كنت متفوقة منذ الابتدائي وحتى الثانوي، وكنت أحظى بمكانة متميزة، وأحظى باحترام الجميع حولي لكوني متفوقة.
تعرض بيتنا إلى حادثٍ غيّر مجرى حياتنا جميعا، أنا وإخوتي، ما أدى إلى حصولي على مجموع لا يسمح بدخول كلية الصيدلة التي كانت حلمي وحلم أسرتي.
لم يشعر مَن حولي أن الأزمة كبيرة، وبخاصة أن الله هداني إلى تخصص دراسي حيوي.
بعد النتيجة، انفض كل زملاء الثانوية عني، وحتى عندما كانوا يقابلونني في المواصلات قليل منهم مَن كان يتكلم معي، تظاهرت بأنني غير عابئة، ولكن أثر انصراف الأصدقاء السابقين عنى جعل بيني وبين مفهوم الصداقة الحقيقية مسافات كبيرة!
“تحولت تلك اللحظة إلى كابوس أفقدني الشعور بطعم أي نجاح بعد ذلك”.
كلما جاء موعد نتيجة الثانوية أو ثار حديث حولها، أعاني الآلام كما لو كان يوم ظهور نتيجتي قد عاد.. أنا تعبت، وأريد أن أخرج من دائرة الألم وأتحرر من أثر التجربة، فهل أستعين بطبيب نفسي؟
الإجابة:
رسالة إلى أولياء الأمور، رسالة إلى المربين والمربيات..
هذه إحدى نتائج الهالة الضخمة التي يصنعها المجتمع بتسليط الضوء بشكل قوي على نتيجة الثانوية العامة!
اختصار التفوق في شكل واحد، حتى بات الجميع ينظر إلى أوائل الثانوية العامة، نظرة مخترع همام!
لا نقلل من طعم التفوق مطلقا، لكن هذا الزّخم المجتمعي والاحتفاء الزائد بالمتفوقين؛ أوصل رسالة إلى مَن لم يحالفه القدر ويحصل على نتيجة عالية أنه فاته قطر السعادة، وما سوى التفوق لا يقدر!
الهُوَيْنَى على أبنائنا، حينما نُطلق عليها سنة تحديد المصير، فكم مصائر حددت بلا ثانوية عامة! وكم دارس طب وهندسة وغيرهما من كليات القمة عمل بغير ما درس، أو راق له تخصص مغاير ودرسه بعد ذلك.
دور المعلم أن يخرج من الطالب أحسن ما فيه، من مهارات شتى، إحداها التفوق الدراسي، إذا كانت قدرات الطالب تشي بذلك، وإلا فساحات التفوق عديدة، فهنيئا لمَن أوصل لطلابه الرسالة الصحيحة وأخرج أحسن ما في طلابه في شتى جوانب شخصياتهم.
إذا تسليط الضوء على أهميتها بشكل فج، جعل مع أي إخفاق كأن مصيبة كبيرة قد حدثت، والأمر مبني على عدة عوامل، أحدها الاجتهاد.
ويبقى توفيق الله وقدره حاكما وحاسما. والآية تقول: (وَقُلِ اْعْمَلُوْا)، ولم تقل وقل احصدوا!
عملت..أديت.. إذًا لا عليك!
وكم من أناس حزنوا يوم إعلان النتيجة، ثم ضحكوا حينما تجلت أقدار الله لهم، فكان المسار الجديد خيرًا لهم في دينهم ودنياهم.
فنسعى وندعوا الله (اللهم خِرْ لنا الخير ودبر لنا فإنا لا نحسن الاختيار والتدبير).
الأوْلى أن نحث الطلاب على بذل الوسع، والأخذ بالأسباب، وليكن مراد الله فينا كائنا ما كان، نستقبله راضين مسلمين فرحين، ما دمنا أدينا ما علينا: “فعجبا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له” (مسلم).
الرسالة الثانية للمربين الأفاضل، هل رأيتم كيف ربطت الطالبة- أسيرة خديعة التفوق- بين عدم حصولها على نتيجة عالية وانفضاض الأصدقاء عنها!
تقول في أول رسالتها كان الجميع ينظر إليها باحترام حينما كنت متفوقة! إنه نموذج خطير للنظر في عواقب الأمور وإنه لربط خاطئ، حتى وإن حدث بالفعل وبَعُد الأصدقاء عنها، فهذا دليل عدم نضجهم هُم، وليس دليلًا على عدم استحقاقها، أو أن تنظر إلى نفسها بأنها ليست أهلا للحفاظ على دائرة المتفوقين من حولها لأنها أخفقت!
الناس تنظر باحترام لصاحب الخلق الحميد فهنيئا لمَن حاز خلقا حميدا فلمفازته بالقرب من الحبيب المصطفى هي المفازة المستحقة للمجاهدة، والحزن على فوات هذه المنزلة مستحق، قال صلى الله عليه وسلم: “إنَّ من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًكا”.
الناس تنظر لحافظ القرآن نظرة احترام وتقدير، وتنظر للمجتهد في كل مجال نظرة احترام وتقدير.
والذي يقيّم الناس حسب اجتهاداتهم، هو الذي يحتاج إلى أن يذهب لطبيب! الآن أصبح المعلمون أوعى لآثار تكريم المتفوقين وإهمال غيرهم، فأصبحنا نرى المدرسين يمنحون ذوي الخط الحسن شهادة تقدير، والمنتظم في الحضور يمنح شهادة تقدير- أيضا-، وكذلك صاحب السلوك الحسن، وغيرهم.
وهذا أنتج عند الطلاب رضًى حقيقيا لا وهميًا؛ لأنهم اكتشفوا وطوروا مهاراتهم وقدراتهم التي لا تندرج تحت “التحصيل الدراسي”.
وميزة هذا النوع من التقدير، أنّ معنى التنافس قد اختلف، فأصبح يتنافس الطالب مع نفسه، وليس مع زملائه، فتصبح بذلك بيئة التعلم أكثر إثمارًا، لأنها تقْدُر كل طالب قدره.
الرسالة الثالثة للأهل والمعلمين الأفاضل:
أرأيتم عمق الإيلام وأثره! مرت السنوات وأنهت الطالبة دراستها الجامعية، وما زالت تتألم يوم ظهور النتيجة، وتسأل هل أذهب لطبيب!
لم يتخيل أحدهم وهو يشحذ الهمم أن ثمة إخفاق نتيجة لظرف يبدل حياة شخص ويهدر استمتاعه بما قدره الله له.
فحنانينا على أبنائنا ونحن نجتهد أن نخرج أحسن ما فيهم..قد تصلهم رسائل خاطئة.. ويصبح تحميسهم وبالا عليهم إذا ما أخفقوا.
والأمر يمكن تداركه برغم مرور السنين، وليذهب مَن يعاني من تجديد لآلامه أيا كانت لاستشاري نفسي، يحدد معه جلسات علاج، حسب حالته، ومدارس العلاج في أيامنا هذه عديدة، أكثرها مفيد، وسيكتشف الشخص بعدها أنه ظلم نفسه بتأخير ذهابه إلى أهل التخصص، وأنه ترك نفسه تتعطل كثيرا، والأمر كان أبسط من أن يُترك لكل هذه السنين!
ألا أيها الأهل، هذه الرسالة ناقوس خطر، يُبيّن لنا ضرورة فهم فقه الأولويات ونحن نربي أبناءنا، فحفظ النفس أولى أولويات ديننا، فما عسانا أن نفعل بابن اجتاز الامتحانات الدنيوية وعُوِّق نفسيا بسبب مفاهيم خاطئة.
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.