إن الله ينتظر من عبده أن يرفع أكف الضراعة إليه يسأله حاجته، ويشكو إليه حزنه، ويناديه ويتضرع إليه ولا يشعر بالذل والخضوع إلا إليه، ذلك الخضوع الذي يعود بالطمأنينة على نفسه ويستقيم معه قلبه.
إن المريض الذي أقعده المرض وأتعبه السهر، ثم أنفق عليه جل ماله، يكفيه أن ينادى ربه بقلب مؤمن أن يكشف ما مسه من ضر، كما فعل أيوب عليه السلام، حين دعا الرحمن الرحيم: “وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” (الأنبياء: 83).
والمحتاج الذي انقطع به السبيل وجاعت بطنه وأرهقه بكاء أطفاله يكفيه أن يقول يارب. والمظلوم الذي تكالبت عليه الهموم وشعر بقهر الرجال وتحطمت نفسيته وضعفت معنوياته يكفيه أن يطلب من الله أن يرفع عنه ما وجد من ظلم.
وأنت أيها العقيم .. وأنت أيها الطالب .. وأنت أيها الأب .. وأنت أيها العاصى .. كلنا في أشد الحاجة أن نرفع أكف الضراعة وندعو الله سبحانه فيسمع منا أو يدخره لنا.
أهمية الدعاء
الدعاء مناجاة بين العبد وربه سبحانه وتعالى، وفي تلك المناجاة يجد الداعي الغذاء لروحه والدواء لنفسه، ويتقوى به على نوائب الدهر والتكاليف الشرعية الجسام.
يقول الدكتور مراد القدسي (خطيب وعضو مؤسس في هيئة علماء اليمن): “الدعاء عبادة عظيمة؛ ومن أجلّ القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، له آدابه الشرعية والتزاماته، وترك الدعاء ليس من التوكل على الله ولا من التفويض له، بل قد يكون ضعفًا في الثقة بالله تعالى”(1).
ولقد حث الشرع الحنيف المسلمين على أهمية الدعاء لما فيه من استشعار القُرب لله تعالى، ويستجيب الله تعالى للدعاء إذا حقّق الداعي شروط الاستجابة.
فيقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
وقال تعالى: {وقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
وقال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32].
وعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] (رواه أحمد).
وقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «إِذَا سَألْتَ فَاسأَلِ الله، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ»( رواه أحمد).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليسَ شيءٌ أَكْرَمَ على اللَّهِ تعالى منَ الدُّعاءِ] ( صحيح الترمذي).
النبي والدعاء
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مَن لم يسألِ اللهَ يغضبْ علَيهِ] ( صحيح الترمذي)، ونفهم من هذا الحديث النبوي الشريف كيف كان حال النبي صلى الله عليه وسلم مع الدعاء لله دائما، فاللهُ يُحب من عباده أن يسأَلوه كل حوائجهم، وهكذا كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا علمنا كيف تكون علاقتنا بالله سبحانه.
وكان صلى الله عليه وسلم يعزم في المسألة ويلح في الدعاء فعن أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا دَعا أحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، ولا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ فأعْطِنِي، فإنَّه لا مُسْتَكْرِهَ له] (رواه البخاري).
كما كان صلى الله عليه وسلم لا يستعجل الإجابة، بل كان يتحلى باليقين في إجابة المولى سبحانه لدعائه فعنه صلى الله عليه وسلم قال: [يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي] (صحيح البخاري).
آداب الدعاء
يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه: الخلق كلهم بيد الله (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي, وأنا معه إذا دعاني) [أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة].
وعلى المسلم أن يتأدب مع الله سبحانه في المسألة ويستشعر مقام من يدعوه ومعيته سبحانه وتعالى، ويكون دعاؤه أقرب للقبول، فبحسن الأدب يُلبَّى الطلب.
ومن هذه الآداب التي اتفق عليه علماء الأمة الإسلامية:
- الوضوء: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: [فَدَعَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ منه، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ حتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إبْطَيْهِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَومَ القِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِن خَلْقِكَ، أَوْ مِنَ النَّاسِ](رواه مسلم).
- استقبال القبلة: [فعن عُمرُ بنُ الخَطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه، قال: لَمَّا كان يومُ بَدْرٍ، قال: نَظَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم إلى أصحابِهِ وهُمْ ثلاثُ مِئةٍ ونَيِّفٌ، ونَظَر إلى المُشركينَ فإذا هُمْ ألْفٌ وزيادةٌ، فاستَقبَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم القِبلةَ، ثُمَّ مَدَّ يديْهِ وعليه رِداؤُهُ وإزارُهُ، ثُمَّ قال: اللَّهُمَّ أينَ ما وَعَدْتَني؟ اللَّهُمَّ أَنجِزْ لي ما وَعَدْتَني] (رواه مسلم).
- رفع اليدين: فعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : [إنَّ اللَّهَ حيِىٌّ كريمٌ يستحي إذا رفعَ الرَّجلُ إليْهِ يديْهِ أن يردَّهما صفرًا خائبتينِ] ( صحيح الترمذي).
- البدء بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي: عن فضالة بن عبيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا صلَّى أحدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللهِ والثَّناءِ عليهِ ثُمَّ لَيُصَلِّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ثُمَّ لَيَدْعُ بَعْدُ بِما شاءَ] (الترمذي).
- الخشوع والتذلل والدعاء بأسماء الله الحسنى.
- اليقين في استجابة الله سبحانه للدعاء: فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ادْعُوا اللهَ وأنتمْ مُوقِنُونَ بالإجابةِ، واعلمُوا أنَّ اللهَ لا يَستجيبُ دُعاءً من قلْبٍ غافِلٍ لَاهٍ] (صحيح الجامع)(2).
فوائد الدعاء
يعود على المسلم من الفوائد الكثير إذا استشعر معية الله وقوته وانضوى تحت كنفه ولجأ إليه في كل شؤونه وأمور حياته، حيث يعدد الشيخ محمد راتب النابلسي بعضها فيقول:
(من كان مع الله كان أقوى الأقوياء، الإنسان بالدعاء أقوى من كل قوي في الأرض، الإنسان بالدعاء أغنى من كل غني وأعلم من كل عالم، الدعاء يعني أن الإنسان آمن بوجود الله وبأنه يسمعه وبأنه يحبه)(3).
وقال الحسن البصريُّ: “لقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرضِ من عملٍ يقدرون أن يعملوه في السرِّ فيكون علانيةً أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوتٌ، إن كان إلاَّ همساً بينهم وبين ربِّهم عزَّ وجلَّ، وذلك أنَّ الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55].
الدعاء للغير بظهر الغيب
ما أجمل أن تجد أثرا لدعوة أخ لك بظهر الغيب، وما أجمل أن ترفع يديك إلى السماء تدعو الله أخيك بظهر الغيب.. نعمة عظيمة هذه الأخوة أن يعطيك الله قلبا نقيا تتذكر إخوانه والمسلمين بدعائك لهم.
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10]. وقال تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19].
وعَن أَبي الدَّردَاءِ رضى الله عنه أَنَّهُ سمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: [مَا مِن عبْدٍ مُسْلِمٍ يَدعُو لأَخِيهِ بِظَهرِ الغَيْبِ إِلاَّ قَالَ المَلكُ ولَكَ بمِثْلٍ]( رواه مسلم).
وعَنْهُ أَنَّ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانَ يقُولُ: [دَعْوةُ المرءِ المُسْلِمِ لأَخيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجَابةٌ، عِنْد رأْسِهِ ملَكٌ مُوكَّلٌ كلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بخيرٍ قَال المَلَكُ المُوكَّلُ بِهِ: آمِينَ، ولَكَ بمِثْلٍ] (رواه مسلم).
وكان الإمام النووي يقول: (كان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة؛ لأنها تستجاب، ويحصل له مثلها) (4).
الشعوب والدعاء
إذا وقعت الشعوب في ضائقة أو محنة أو وباء ترفع أيديها إلى رب السماء تدعو، فيزيد من قربها لله ويجعلها دائما في حاجة إلى الله، بل إن قريش وهي كافرة كانت تدعو الله، وكانت تدّعي أنها تعبد الأصنام زلفى إلى الله تعالى.
وفي الإسلام توجد صلاة الاستسقاء، وتكثر عند أهل جزيرة العرب والمواطن الصحراوية، حيث يخرج الناس إلى ربهم ويقيمون الصلاة ويطلبون السقيا لإنقاذ الأنفس والزروع والماشية، وبالفعل ينزل الله عليهم الغيث، ويحيي الأرض بعد موتها.
يقول جمال المراكبي (الرئيس العام السابق لجماعة أنصار السنة المحمدية بمصر): (الدعاء من أعظم أسباب النصر على الأعداء، وإذا كان النصر من عند الله العزيز الحكيم فقد أمر الله عباده المؤمنين أن يطلبوا منه النصر، وأن يستغيثوا به سبحانه، وأن يلحوا في الدعاء فإن الدعاء سبب للثبات والنصر على الأعداء، قال تعالى عن طالوت وجنوده: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]، فماذا كانت النتيجة؛ {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} [البقرة من الآية:251])(5).
فالدعاء يقرب الناس من ربهم، ويشعرهم بحاجتهم إليه، ويزيد من ألفتهم وقوتهم ووحدتهم، ويعم التراحم والتواد بين الشعوب المؤمنة التي تلجأ في كل شيء إلى الله.
الأطفال وقيمة الدعاء
أبنائنا فلذات أكبادنا، والمرء يتمنى أن يراهم زهورًا تنمو أمامه ويصنعهم الله على عينه، وهو ما يستوجب أن نغرس فيهم حب الإيمان والعقيدة الصحيحة، وأن كل شيء لا يتم إلا بإرادة الله، وأن المسلم إذا حدث له شيء يلجأ إلى الله ويدعوه.
يجب أن نضع خطة تربوية لغرس وتعليم الأطفال قيمة وأهمية اللجوء لله ودعائه حتى يستشعر النشء رحمة الله به عند اللجوء إليه، ويشعر بالراحة والطمأنينة عند ذكر الله تعالى، ومن هذه الوسائل:
- عرض صور تدل على عظمة الخالق، مع ترداد ذكر: “لا إله إلا الله”، وتعليمهم بعض الأدعية المأثورة، وإذا حدث له شيء قبل أن تبادر بحل المشكلة؛ اطلب منه أن يدعو الله أن يساعده في حل المشكلة، وإذا كان مقبلا على الامتحانات أو عمل شيء، علمه عمليا أن يدعو الله أولا.
- تعليمهم فضل الدعاء؛ كدعاء خروج ودخول البيت أو الحمام أو غيرها، ليظل لسانهم دائمًا على الدعاء وذكر الله.
- رؤية الطفل للوالدين وهما يدعوان الله عز وجل بخشوع مهم جداً، فمجرد رؤية طفلٍ هذا المشهد يغرس فيه أن الله فارج الهم مستجيب الدعاء، بيده كل شيء.
(كانت هناك والدة كلما ضاعت لعبة طفلها، أو أي شيء من متعلقاته، تأخذه بين ذراعيها وتردد معه – رغم حروفه المتكسرة – دعاء الضالة، فما يلبث إلا أن يجد ما يريد، فتقول أنه تعلق بالله عز وجل، وتعلق في قلبه أن الله مستجيب الدعاء، فقد يردد دعاء الضالة أحياناً، فيجد ضالته بعد يوم أو اثنين، فهذا غرس به أن الله يستجيب الدعاء حتى ولو بعد حين، فأصبح الطفل لا ينام إلا بعد أن يدعو الله تعالى بكل ما يريد، وهكذا تعلم مناجاة الله عز وجل من الصغر).
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: “الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال إليه. فإن عوّد الخير وعلّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب. وإن عوّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه والوالي له)(6).
المصادر
- مراد القدسي: أهمية الدعاء في حياة المسلم، 13 مارس 2018،
- أدب الدعاء في الهدي النبوي: 2 أبريل 2012،
- راتب النابلسي: هديه صلى الله عليه وسلم في الدعاء،
- الإمام ابن باز: باب فضل الدُّعاء بظهر الغيب،
- الدعاء من أعظم أسباب النصر على الأعداء: 29 أكتوبر 2013،
- جواهر الشروق: طفلك كالعجينة اصنعي منه ما شئت!، 10 أبريل 2016، https://bit.ly/3oZQfmH