طفلي عُمره سبع سنوات، مثالي بدرجة زائدة، ومؤدب وخلوق، وأيضا فنان ولديه ذكاء تحليلي يحب الغوص في بواطن الأمور، ولديه شغف بالبحث العلمي، إلى جانب ذلك يحب الناس ويحسن الظن بهم، والكبار كلهم يحبونه، لكنه دائما بين رفاقه مرفوض، سواء في المدرسة أو الشارع أو مع أي تجمع طفولي، وأحيانا يُصاب الطفل باليأس ويقول إنه فاشل في كسب الأصدقاء، وإنه كلما رافق أطفالًا فإنهم سرعان ما يبتعدون عنه، تُحبه المعلمة في المدرسة؛ لأنه مؤدب ومتفوق، ولكنه وحيد بلا رفقة، وطلب مني أن أنقله من المدرسة، لأنه وحيد بين رفاقه الذين يرفضون صداقته، حيث انهار باكيا وقال: كل الفصل يرفض مصادقتي، وبعضهم يضربني، وآخرون يأخذون أدواتي أو طعامي بالقوة، وبعضهم يسخر منّي أو يشتمني!، ولكن والده رفض فكرة نقله من الفصل أو المدرسة، واعتبر أنّ فعلًا كهذا سيجعل منه شخصية هاربة لا تُواجه المشكلات ولا تعمل على حلها.. فما الحل؟
الإجابة:
نحن نتفق مع رأي الزوج بعدم نقله من المدرسة لا لشيء إلا لأنها خطوة لا تُعالج أصل المشكلة، فلو أنا علمنا أن المشكلة في مكان بعينه يستطيع الابن خارجه أن يُكوّن صداقات لقلنا إن نقله يمكن أن يكون حلًّا، لكن كما أوضحت الرسالة أنه يواجه هذه المشكلة في أكثر من مكان، لذلك وجب التفكير في السبب وراء هذه المشكلة للتركيز عليه، لأنّ نقله لمكان آخر مع عدم إمداده بالمقومات اللازمة قد يعرضه لتكرار المشكلة نفسها، ومن ثم يرسخ هذا لديه فكرة فشله في تكوين صداقات أكثر.
يجب أن نعرف أولًا أن الأطفال يتفاوتون في مهاراتهم الاجتماعية وفي ميلهم للانفتاح وقدرتهم على الاندماج مع الآخرين، وإن كان الابن لا يمتلك مهارة كسب الأصدقاء فإنه يمكن إدخال بعض التحسينات ومحاولة دعمه باستمرار بشكل يحسن من الوضع، فمن الجيد أننا بصدد مهارة تكتسب.
كما ذكرنا يجب أن يكون التركيز على الأسباب التي تؤدي إلى فقدانه الأصدقاء أو ابتعادهم عنه، فربما تميزه في جوانب عدة كما ذكرت يصيبه بثقة في النفس زائدة عن الحد، ربما يشعر باقي الأطفال تجاهه بالغيرة بسبب ما ذكرت من حب المعلمة له إن كان ذلك واضحًا لهم، ربما يفتقد لبعض المهارات الاجتماعية أو يفتقد للمرونة في التعامل.
كذلك يتفاوت الأطفال في التزامهم الأخلاقي، فبعضهم تكون لديه القيم الأخلاقية واضحة وحاكمة ولا مرونة مع تطبيقها، بل إنهم كما يوصفون (لديهم حِدة في تطبيقها)، ويبدو أن هذا ما وصفتِهِ بالمثالية لدى الابن، وهو ما قد يعرض حياته الاجتماعية لبعض المشكلات، حيث يضجر من حوله أو يشعر هو برغبة في الانسحاب من المجتمع إذا رأى خللًا في تطبيق منظومته الأخلاقية التي يعرفها.
قد يكون الابن كذلك غير ملم باهتمامات الأطفال في هذه السن ونتيجة لاهتمامه بمجالات الفن والعلوم كما تقولين فقد يكون مفتقدًا لمعرفة ألعاب واهتمامات الأطفال من نفس جيله، ومن ثم لا ينجذب مَن حوله له ولا يجدون مساحة مشتركة معه، المهم أننا نقترح عليكم بذل جهد كاف ومحاولة التركيز والتحليل وراء الأسباب الحقيقية؛ لأن هذا هو مفتاح الحل. وهذا يلزمه استمرار مراقبته عن بعد وهو يتعامل مع باقي الأطفال وفهم كيف تسير الأمور.
من ناحية أخرى، يجب عليكم توسيع دوائر الأنشطة التي يتعامل معها الابن ومن بينها الذهاب إلى المسجد والنادي وغيرها من الأماكن، بحيث لا تغلق عليه الدائرة التي يشعر داخلها بالرفض، هذه التوسعة ربما تتيح له التعرف يومًا ما على أصدقاء يشبهونه أو يبادلونه نفس الاهتمامات، وبخاصة تلك الأنشطة التي ترتبط بمهارات يجيدها، ومن ثم تسمح له بالتلاقي مع أطفال لديهم ذات الشغف، بل ويتميز بينهم بهذه المهارات فيصبح هذا عنصر جذب لهم وفرصة لتنامي الصداقة. وبشكل عام يجب المداومة على دعم مهاراته الحالية لدعم ثقته بنفسه باستمرار وتقليل المساحات التي يشعر فيها بالإخفاق.
يمكنكم- أيضًا- استغلال مناسبات مختلفة لإقامة حفلات واستضافة زملاء الفصل فيها، أو استغلال مناسبات كرمضان وعيدي الفطر والأضحى لإرسال هدايا وحلوى لزملائه، ما قد يوفر فرصًا للتقارب.
من المهم- كذلك- ألا يكون الطفل منفصلًا عن واقع أقرانه، وما يجذب اهتمامهم، فمثلًا ينتشر بين الأولاد البنين الاهتمام بممارسة لعبة كرة القدم، وغالبا الأطفال الذين يجيدون لعب كرة القدم تجدين لهم قبولًا وسط البقية، يمكنك بشكل مرحلي ولأهداف اجتماعية أن تحاولي اكتشاف مهارات ابنك في هذا الجانب بهدف خلق مساحة مشتركة بينه وبين باقي الأطفال. أو غيرها من الاهتمامات التي تجمع الأطفال في هذه السن، طالما ليس فيها ضرر على الابن.
وعلى كل حال؛ فهذه تجربة اجتماعية مهمة للغاية للابن، كي يفهم طبيعة الحياة، ويفهم طبائع الناس ويتعلم كيفية التعامل معهم، لكن عليكم باستمرار في المقابل دعم ثقته بنفسه، ومناقشة أفكاره والحديث معه عن أن الاختلاف بين الناس طبيعي، وأن لكل إنسان مدخله في التعامل، وأننا لن نكون دومًا مقبولين وسط كل الناس، كما عليكم استقبال حالات الإحباط لديه بالتقبل دون أن التعالي على الآخرين، أو إخباره أنه ليس في حاجة للغير؛ لأنه لا غنى عن تكوين علاقات بالآخرين.
يمكنكم- أيضًا دون أن يعلم الابن بذلك كي لا يعتمد عليكم في حل مشكلاته- أن تتواصلوا مع أولياء أمور باقي الأطفال أو من تتوسمون فيهم الخير وتحبون أن يصاحبهم الابن، بحيث يبذل هؤلاء الآباء مجهودًا معكم ويتعاونون لقضاء أوقات أكثر معًا- دون إجبار للأطفال أو طلب مباشر بمصاحبة الابن كي لا يأتي بنتيجة عكسية- وربما تنظمون نزهات وزيارات لا تضم عددًا كبيرًا من الأطفال كي تزيد فرص التقارب.
ليس التواصل مع أولياء الأمور فقط، بل قد يفيد كذلك التواصل مع معلميه في الفصل لنقل الصورة بشكل أقرب وسماع مقترحاتهم وما إن كانوا يستطيعون جمعه في أنشطة بأطفال يشبهونه أو يبدو بينهم نوع أو أكثر من التقارب.
وإن كان من سبيل ولو بإلحاقه بدورات تدريبية مناسبة لسنّه لتعلم بعض المهارات الاجتماعية المهمة في التعامل مع الآخرين كالقدرة على الإنصات، وعدم التباهي، والمرونة، والقدرة على التفاوض وغيرها من المهارات فبها ونعمت.
في النهاية.. نحن نتوقع تلاشي هذه المشكلة مع التقدم في السن ودخول مراحل عمرية مختلفة، فقد تكون متفهمة في هذا السن لصغره لكن مع الوقت ستتحسن الأمور تلقائيًّا في هذا الجانب إن شاء الله، ونذكرك بدعاء إبراهيم- عليه السلام- لما ترك السيدة هاجر وسيدنا إسماعيل في صحراء مكة وحيدين فدعا ربه قائلًا: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}، فعليكما الدعاء لصغيركما باستمرار أن يحرك الله له القلوب، سبحانه وتعالى من بيده كل القلوب.