مع كثرة الأحداث الدموية والقتل والموت الذي يراه ابني الصغير في التليفزيون والإنترنت وجدته يسألني كثيرًا عن الموت، فكيف أتحدث معه عن الموت وإلى أي مدى يمكنه استيعاب الموضوع؟
الإجابة:
بداية ليس من الصحيح كثرة التعرض إلى مثل هذه المشاهد للكبار، فما بالنا بالصغار! وذلك لما تولده في النفس من أفكار ومشاعر مضطربة، قد تؤدي بهم إلى ما لا يُحمد عقباه، سواء على المستوى النفسي أو الجسدي أو الديني أو الفكري. مثل هذه المشاهد الضرر منها أكثر من النفع.
لكن أمَا وأن الطفل قد شاهد بالفعل وتأثر وبدأ في السؤال عن الموت، فهذه فرصة للتعليم والرد على ما يدور داخله من شبهات.
تختلف إجابة السؤال عن الموت بحسب عُمر الطفل، فالكبير يمكن أن يتم تناول الأمر معه بشيء من التفصيل، أما ابن السابعة وما أقل فنجيبه إجابات صادقة مختصرة، لكن دون الخوض في التفاصيل. فنخبره ببساطة دون قلق بأن الإنسان حياته عبارة عن مراحل تبدأ بمرحلة الجنين، ثم الميلاد والحياة، ثم الوفاة، ثم مرحلة الحياة مرة أخرى في الجنة، ليفهم أن الموت ما هو إلا مرحلة وليس النهاية.
وأثناء الحديث معه عن المراحل التي يمر بها الإنسان، من المهم أن نعرفه بالهدف من خلق الله للإنسان. ليعرف أنه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وأن الحياة عبارة عن اختبار طويل- كاختبارات المدرسة – تنتهي بالموت الذي هو بداية تلقي المكافأة والجزاء لمن ينجح في اختبار الدنيا وهي الفوز بالجنة، ولا يفضل ذكر النار في هذه المرحلة (ما دون السابعة). فبذلك يفهم سبب خلقه، ويفهم طبيعة الحياة- أنها دار اختبار- ننتقل بعدها لمرحلة الجزاء عبر الموت.
من المفيد في هذا السياق تعريض الطفل لبعض مشاهد الموت في النباتات والحيوانات والطيور من حوله. فإذا شاهد ذبول زهرة بعد اشتداد عودها أو قطف زهرة فماتت بعد أيام ومع لفتنا لانتباهه، فإنه يقترب قليلًا من مفهوم الموت، ويبدأ بالمقارنة بين خصائص الزهرة وهي حية مزدهرة وخصائصها بعد موتها وذبولها.
والتعرض كذلك لموت حيوان أليف على سبيل المثال فرصة أكبر للتعلم. فإذا ما شاهد طائرا ميتا فلا نجزع أمامه، نتعاطف مع حزنه على موت الطائر أو تأثره، ونبدأ في تعليمه من خلال الموقف كيف عرفنا بموته؟ إذ سيلحظ أنه لم يعد يتحرك ولم يعد يتنفس، المرآة أمام أنف من يتنفس يتكاثف عليها بخار الماء، أما أمام من مات فلا يحدث هذا، ثم نبدأ في تعليمه كيف نتصرف مع هذا الطائر الميت، وهنا ربما من المفيد أن نحكي له قصة قابيل وهابيل التي وردت في سورة المائدة: (فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابا یَبۡحَثُ فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیُرِیَهُۥ كَیۡفَ یُو ٰرِی سَوۡءَةَ أَخِیهِۚ قَالَ یَـٰوَیۡلَتَىٰۤ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَـٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَ ٰرِیَ سَوۡءَةَ أَخِیۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِینَ).
أما إذا حدثت وفاة في الدوائر القريبة من الطفل فلا بُد من أن نقول خبر الوفاة دون ربطه بخبر غير حقيقي كأن يقول البعض أحيانًا أن الشخص الذي مات قد سافر، وذلك حتى لا تتكون لدى الطفل أفكار خاطئة عن السفر كأن يتخيل أن كل مسافر ميت.
أو أن نقول عن الشخص المتوفى أنه في المشفى، ومع طول غيابه يربط بين دخول المشفى والاختفاء من الحياة وهذا في الواقع غير صحيح.
الصحيح مع السن الصغير ألا نقرن الوفاة بأسباب، بل نقول إن فلان توفاه الله وأنه انتقل من مرحلة الدنيا إلى التي تليها، وهذا ليس معناه النهاية، بل إنه ينتظر دخول الجنة، على أساس أننا أوضحنا له سابقًا أن الإنسان يمر بمراحل.
وحين يعلم الطفل أن هناك صلة بيننا وبين مات تتمثل في الدعاء وإخراج الصدقات له، يعلم حينها أن علاقتنا بمن مات لا تنتهي وإنما يختلف شكلها فقط. وفقًا لما أخبرنا به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله تعالى عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ” (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
بذلك نكون قد مهدنا للحديث عن الوفاة على ثلاث مراحل، مرحلة المعلومة المجردة، ثم التعلم من خلال وفاة الكائنات الأخرى، ثم الاقتراب من الفكرة أكثر مع وفاة أحد المقربين.
في النهاية فإن الله الذي خلق الإنسان هو مَن قدر عليه الموت، وقد سبق علمه- سبحانه وتعالى- بتعرض الصغير قبل الكبير لخبرات وفاة في الحياة متعددة، فمنح الإنسان ما يساعده على استيعابها بل ونسيانها، بل والفرحة للمؤمن حين يقربه الموت من لقاء الله والفوز بجناته، وقد يسهل على الصغير استيعاب الأمر والتعامل معه ببساطة في الوقت الذي تجدين المعضلة أكثر في استيعاب بعض الكبار ورضاهم بأقدار الله في الموت. وقد صحح طفل صغير لشخص راشد كبير وصف الموت بأنه (شر) قائلًا: كيف شر ومن مات قد ذهب لربه؟!