أبي واحد من القلائل الذين يديرون حياتهم وحياة أبنائهم بنجاح وعصامية عجيبة يسير فيها من نجاح إلى نجاح.
لكن نجاح الدنيا نجاح مادي فقط، فهو لا يفتأ يجمع المال ويشتري العقارات والأراضي بكل ما يقع في يده من مال، فنهم الشراء عنده عجيب؛ إذ هو يطلب منا كل ما يمكن ادخاره لشراء قطعة أرض جديدة يضيفها إلى القطع المتعددة التي اشتراها من قبل، وإذا ما تجرّأ أحدنا يوما وسأله: لماذا تشتري كل هذا وتحرم أولادك من أموالهم لتشتري أراضٍ وضياعًا ليسوا في حاجة إليها الآن؟ تكون الإجابة المعهودة: “وهل أشتري إلا لكم!” إنني أريد أن أُؤَمِّن لكم مستقبلكم ومستقبل أبنائكم! أنتم جيل ساذج لو تركناه على تفكيره وطريقة حياته لبدد أموال غيره.
هذا هو الرد الجاهز عند أبينا- أكرمه الله-، الذي بسبب اقتناعه به يأخذ منّي ومن إخوتي الأخضر واليابس ولا يُبقي من مدخراتي شيئًا ولا يذر.
وأنا شاب متزوج وعندي بيت وأولاد وإدارة مالية خاصة. ولأن والدي من أصحاب الشخصيات النافذة القوية فأنا أنقاد له، ثمّ إنني أخاف منه، حتى أحيانا أفكر في ادخار مال خاص دون علمه فلا أستطيع رهبة منه.
والنتيجه أنني فقير حاليًّا غني مستقبلا، فكل مالي تحوّل إلى ممتلكات مدخرة لدى السيد الوالد ولا أستطيع أن آخذ منها شيئًا لأنها مستقبلنا ومستقبل أولادنا!
والسؤال الآن: هل المطلوب منّا أن نعيش بائسين من أجل أبنائنا أو من أجل تفكير والدنا العزيز؟ وهل لي أن أُخالفه وأعيش حياتي بالطريقة التي أريد؟ أم أظل على ما أنا عليه حتى يأذن الله؟
الإجابة:
(إنِّي قد خَلَّفتُ فيكم اثنين، لن تضلُّوا بعدهما أبدًا: كتاب الله، وسُنتي، ولن يتفرَّقَا حتى يرِدَا عليَّ الحوض)، من أواخر ما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، ولو اتبعنا هديه ما غالى الأب وما احتار السائل، المبالغة في أي أمر حياتيّ شيء مذموم قد ينبئ أحيانًا بوجود علة تحتاج إلى معالجة، لذلك كان الهدي النبوي (القصد القصد تبلغوا)، فالتوسط في كل شيء هو سمة أساسية: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}. ولو كان السائل أبوك لكان الحديث مختلفًا فلربما طغت لديه شهوة الشراء أو تمكن منه داء حب التملك أو أنه مصاب برهاب من المستقبل، ربما عانى في بناء نفسه فلا يريد لكم تكرار العناء.
لكن نحن مأمورون – نعم أن نغتنم الفرص ونعمل في الحاضر المعلوم للمستقبل المجهول، فقد قال صلى الله عليه وسلم (اغتنم خمسًا قبل خمس، حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك)، فتركز فيما تملكه الآن وتستثمره للحظة قد تتغير فيها حياتك مستقبلًا، لكن في الوقت نفسه نبي الله الذي أوصى بهذا هو القائل: (من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)، وهذا حديث يغذي عين الرضا ويُهذّب النفوس التي تتطلع وتفكر في المستقبل طويلًا.
البعض يظن أنه يستطيع كما يحكم حاضره أن يحكم مستقبله وهذا وَهمٌ كبير، فلا يعلم الغيب إلا الله، ونحن مطالبون تجاه المستقبل ليس بأكثر من الأخذ بالأسباب الممكنة فقط بلا إفراط، فلا عتب على الادخار لكن دونما تنغيص وإفساد للحاضر، فالتفكير الدائم في المستقبل سجن يؤسر فيه صاحبه فينسيه العيش في الحاضر.
وإذا كان هناك انشغال بتوريث الأبناء شيئًا من الدنيا، فلا بأس بتوريث بعض المال لكن مع كثير من الصلاح والتقوى أيضًا، كما قال الله تعالى في سورة النساء: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، فليت الآباء ينشغلون بتوريث هذا لأبنائهم، ولن يكون إلا ما أراد الله، وقد اشتهر أن عمر بن عبد العزيز ترك سبعة عشر دينارًا لورثته وعددهم تجاوز العشرة وهشام بن عبد الملك ورث كل ابن له ألف ألف ومع ذلك شوهد ابنًا لعمر بن عبد العزيز وهو يحمل مائة فرس في سبيل الله وابنًا لهشام بن عبد الملك يُتصدق عليه، وكان عمر بن عبد العزيز قد قال قبل موته عندما سُئل عما ترك لأولاده: (إن الله فيهم وهو يتولى الصالحين).
قد يقول البعض: (أنت ومالك لأبيك)، لكن هذا لا يعني أن مال الابن ملك لأبيه، وإلا إذا مات الابن لآل المال شرعًا لأبيه، بل هو للإباحة والأمر مرتهن بشروط، منها أن يكون الأب في حاجة للمال وألا يكون الابن في حاجة له وألا يسبب أخذه ضررًا لابنه والأهم أن يُؤخذ بموافقته وليس بسيف الحياء.
وبالتالي فلك الحق أن تنكر هذا، وواجب عليك أن تمنع الضرر الواقع بك، لأن في عُنقك أمانة وكما يرعى والدك أمانته بتدبير المال فلزامًا عليك أن ترعى بيتك بتوفير احتياجاته الأساسية، فلا منطق إطلاقًا في كونك فقير اليوم غني الغد. لا يملك أحد يقينًا حول الغد ولا يمكن التأكد من أن مال الغد سيصرف علينا، فلنعمل على أن نحيا به اليوم ونرعى حق الله فيه.
ولا نقول لك أن يكون ذلك بالعصيان أو الصدام، تدبّر طريقة مناسبة تحافظ بها على بِرّك بأبيك – وأنت تتحدث عنه بأدب واضح- ترعى بها حق أهل بيتك، وعليك أن تغالب هذا الشعور بالخوف من أبيك، فله عليك حق البر والاحترام لكن بلا خوف قد يعيقك أن تدبر شؤون حياتك أو يسبب لك مشكلات مع زوجتك حين تشعر أنك لا تملك من أمر حياتك شيئًا، وأنصحك ألا تتحدث باسم إخوتك فلا يشعر أنكم تُؤلبون بعضكم بعضًا، وإذا لم تستطع فربما يفعل هذا شخص ذو حكمة وصلة وقرب بأبيك، ولا تدع هذا الأمر يفسد ما بينك وبينه باستمرار ويثير غضبك تجاهه، لذلك فاحسمه وتحمل عواقب ذلك لمرة واحدة أفضل من عواقب مستمرة لسلوك أبيك تتحملها يومًا بعد يوم.