قسّم العلماء مراحل حياة الطفل إلى أربع مراحل أساسية؛ تتصدرها مرحلة المهد التي تمتد من الميلاد حتى نهاية العام الثاني من العمر، ثمّ المرحلة الثانية التي تسبق الالتحاق بالمدرسة وتمتد من بداية العام الثالث حتى نهاية العام السادس، يلي ذلك المرحلة الثالثة وهي الطفولة المتأخرة، التي تمتد من بداية العام السابع حتى نهاية العام الثاني عشر من عمر الطفل، وتنتهي هذه المرحلة بالبلوغ الجنسي وبها تبدأ مرحلة جديدة في حياة الإنسان وهي مرحلة التكاليف الشرعية.
أما المرحلة الرابعة، وهي المراهقة التي تبدأ بالبلوغ الجنسي وتمتد حتى عُمر الحادية والعشرين، وخصائص وسمات المراهقين تتباين إلى حد كبيرٍ؛ فأحيانًا نجد سمات بعض المراهقين تقترب كثيرًا من سمات الراشدين وأحيانًا نجد أنّ البعض الآخر يتأخر عنهم كثيرا.
ويدل على هذا المعنى قول الله – تبارك وتعالى-: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، وقال ابن عباس ومجاهد في معنى قوله تعالى: “وَابْتَلُوا الْيَتَامَى”: أي امتحنوهم، فإن ظهر رشدهم عوملوا معاملة الراشدين.
مرحلة المهد وصدمة الميلاد
إنّ مرحلة المهد لها أهمية خاصة بالنسبة للأطفال؛ حيث تُمثل بداية اتصالهم بالعالم وتكوين العلاقات، التي تكون مُنحصرة خلال هذه المرحلة في: الأم، والأب، وأفراد الأسرة المقربين، وفي هذه المرحلة – أيضًا- تتقرر قدرة الطفل على البقاء وكفاءته في مواجهة مؤثرات البيئة الجديدة، ما يُحدد مسار نموه فيما بعد إلى حد كبيرٍ.
وأول ما يتعرّض له الطفل في هذه المرحلة هو الفارق الكبير بين ظروف الحياة التي كان يحياها قبل الميلاد، وتلك التي أصبحت تُحيط به الآن؛ فالجنين يتغذی عن طريق الحبل السُّرى، ويعيش في درجة حرارة واحدة، ولم يكن عليه حتى أن يتنفس، أمّا بعد الميلاد فقد أصبح لزامًا عليه أن يكون أكثر إيجابية؛ فهو يرضع للحصول على غذائه، ويعتمد على أجهزته الخاصة في التنفس والإخراج وضبط حرارة الجسم.. وغير ذلك.
وهذا التغيّر الكبير المفاجئ جعل بعض العلماء يرى أن الميلاد صدمة من أكبر الصدمات في حياة الإنسان، وهو ما يُعبر عن الضغوط التي تقع على المولود ولم يكن لها وجود في حياته السابقة، وهذه الضغوط يتعرّض لها الطفل في الواقع طوال هذه الفترة، ولنا أن نتصوّر مدى الآلام التي قد يُعاني منها الطفل نتيجة لهذه الضغوط.
ومَن يُلاحظ سلوك طفل جائع – مثلا- يستطيع أن يُشاهد الاستجابات القوية التي يُثيرها لديه هذا الظرف، فهو عنيف الحركة شديد البكاء، ما يدل على شعور بالألم الشديد، بل ربما – أيضا- على شعور بالخوف وتهدید لكيان الطفل الذي يهتز هزًّا في مثل هذه الحالات، ولا يذهب ذلك كله هباء، بل يترك علاماته دون شك على النمو النفسي للطفل مستقبلا.
متطلبات النمو
الواقع أنّ المطالب الاجتماعية المتوقعة من الطفل في هذه مرحلة المهد قليلة؛ ذلك أنّ مُعظم توقعات الثقافة يتمثل في مستويات للنمو الجسمي والمعرفي والحرکي، والقليل منها في النمو الاجتماعي؛ ففي أثناء هذه المرحلة تتوقع الثقافة من الطفل أن يكون قد تعلّم المشي وتناول طعامًا جافًا وتعلم الكلام ويتكون لديه مفهوم دوام الشيء أي أنّ الأشياء تبقى موجودة ولو غابت عن ناظریه، ويكتسب التعلق الاجتماعي بالوالدين والإخوة وغيرهم.
هذا عن متطلبات المجتمع من الطفل، فماذا عن متطلبات الطفل نفسه؟
فالطفل – أيضا- لا يتطلع في هذه المرحلة إلى أكثر من إشباع حاجاته الأساسية: حاجته إلى الراحة والبعد عن الألم، وحاجته إلى التّعلق ودفء العاطفة، وحاجته إلى الاستقرار والثبات في المعاملة وفي البيئة المحيطة، وحاجته إلى الاستثارة وإشاعة النشاط، وأخيرًا حاجاته البيولوجية من تغذية وإخراج وغيرها.
وبناء على الأسلوب الذي يتخذه الآباء في إشباع حاجات أطفالهم، يُمكن أن تنمو لديهم إمّا ثقة متزايدة في أنّ حاجاتهم سوف تشبع، أو انعدام تام لهذه الثقة، وفيما بين هذين الطرفين توجد درجات مختلفة.
فإذا استطاع القائمون على رعاية الطفل أن يتعرّفوا إلى حاجاته وأن يستجيبوا لها بطريقة مناسبة وفي الوقت المناسب، تنمو لديه الثقة في أنه مُقدر وأن حاجاته ستشبع عندما تنشأ لديه حاجة إلى ذلك، ونستطيع أن نستشعر هذه الثقة مِن تزايد قدرته على تأجيل إشباعاته، ومن الدفء والمرح الذي يشيعه في تعامله مع أعضاء أسرته.
أمّا إذا لم يستطع القائمون على رعاية الطفل أن يتعرفوا إلى حاجاته وأن يستجيبوا لها بطريقة مناسبة وفي الوقت المناسب، أو إذا كان هؤلاء خشنين عند إشباعهم لهذه الحاجات، فإنّ بذور الشك في البيئة المحيطة يمكن أن تُزرع عندئذٍ لدى الطفل.
أخطاء التعامل مع مرحلة المهد
تتعدد استجابات الآباء للتوترات التي يعاني منها أطفالهم، وبخاصة عندما يكون هؤلاء الأطفال في الأسابيع الأولى من مرحلة المهد التي يبكي الطفل فيها؛ فيبدأ الآباء باللجوء إلى وسائل متعددة؛ مثلا قد يلجأون إلى إرضاع الطفل، ثمّ إذا زاد في البكاء ربما يُغيّرون له ملابسه، فإذا ما استمر في البكاء فقد ينتقلون به إلى حجرة أخرى، أو قد يأخذونه في أرجوحته، وهكذا إلى أن تجدي معه حيلة أو أخرى من هذه الحِيَل.
لكن في بعض الحالات قد لا يستطيع الوالدان أن يكتشفا الحاجة الفعلية فيصران على حلّ واحد کالرضاعة مثلا، حتى بعد أن يكون الطفل قد رفضها، وهنا يبدأ قلق الطفل يزداد ويصبح غير متأكد من إشباع حاجاته في المرات المقبلة أيضا، وعندما يُصبح من العسير على الطفل أن يحصل على الراحة الجسمية والنفسية اللازمة تبدأ ثقته بوالديه تضعف.
والطفل في هذه الحالة – أيضا- لا يستطيع أن يُعبّر عن مشاعره هذه بالألفاظ ولكنها مع ذلك تظهر في سلوكه؛ فنحن نستطيع أن نستشف الشعور بانعدام الثقة، عند الطفل، من عزوفه عن التفاعل، ومن أعراض الحزن التي تبدو عليه التي قد تظهر في صور متعددة كالنهنهة أو الافتقار إلى الانفعال، أو فقدان الشهية للطعام، أو اللامبالاة أو غير ذلك من استجابات سلبية.
والواقع أنه رغم أنّ جميع الأطفال يُعانون بعض مشاعر الشك أو القلق نحو العلاقة التي هي في دور التكوين بينهم وبين القائمين على أمر رعايتهم، فإنّ الخبرات الإيجابية تفوق الخبرات السلبية عند الأغلبية العُظمى من الأطفال.
تنمية ثقة الأطفال
ويمكن تنمية ثقة الطفل في مرحلة المهد وخصوصًا في أواخرها، حينما يستطيع أن يربط بين الكلمات والتوجيهات وبين الأشياء، وهنا لا بد من توفير:
- بيئة أسرية آمنة وسعيدة تملؤها المحبة والاحترام المتبادل لينعكس ذلك بصورة إيجابية على نفسية الطفل.
- ولا بد من الحفاظ على النظام الغذائي الصحي والمتوازن للطفل.
- تقديم العلاج المناسب تحت إشراف الطبيب، إذا تعرض لوعكة صحية، لأن الصحة الجيّدة تمنح الطفل ثقة عالية بنفسه.
- لا نقارن بينه وبين غيره من الأطفال، حتى لا نزرع الحقد والكراهية في قلبه.
- لا نفزع في وجهه حينما يرتكب أي خطأ؛ حتى لا يكون الصراخ ديدنه، ويفقد الثقة في نفسه.
- ومن المهم أن نقرأ له القصص والحكايات المفيدة.
- نبتعد – أيضًا- خلال هذه المرحلة عن التدليل الزائد، حتى لا يُصبح شخصًا اتكاليًّا.
خاتمة
إنّ الجو الذي تشيع فيه الثقة بين الطفل وأفراد أسرته منذ مرحلة المهد وما بعدها، بمثابة الأرض الصلبة التي لا بُد من أن يقف عليها الطفل إذا كان له أن ينجح في تحقيق مستويات النمو المتوقعة منه.
بعبارة أخرى يُمكن أنْ نقول إنّ التفاعل بين الطفل وبيئته إمّا أن يكون في مصلحة الطفل وعندئذ تتكون لديه ثقة متزايدة فيمن حوله وفيما حوله وتساعده على النمو إلى المستويات المتوقعة منه، وإمّا أن يكون في غير صالحه وعندئذٍ يكتسب من عدم الثقة ما يُعطّل نموه.
ولا بُد من أن نشير هنا إلى أنّ مفهوم الثقة بمعناه الواسع لا يقتصر على ثقة الطفل بمن حوله فحسب، بل يتضمن أيضا ثقة الطفل بنفسه، وبمقدرته وكفاءته؛ فالآباء الذين يُحققون ثقة الطفل بهم، إنما يعملون في الوقت نفسه على تنمية الشعور لديه بأنّ له تأثيرًا على الظروف المحيطة به، وأنه يملك في يديه زمام الأمور، سواء منها ما يتعلق بالبيئة الاجتماعية أو بالبيئة الطبيعية.
المصادر:
- محمد عماد الدين إسماعيل: كيف نربي أطفالنا، دار النهضة العربية، القاهرة 1974م.
- ترجمة طلعت منصور: التفكير واللغة، مكتبة الأنجلو، القاهرة 1976م.
- محمد أحمد غالي: الإطار النظري لدراسة النمو، دار القلم، الكويت 1981م.
- حامد الفقي: دراسات في سيكولوجية النمو، دار القلم، الكويت 1976م.
- محمد عماد الدين إسماعيل: الطفل من الحمل إلى الرشد، دار القلم، الكويت 1995م.