السؤال
جاء رمضان ولم أعلق الزينة تألمًا لما يحدث في غزة، ثم جاء العيد ولم أفعل ما اعتدته من مظاهر الفرح، ولم نشعر بالفرحة في عيد الأضحى إلا بأداء الشعائر من صيام عرفة وصلاة العيد وذبح الأضحية.
لم أشعر بأن شيئًا كبيرًا فاتني، بل على العكس كنت مرتاحة أني أشاطر أهلنا في غزة آلامهم.
أقف حائرة بين موقفي هذا وبين حق الأبناء في أن يعيشوا فرحة الأعياد كما شرعها الله. وكنت أتساءل: هل اختفاء مظاهر الفرح هذه في مصلحة تنشئتهم على أن ديننا دين بهجة وتعظيم للشعائر؟ حتى جاء موعد ذهابنا لقضاء إجازتنا المعتادة إلى المصيف، وما إن أعلنت أن ضميري غير مرتاح للذهاب للاستمتاع وأهلنا يُبادون، حتى هاج أبنائي وغضبوا مني.
أتفهم أنهم ينتظرون هذه الأيام من السنة إلى السنة، فماذا أفعل وضميري غير مرتاح للتنزه وأهلنا يُبادون؟
كيف أجمع ما بين حق أبنائي في أن يعيشوا أيامهم كما عشنا طفولتنا سعيدة وبين مشاعر التنغيص التي تصيبني لمجرد أن أتخيل ما يحدث لأهلنا ونحن نفرح ونمرح؟
الرد
أهلًا بكِ ضيفة كريمة على موقع المنتدى الإسلامي العالمي للتربية ومختلف صفحاته على منصات التواصل الاجتماعي.
كأنكِ تتحدثين بلسان أكثرنا، نعم لم تعد مظاهر الفرح وإظهار البهجة كما كانت في السابق، فالأحداث قطعًا لها تأثيرها ولها ظلالها، وذلك مما أودعه الله من رحمة في قلوب المسلمين: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” (رواه البخاري ومسلم).
لكن علينا أن ننتبه، كما تفضلتِ أيتها السائلة الكريمة، أن ثمة غرسًا وتنشئةً تحدث في هذه الأثناء، كما علينا أن نفرق بين اختياراتنا في ردود أفعالنا وقدرات أبنائنا على استيعاب ما يحدث؛ فلا نملي عليهم ما فوق استطاعتهم، ولا نحرمهم حقهم في معايشة أيام المنح الربانية كما يجب أن يعايشوها.
إن للحزن في ديننا أدبيات، ولا يوجد عندنا كربلائيات؛ بل إن المسلم بحق يرى الخير فيما يحدث، لأنه أولًا وأخيرًا بقدر الله،
ففي سيرة الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- رأينا فقده لبناته الثلاث وأبنائه وزوجته خديجة، وبلغنا حزنه- صلى الله عليه وسلم- على فراق عمه النصير المؤيد، ولكن لم يبلغنا توقف حياته- صلى الله عليه وسلم.
بل إن ما حدث له في الطائف من أذى الصبية كانت ردة فعله تجاه ما تعرض له منهجًا لنا حينما يشتد علينا الإيذاء بأن ندعو كما دعا الحبيب: “اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك” (رواه الطبراني).
“حتى ترضى”، هذه العبارة هي عين ما ندور في فلكه؛ رضاه سبحانه وتعالى، فنرضيه في حزننا، ونرضيه في أبنائنا، ونرضيه فيما نقدم عليه وما نحجم عنه؛ نرضيه حينما نزين بيوتنا لاستقبال رمضان، ونرضيه حينما نمتنع عن ذلك تألمًا لما يمر به أهلنا.
لكن علينا أن نضبط بوصلة المنح والمنع، ونعيد مراجعة فهمنا وتأثرنا بالأحداث وانسحاب ذلك على جوانب الحياة المختلفة، فحينما لا نضبط البوصلة تأتي بنتائج عكسية، رغم حسن النوايا. وضبط البوصلة يكون بفهم ما يحدث وتحديد دورنا تجاهه. فعليكِ قبل أن تقرري الذهاب أو عدمه، مراجعة فهمكِ لمجريات الأحداث ومراجعة واجباتنا نحو ما يحدث.. ومما يعين على ذلك:
فهم الواقع:
فلا يكون تحليلنا للأحداث عاطفيًا، فقراءة التاريخ والاستماع للفاهمين توضح الصورة الملتبسة أحيانًا.
لا نُنكس أعلام التفاؤل:
لا نريد التفاؤل غير الواقعي، ولكن نكون على ثقة في موعود الله ونصره؛ فالتفاؤل غير الواقعي بأن النصر قريب بالمعنى الذي يتشوفه أغلبنا، أي بدحض راية الكفار، هو فهم منقوص؛ فالصراع بيننا وبينهم يأخذ شكل الجولات، قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} (سورة الإسراء: 4).
الظن الحسن بالله:
أنه برغم كل هذه الآلام، إلا أننا على يقين بأن الله ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن أفعال الله على الأرض ينفذ فيها سننه من إملاء للكافرين، وتمحيص للمؤمنين، واستدراج للغافلين؛ كما أنه سبحانه ينفذ سنة النصر لا محالة؛ وأن نكون على يقين أن الله معاقبهم في الدنيا قبل الآخرة، فأخذ المجرمين سنة كونية أيضًا.
تغيير مفهوم النصر:
فنرى انتشار الإسلام في الغرب كأثر من آثار القضية هو عين النصر، ونرى فهم ووعي أبنائنا نصرًا، ونرى حرص الأكثرية على المقاطعة نصرًا، ونرى انشغال النفس بمرضاة الله والبعد عن الإفراط في الملذات والشهوات نصرًا.
معرفة أدوارنا:
لا بد من حامل للحق، قائم على دين الله، وهؤلاء يجب أن تكون لهم صفات:
الصبر، فإن الله مع الصابرين.
السكينة، وهي من آثار معية الله.
الاحتساب، وهو ما يعطي ثباتًا وطمأنينة في القلب.
ويذكرنا الاحتساب بموقف الخنساء رضي الله عنها، حينما رثت أخاها صخرًا أربعين عامًا في الجاهلية، وحينما تبدل حالها بعد الإسلام، مات أبناؤها الأربعة في معركة القادسية فقالت: “الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وإني لأرجو أن يجمعني بهم في مستقر رحمته”.
حينما نصل إلى هذا الفهم، سنحتسب كل أوقاتنا مع أبنائنا لله، ونستطيع بفضل الله أن نحول أوقات تنزهنا لقربٍ من الله، وعدم الغفلة عن أهلنا؛ فنذكرهم كما نفعل في الحضر، وحينما نتنسم هواء البحر ونتأمل عظمة الله في بديع صنعه أمام أعيننا، نذكر أبناءنا بشكر النعم وننتقل بأذهاننا إلى بحر غزة أيضًا.
نتذكر صبيانهم وهم يطفئون لظى الحرب وظمأ العطش برمي همومهم في البحر، فنتذكر إنعام الله عليهم بتلك الفسحة رغم إحاطتهم بجميع أشكال الألم، فيعرف الأطفال أن ربهم رحيم، قادر، مدبر الأمر، صاحب الملكوت، يسخر أرضه وسماءه لعباده المتقين، ولا يحبسهم عن العصاة الغافلين؛ فأي خير في نزهة تقربنا من الله، وتذكرنا بآلام إخواننا، وتبعث الأمل بتجديد الروح في نصر وشيك كما نأمل.
السائلة الكريمة:
جزاكِ الله خيرًا على صدق مشاعركِ وإعلان تعاطفكِ مع أهلينا، ورعايتكِ لأبنائكِ بأن يكونوا مع إخوانهم كالجسد الواحد يتألمون لألمهم.
فتوكلي على الله، واجعليها رحلة إيمانية لكِ ولهم، تجددون فيها أرواحكم وعزيمتكم حتى نتهيأ لنصر الله، فهو آتٍ آت، وهذا وعده سبحانه حيث قال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَیَوۡمَ یَقُومُ ٱلۡأَشۡهَـٰدُ} (سورة غافر: 51).