفقه، وتناسى البعض ما تعلمه في أخلاق، وما رفعه من شعارات، وما عاشه من أوقات في التربية على نصرة المظلوم.
وربما ينسى البعض أنه لو عاش بالقليل فهناك مَن هو مكروب ولا يجد القليل ويحتاج للكلمة الطيبة، والموقف الطيب. وصدق الرسول الكريم حينما شرّع قاعدة أخلاقية بقوله: “من نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كُرَبِ الدنيا نفَّس اللهُ عنه كُربةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومن يسَّر على مُعسِرٍ، يسَّر اللهُ عليه في الدنيا والآخرةِ” (صحيح مسلم).
وزخرت كُتب السيرة بكثير من مواقف الرسول في نصرة المظلوم والمكروب، حتى إنه اشتهر عنه قبل البعثة – كما قالت السيدة خديجة-: كان يحمل الكلَّ، ويقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق (3).
واقتفى صحابته الأخيار أثره فساروا على دربه، ففي سنة 18 من الهجرة ضرب المدينة قحط ومجاعة لم تعرفها العرب في تاريخها ومات الزرع، وكثير من النساء والأطفال وهو ما سُمي بعام الرمادة، فضرب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- المثل الأعلى لرعيته فكان أول مَن جاع، وكان يستحث الأغنياء على النفقة حتى أنفق كثير من الصحابة الكثير مما يملكون لإغاثة المسلمين ولم ينتظر منهم أحد أجرا ولا شكورا.
كما أنّ ولاة المسلمين حركوا القوافل إغاثة لأهل المدينة حتى كتب إليه عمرو بن العاص قائلا: “أتاك الغوث -يا أمير المؤمنين-؛ لأبعثنَّ إليك بعِيرٍ أولُها عندَك، وآخرُها عندي” (4).
وأتى رجل صديقًا له فدقّ عليه الباب، فخرج الصديق، وقال له: ما جاء بك؟ قال: عليّ أربعمائة درهم دين, فوزن له صديقه أربعمائة درهم، وأعطاه إياها، ثم عاد وهو يبكي! فقالت له امرأته: لم أعطيته إذ شق عليك؟! فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتحتي (5).
وصدق معمر بن راشد – أحد التابعين-، حينما قال: من أقبح المعروف أن تحوج السائل إلى أن يسأل وهو خجل منك، فلا يجئ معروفك قدر ما قاسى من الحياء وكان الأولى أن تتفقد حال أخيك وترسل إليه ما يحتاج ولا تحوجه إلى السؤال (6).
فضل إغاثة الملهوفين
يقول النبي الكريم صلوات الله وتسليماته عليه: “إنَّ للهِ أقوامًا اختصَّهم بالنِّعمِ لمنافعِ العبادِ، يُقرُّهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحوَّلها إلى غيرِهم” (حسن لغيره). وفي هذا الحديث يوضح النبي فضل مَن يقوم على حوائج الناس، بل هو اصطفاء من الله لهؤلاء الذين يسيرون في قضاء الحوائج.
وإذا غضب الله على قوم سلب منهم هذه القيم، فمن أنكر فضل الله عليه بترك صُنع المعروف لمن طلبه فإن ذلك إيذان بزوال النعم، وهو الذي ذكره النبي بقوله: “ما من عبدٍ أنعمَ اللهُ عليه نعمَةً فأسْبَغَها عليه ثم جعل من حوائِجِ الناسِ إليه فتَبَرَّمَ فقَدْ عرَّضَ تلْكَ النعمةَ للزوالِ” (إسناده جيد).
والشهامة ونصرة الضعيف تقي مصارع السوء وتُنَجي العبد من مشكلات ومحن قد يواجهها في حياته، كما أنها أمان لصاحبها في الدنيا والآخرة، وليس ذلك فحسب، بل يرزقه الله استدامة النعم، ورد سوء المقادير في النفس والأهل والولد والمال وتفريج الكربات، ويرزق الله صاحبها محبة الناس ودعاءهم؛ لأن النفوس مجبولة على حب من يتمنى لها الخير. هذا غير انتشار المودة والسرور بين الناس، وتقريب القلوب، وإزالة شحناء النفوس (7).
ولم يربِّ الإسلام أتباعه على اتباع الأخلاق مع المسلمين فحسب، لكن جعلهم الله – كما جعل نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين. والشهامة والمروءة لا تقتصر على المسلم دون غيره أو الإنسان دون الحيوان، أو الأبيض دون الأسود وغيره، بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم- أثنى على أخلاق بعض الكفار في الجاهلية بعدما أسلموا لإغاثتهم الملهوف، كحاتم الطائي وغيره.
أثر المروءة على المجتمع المسلم وغير المسلم
وكما أنّ إغاثة الملهوف والمروءة والشهامة لها أثر على الفرد، فلها آثار عظيمة على المجتمع الذي يشيع فيه الحب والمودة والألفة بين الناس لتعاونهم فيما بينهم، ونصرة المظلوم ومجابهة الظالم والوقوف مع الحق أينما كان. ولهذا الأمر بركة في الرزق، وقوة في عين الأعداء لتلاحم وترابط المجتمع، وهو الجانب المهم الذي حرص النبي أن يقوم به في بداية نشأة الدولة الإسلامية في المدينة.
وربما المجتمعات الغربية تتعامل بالفكر المادي، لكن المسلمين المتواجدين بين غير المسلمين أصبح عليهم واجب عظيم بإظهار أخلاق الإسلام الحميدة لهؤلاء، ليعرفوا حقيقة الإسلام واقعيا وليس ما يبث لهم عبر الإعلام.
فكثير من مواقف إغاثة الملهوف في مجتمع غير المسلمين كانت سببا في تدبر هؤلاء في هذا الخلق، ولماذا لا يأخذ المسلم مكافأة على هذا الفعل كما يفعل الرجل الغربي، وما هو الدين الذي يؤمن به ويحثه على ذلك، بل إن كثيرًا من هؤلاء لا ينسون مثل هذه المواقف التي رأوا فيها الإسلام بصورة عملية واقعية.
وبمثل هذه الأخلاق ينتشر الإسلام بين الناس ويقوى بل وتتضح الصورة الحقيقية للإسلام لهؤلاء الناس، وهو ما اعترف به المؤرخ الأوروبي جوزيف رينو بقوله: إن المُثُل العليا في الشهامة والشجاعة وعزة النفس وغيرها إنما هي المثل التي يدعو إليها الإسلام أتباعه ويوصيهم بها في كتابه القرآن الكريم (8).
بل إنّ المصور الأمريكي نورمان جرشمان عرض في معرضه بمتحف “يد فشيم” في القدس الغربية الذي سمّاها كلمة حق، صورا التقطها في ألبانيا تُوثّق قيام مسلمين هناك بإنقاذ حياة عشرات اليهود من الملاحقة والقتل على أيدي النازيين في الحرب العالمية الثانية (9).
إنّ هذا الخلق الكريم تحتاجه الإنسانية بشدة، وهو من الأخلاق التي حثّ عليها الإسلام وزكى فاعلها وبَشّره بالفوز في الدنيا والآخرة.
المصادر
- مجموع فتاوى ابن تيمية: جمعها عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، المجلد 28، مجمع الملك فهد، 2004، صـ243.
- “تعريف ومعنى الملهوف في معجم المعاني الجامع”، المعاني لكل رسم معنى:
- ابن هشام: السيرة النبوية، الجزء الأول، دار الجيل للطبع والنشر، القاهرة، 2011.
- علي أحمد باكثير: عام الرمادة، مكتبة مصر لطباعة الأوفست، القاهرة، 1986م.
- شهاب الدين الأبشيهي: المستطرف في كل فن مستظرف، الجزء الأول، دار مكتبة الحياة، 2008، صـ169.
- محمد المختار بن عابدين بن المختار الشنقيطي: مرام التواق إلى محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق، دار الكتب العلمية، بيروت، 2008،صـ33.
- إبراهيم بن محمد الحقيل: صنائع المعروف تقي مصارع السوء، 30 مارس 2017، https://bit.ly/3CreijV
- أبي النصر مبشر الطرازي الحسيني: الإسلام الدين الفطري الأبدي، الجزء الأول، دار الكتب العلمية، بيروت، 1984، صـ266.
- وديع عواوده: يهود أوروبا لجؤوا لمسلمي ألبانيا هربا من النازيين، 10 ديسمبر 2007،