أنا سيدة لي عدد من الإخوة والأخوات، نُعاني من أب مزواج، نكاد نعرف شكله في صغرنا، تُوفّيت والدتنا ونحن في مراحل عُمرية مختلفة بعدما تعبت كثيرًا في تربيتنا بمفردها لأن الوالد لم يكن داعمًا لها في تربيتنا، ثمّ تزوج أبي بإنسانة للأسف سيئة الخُلُق، أنجبت منه أكثر من ابن، وأمام ضعف شخصية والدي معها كتب البيت باسمها، وأضاع حق كل أبنائه الذين طالما ظلمهم، واحد من أبناء هذه المرأة كشف سوء خُلقها وعدم إخلاصها لوالدي، وطردها من البيت، حتى والدي بعد ما تبين له هذا قرر طلاقها.
لكننا وجدنا والدنا قد تغير فجأة وصار يتهمنا نحن بأننا ظلمناها، وبعدما كان ابنها مُتعجب من موقف أبي، عاد إليها مرة أخرى، ونحن انقلبت حياتنا إلى جحيم بسبب كثر المشكلات، وهذا لأن هذه المرأة على علاقة بأعمال السِّحر وما شابه.. سؤالي الآن بعد كل الأذى والظُلم والفضائح التي طالتنا من والدنا، هل يُمكن أن نقطع صلتنا به لأننا نرغب في ذلك ولكننا نخاف من الله؟
الإجابة:
ليس من الهيّن أبدًا أن يذوق المرء شعور الظُّلم على يد أقرب الناس إليه، تعيشين وإخوتك واقعًا صعبًا ننصحك فيه بعدة نصائح لتخفيفه والخروج منه بأقل أضرار ممكنة.
نبدأ من حيث ذكرتِ أن والدكم تغير فجأة وصار يتهمكم بالظلم.. إذا كنتم على ثقة من علاقة زوجته بأعمال السحر فالحل في كتاب الله، حاولوا إقناع والدكم أن يعرض نفسه على شيخ تقي صالح يعالج بالقرآن والرقية الشرعية، وفي ذلك تجدون الدواء الشافي بإذن الله.
ومن ناحيتكم فعليكم بتحصين بيوتكم بذكر الله، وأذكار الصباح والمساء، وقراءة القرآن، وبخاصة سورة البقرة، فقد قال رسول الله: “اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ”، والبطلة هم السّحرة لا يستطيعون الإضرار بمن تحصّن بسورة البقرة.
وتجدر الإشارة هنا إلى عدة أمور هامة عليكم مراعاتها جنبًا إلى جنب مع العلاج والصبر.. وأولها سلامة الصدر؛ فما أعظم نفع سلامة الصدر لصاحبه، تجعل المؤمن مرتاحًا في الدنيا كما أنها تُنجّيه يوم القيامة، حين أخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صحابته بطلوع رجل عليهم من أهل الجنة، ولمّا تفقد الصحابة حاله عرفوا أنه يبيت لا يجد في نفسه على أحد من المسلمين غِشًّا، ولا يحسد أحدًا على ما أعطاه الله، وكثرة المشكلات التي تعايشونها بسبب زواج الوالد من هذه المرأة، من شأنها أن تترك الكثير من مشاعر الحنق والسخط والكراهية بشكل قد يؤثر على سلامة قلوبكم، فتعيشون بسبب هذا معاناة فوق التي تعيشونها، فسلامة الصدر أمر ضروري لكم في المقام الأول.
ثانيًا: من الضروري ما دُمتِ ذكرت في السؤال مخافة الله أن تعملوا على تنقية قلوبكم لئلا يكبر داخلكم الغل والكراهية، إذ لا ينفع يوم القيامة مال ولا بنون (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء: 89).
نوصيك كذلك أن تتعاوني وإخوتك على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، ولا تنجروا إلى مجالس النميمة والغيبة، لا ينقل أحدكم للآخر ما يُوغر به صدره، واجعلوا نصب أعينكم نموذج إخوة يوسف كيف أنه ومع عددهم اتفقوا على الشر وأضمروه، فأحيانًا يقوي الجمع بعضه بعضًا ولو على الخطأ، ويحرم ذلك المرء من رؤية الحق، ولتذكروا قول الله تعالى (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَاٰنُ قَوْمٍ عَلٰٓى اَلَّا تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا۠ هُوَ اَقْرَبُ لِلتَّقْوٰى) (المائدة: 8).
ثالثًا: نوصيكم بالتثبت قبل الحكم على أحد من خلق الله، واحذروا من أن ترموا أحدًا بالباطل، فقد أمر الله تعالى العبد بالتبيّن دائمًا حين قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
ثقوا في أن الله هو العدل وأنه- سبحانه وتعالى- حرَّم الظلم على نفسه وجعله بين عباده حرامًا، وأن الله لا يقبل توبة ظالم قبل أن يرد حقوق من ظلمهم، وأن عاقبة الظلم تظهر في الدنيا قبل الآخرة، وأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
تحدثوا مع أبيكم بالرفق واطلبوا منه العدل الذي تنشدون، واتفقوا معًا على ما يناسب كل الأطراف بلا هجوم أو أحكام مسبقة ولا رغبة في الانتقام أو قطيعة رحم، حافظوا على بركم بأبيكم حسبة لله، فالاستثناء الوحيد لقاعدة البر معلوم بنص القرآن (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان: 15).
ليس شرطًا أن يتم هذا البر بكثرة المخالطة ما دام يتحقق بهذه المخالطة الضرر، لكن احرصوا على البر دون القطيعة، ولعل قربكم وتوددكم إلى أبيكم يرده إلى الصواب وينجيه من الشر، وأبناؤكم بحاجة إلى أن يروا نموذجًا للبر متحققًا فيكم على صعوبته حتى يتربوا على البر.
رابعًا: وإذا كنتم تخشون الضرر الواقع بكم بسبب اتصالكم بأبيكم فيجب عليكم أن تخشوا ذلك الضرر الذي قد يقع عليكم في حال قطعتم الرحم، فقد قال الله تعالى: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ (23)) (سورة محمد).
وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قاطع الرحم: “ما من ذنب أجدر من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم”، وقال كذلك: “لا يدخل الجنة قاطع”.
كما أن لصلة الرحم فضل عظيم، والتي حدد معناها رسول الله في حديث “ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها”، وهي سبب في سعة الرزق والبركة، فلعل بحرصكم على بر أبيكم تنحل هذه العقد التي أوردتيها في السؤال.
وقد سُئل رسول الله عن الإثم فقال: “إذا حاكَ في نفسِكَ شيءٌ فدَعهُ”، وما دامت قطيعة والدكم قد حاكت في نفوسكم ولم تطمئنوا لها، فاعلموا أنها إثم لا خير فيه.
واسألوا الله العافية، واعلموا أنه- سبحانه وتعالى- النافع والضار، حتى لا تفسد عقيدتكم باعتقادكم أن زوجة أبيكم هي سبب كل ما تعيشونه، اجعلوا الله حسبكم فهو نعم الوكيل، والزموا الدعاء بصلاح الحال والهداية للجميع.