يكشف النظر في تاريخ التربية في البلاد العربية والإسلامية أن الآراء كانت دائمة مختلفة حول المنهاج الذي يجب أن تعلمه وكيف تعلمه، فنجد أنّ مقلدي القديم أو ما يُطلق عليهم “الآبائيون” يميلون إلى تعليم موضوعات ينتقونها من تراث الأقدمين، وغايتهم الارتقاء بمعارف المتعلمين ومهاراتهم إلى الحد الذي بلغه الآباء الماضون في تحمل مسؤولياتهم وتلبية حاجات مجتمعاتهم.
أما مقلدو الغرب أو ما يُطلق عليهم “المستغربون” فيفضلون استيراد الخبرات التربوية والمؤسسات والأساليب القائمة في المجتمعات الغربية الحديثة، وغايتهم من هذه العملية تأهيل الدّارسين إلى المستوى الذي يحتله رُوّاد هذه المجتمعات في تلبية حاجات مجتمعاتهم وحل المشكلات التي تواجههم.
أهمية التربية الإسلامية
وأهمية التربية الإسلامية تظهر حينما يُواجه المقلدون من المربين مشكلة في المنهاج الذي يتبنونه، وهي أنه لا يُعِدُّ الدارسين للقيام بمسؤولياتهم المستقبلية، فالأمر يحتاج إلى منهاج شامل متكامل يحيط واضعوه بحاجات الحاضر ومشكلاته، ويتفاعلون مع المستقبل وتطلعاته، ثم يُحددون الأهداف واختیار الخبرات، وتعيين الأنشطة والمواقف التعليمية، وتحديد طرائق التعليم وأساليب التقويم، لتعمل كلها معًا لتحقيق الأهداف، وينطلقون في ذلك من أصول دينهم التي شادت حضارة كانت منارة الدنيا قرونًا.
وفي العقود الحديثة زادت أهمية البحث في مناهج التربية وتحديد مواصفاتها ومحتوياتها، لأن الناس يتعرضون في كل لحظة إلى كميات هائلة من الخبرات والمعلومات التي تمطرهم بها وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها، وبخاصة بعد الفضائيات والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
وأمام هذا التفجر المعرفي يجد الإنسان نفسه أمام موقفين متناقضين لا مناص من الأخذ بأحدهما، فإما إن يقبل ببعض هذه المحتويات ويرفض البعض الآخر بطرق تلقائية غير محددة الأهداف ولا مدروسة النتائج، وإما أن يتعامل معها طبقا لأهداف مدروسة تحدد نوع المحتوى الذي تقبله أو ترفضه، ثم تنظم هذا المحتوى في منهاج تبنيه خبرات تخصصية، ويقوم على أسس فلسفية، وأسس اجتماعية ونفسية وعلمية، ثم تنظم المواقف التعليمية والطرق والأساليب التي تهيئ للمتعلم أن يتفاعل مع بيئته المحيطة ليسهم في تحقيق الأهداف المبتغاة، ثم تتبع ذلك كله بالتقويم الذي ييسر التعرف على نسبة النجاح أو الفشل في تحقيق الأهداف المشار إليها.
ويطلق على الطريقة التلقائية الأولى اصطلاح (التربية العشوائية) وعلى الطريقة الثانية المنظمة أسم (التربية الهادفة).
التربية الإسلامية وحقائق القرآن ومسلمات الفلاسفة
لكن المشكلة في التربية الهادفة هي اختلاف أسسها الفلسفية والاجتماعية والنفسية مع قيم المجتمعات الإسلامية ومعتقداتها وتصوراتها عن القضايا المركزية في تكوين شخصية الإنسان، مثل تصورها لقضايا خلق الإنسان والغاية من خلقه ومصيره بعد الموت وعلاقته بالمخلوقات من حوله، الأمر الذي ينعكس على تنظيم المنهاج وتطبيقه طبقا لهذه الأسس المختلفة المتباينة.
ونجد في التربية الغربية – التي نشرها إنسان هذه التربية في غالب بقاع الأرض بوسائله التكنولوجية المتقدمة – يقوم بناء المنهاج التربوي على أسس فلسفية ونفسية مشتقة مما عرفه الإنسان الغربي عن هذا الكون وأسبغ عليه قيمَه، وما عرفه هذا الإنسان وحصيلة التطلعات التي يطورها عن عالمه وحصيلة الاستفسارات التي يتوصل إليها من خلال خبراته في مرحلة الحياة وحدها دون تحقق جاد من مرحلتي النشأة والمصير.
ومن الواضح أن هذه التطلعات والخبرات محكومة بما يعتقده الإنسان الغربي الحديث عن عالمه، وعن الأسئلة والاستفسارات المتعلقة به، لذلك يطلق عليها المختصون مصطلح “مسلمات”، أي: هي ظنون يسلمون بها تسليما دون برهان يقيني، ثم ينطلقون منها ليشتقوا أهداف المنهاج وميادينه ومحتوياته وأنشطته وتقويمه ومن الطبيعي أن تتعدد المسلمات الظنية عند الفلاسفة الذين أفرزوها، الأمر الذي يفضي إلى اختلاف میادین المعرفة ومناهج التربية وتنافرها وتصادم البشر الذي يتربون عليها.
أما في التربية الإسلامية فإن المختصين يبدأون من أسس صادقة يقينية تجنبهم مخاطر التصور الظني، ثم يمضون في بناء مناهج تربوية تستند إلى الشِّرعة الإلهية، ثم تتكون الشريعة من مجموع تطبيقات الشرعة والمناهج التي توجه إلى ميادين الحياة المختلفة، وإلى هذه العملية التربوية يشير قوله تعالى: {…لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة:48].
وتختلف الشرعة التي يقدمها القرآن الكريم عن المسلمات الظنية التي يقدمها الفلاسفة في أن الشرعة منطلق يقيني متناسق مع سنن الوجود وقوانين الكون والحياة لأنها من عند الخالق العليم بما خلق، الخبير بما يخلق، مما يفضي إلى وحدة المناهج وتناسقها وتكاملها وفاعليتها، وتآلف البشر الذي يتربون عليها شريطة أن يفقه المختصون الآيات التي تشرع المناهج منها، وأن يحكموا بناءها وتنظيمها.
واجبات الاستخلاف وثقافة الاستهلاك
إنّ آيات القرآن الكريم تمايز بوضوح بين نوعين من المناهج؛ نوع يقوم على حقائق القرآن ويوازن بين دنيا الإنسان وآخرته، ونوع يقف عند حدود الحياة الدنيا؛ يقول تعالى: {ألم 1 تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ 2 هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ 3 الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ 4 أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 5 وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ6} [لقمان: 1 – 6].
فالنوع الأول هو المناهج التي تشرع من آيات الله الخالق وتستهدف قيام الإنسان بواجبات خلافته في الأرض وتعمل على بقاء النوع البشري ورقيه، وتستنبط أسسها العقدية والنفسية والاجتماعية من الحقائق الإلهية المحكمة المنسجمة مع قوانين الخلق وسننه، ما يجعل الثقافة التي يفرزها هذا المنهاج تحكم الصلة بين الخالق والإنسان وتزكي علاقاته مع الكون والحياة والمصير، وما ينبثق عن هذه القيم من شعور بالمسئولية على مستوى الممارسات الفردية والجماعية.
والنوع الثاني هو المناهج التي تقوم على إشاعة ثقافة الاستهلاك والمتعة التي تهيء لفريق المترفين من رجال المال والأعمال الهيمنة على القدرات والسيطرة على التصرفات. ويطلق القرآن على محتوى هذه المناهج اسم (لهو الحديث) لأنه يقوم على أسس نفسية تقوم على الإعلاء من ثقافة اللهو والمتعة والاستهلاك، ويستمد ممارساته وأنشطته ووسائله من هذه الثقافة اللاهية والتي لا يكشف تقويمها إلا عن الاضطراب في الدنيا والعقوبات الأليمة في الآخرة.
وما زالت السياسات التربوية التي توجهها الثقافات المتمركزة حول الإنتاج والاستهلاك، وينفذها وكلاء الصناعة والتجارة الدولية تجابه مناهج التربية الإسلامية بمؤسسات تربوية وبرامج ثقافية ومنابر إعلامية وسياسات إدارية ونشاطات فنية تتبنى مناهج مناقضة تحشد لها مئات الخبراء والمختصين، وتستهدف تطبيقاتها العملية إشاعة ثقافة الاستهلاك والمتعة وأنشطة اللهو والترفيه المحرمة، والهدف تدجين الأكثرية المستضعفة وتعويدهم على هذه الحياة اللاهية لتثقلهم عن الاستجابة لدعوة الإسلام أو تطبيق تعاليمه.
المربي والمنهاج
لكن مناهج التربية الإسلامية لا يعمل فيها الوحي ومنهاجه وحدهما، وإنما لا بُد من تكاملهما مع ألباب الراسخين في العلم القادرين على التفكر والعقل لآيات الله في الكتاب، ومع حواسهم المبصرة السامعة لآيات الآفاق والأنفس، لتكون حصيلة هذا التكامل هي إفراز مناهج التربية الإسلامية المتصفة بالأصالة والمعاصرة، وهذا ما فهمه الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه- عندما قال فيما روي عنه في نهج البلاغة: “وهذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال”.
لذلك لا يتوقف الأمر عند النظر في طبيعة هذه المناهج وإنما يتوجه أيضا للنظر في مؤهلات المربين العاملين فيها وتحديد صفاتهم ومهاراتهم، والمربي المسلم المطلوب هو نوع جديد من العلماء يختلف عن النوع الذي عرفته الحضارة الإسلامية في الماضي وانتهى في صورة الشيخ المألوف، فهو إنسان يقوم بوظيفتين اثنتين:
الأولى: إنتاج المعرفة الموسومة بالأصالة والمعاصرة في ميادين الحياة كلها.
والثانية: إعداد إنسان يتقن توظيف هذه المعرفة في حياة الأفراد والجماعات والأمم في ضوء علاقاته بالخالق والكون والإنسان والحياة والآخرة.
وأمثال هذا المربي المسلم المنشود لا ينحصر في ميادين معرفية محدودة ولا يقتصر دوره على ترديد معارف مألوفة أفرزها فهم الآباء للكتاب والسنة في مجتمعات وأزمان مضت، وإنما هم رواد معرفيون دائمو الإبحار في ميادين الآفاق والأنفس لاستكشاف آياتها في ضوء إنزال آيات الكتاب على الواقع المتجدد لاكتشاف المعارف والتطبيقات الجديدة وتقويم المألوفة.
أمثال هؤلاء المربين هم الذين تتزواج في نفوسهم توجيهات الشرعة والمنهاج الإلهيين مع الوعي الناقد للواقع الإنساني القائم لينتجا فهما عميقا واجتهادا راسخا يتعامل فيهما كل من الوحي والعقل والحواس لإبراز فقه الشريعة الملائم لمختلف الأزمنة والأمكنة.
المصادر
- تم الاعتماد في إعداد هذه المادة على كتاب: (مناهج التربية الإسلامية والمربون العاملون فيها) للدكتور ماجد عرسان الكيلاني.