أنا معلمة ولدي في الفصل طفل متفوق، ولكنه أناني يرفض التعاون مع زملائه أو مشاركتهم اللعب، وحتى عندما يلعب معهم مباراة كرة قدم مثلًا لا يميل إلى التعاون مع فريقه ويحب دائمًا أن يظل منفردًا بالكرة، ويحب أي نشاط يجعله منفردًا ويظهر قدراته منفردًا، وعندما تحدثت إلى والدته وجدتها تشتكي من نفس الأمر، وأنه منذ الصغر وهو يرفض أن يشاركه أحد أي لعب أو أي شيء؟!
كثير من الصفات التي نراها سلبية في الأطفال هي صفات مكتسبة، غير أن صفة الأنانية هي صفة فطرية طبيعية، يولد بها الطفل.
فالطفل من لحظات ميلاده الأولى يبكي ويصرخ، يلتف الجميع حوله لإسكاته وسد احتياجاته، بل لتدليله وإضحاكه وإسعاده وإرضائه، يكبر قليلًا فيدرك من هي أمه فيستحوذ عليها، لا يهدأ ولا يسكت إلا على يديها، يكبر وتكبر معه الصفة، يستوعب أمه أكثر وأكثر، جرب حينها أن تربت بيدك على كتف الأم وهي تحمل طفلها، سيدفعها بكل ما أوتي من قوة، وهو ابن شهور، لا يريد أن يشاركه أحد في أمه!
نضحك ونظل نمارس تلك اللعبة، نضع أيدينا، يصرخ، نرفعها، يسكت، فيتأصل لديه المفهوم أكثر وأكثر، أمي لي أنا وفقط!
وكأن صفة الأنانية، أحد أبجديات البقاء لدى الطفل، يستخدمها بقوة ليضمن تلبية احتياجاته، فلا مفر من الاستجابة لصراخه في مثل هذا العمر.
عند بلوغ مرحلة الفطام حول العامين، يبدأ الطفل يستقل رويدًا رويدًا عن أمه، هنا يجب أن نغرس مفاهيم مغايرة مثل التعاون والتشارك، فلا تنتبه الأم للصغير فقط مثلما استحوذ على جل وقتها وهو ابن شهور، فيبدأ بسماع كلمات: إخواتك، بابا، الجدة، أصحابنا …الخ؛ فيدرك أكثر أنه يعيش في مجتمع، الأم محور مهم فيه، لكنه ليس الوحيد، وهو مهم أيضا وليس الأهم.
فعلينا أن نعوده على أن أمي تحضر الفطور لأبي أولًا، ثم تجلس لتلعب معي، أمي تمشط شعر أختي قبل ذهابها للمدرسة، ثم تساعدني في تغيير ملابسي.
نخطئ كثيرا حينما نظل نقدم طلبات الصغير- من أجل إسكاته- على طلبات الجميع، فنعزز لديه بهذا التصرف سلوك الأنانية أكثر وأكثر.
يكبر الطفل ويصير ابن الثالثة فيتسع إدراكه أكثر، فنبدأ بتدريبه على التمييز بين الحاجة والرغبة.. ما هي الحاجة؟ الحاجات هي الضرورات والأساسيات التي لا غنى عنها كالحاجة للنوم والحاجة للأكل والحاجة للشرب، بينما الرغبة تكون للضرورات وغيرها كالرفاهيات، مثل أن يرغب الطفل في الأكل (ضرورة) أو في شراء لعبة أو حلوى (رفاهية).
مطلوب منا أن نؤكد على الطفل وهو يطلب حاجته أن يسميها بشكل صحيح، لكي يفرق بين الحاجة الضرورية وبين الرغبة التي قد لا تكون ضرورية، فلا يقول (أريد أن أشرب، بل يقول: أحتاج أن أشرب)، ولا يقول (أحتاج لعبة، بل يقول أريد لعبة)
هذه التفرقة تمهد له أن ليس كل ما يتمناه المرء يجده، كما أنه سيعتاد على سماع “لا” لبعض متطلباته التي هي من باب الترفيه، كما ستساعده في فهم الأولويات، وأنه ليس مركز الكون يطلب ومن حوله ينفذ، فيبدأ رويدًا رويدًا في فك عرى الأنانية الفطرية.
أحد أهم الأسباب التي تجعل الطفل يكبر ولا يتخلى عن تلك الأنانية، هي تصرفاتنا التي تتمثل في:
- تلبية حاجاته دائمًا من غير أن نفرق بين الضروري الذي لا يمكننا تأجيله وما يمكن تأجيله.
- لا يسمع الطفل كلمة “لا”، دائمًا مجاب حتى ولو لإسكات صراخه وليس حبًا في إجابة طلبه.
- عدم تخصيص حاجات باسمه، فالأغراض ملكية الجميع، فيشعر بالتيه، وما إن يخصص له شيء، كلعبة جديدة يتمسك بها بشدة، لأنه محروم من تخصيص شيء باسمه.
- إهدار حقه في رفض أو قبول مشاركة غيره لعبه، فبدلًا من إقناعه بمشاركة الآخرين؛ نأخذ منه لعبته عنوة ونشارك بها الضيف أو أخاه أو قد يصل الأمر لحرمانه من لعبه لأنه لم يشارك فيها الآخرين! والحق أنه يجب الاهتمام بمشاعر طفلنا قدر اهتمامنا بمشاعر أطفال الآخرين.
- الطفل الذي ينشأ وحيدًا، أو الطفل الذي يسمونه بالطفل العزيز؛ ينجب الزوجين مرة واحدة في العمر ثم لا يرزقون بغير هذا الطفل، فيغدقون عليه كثيرًا، تعويضًا له حرمانه الأخوة، فينشأ مجاب الطلبات، مدللًا، لا يشاركه أحد، لا يعرف ماذا تعني المشاركة؟! وكذا الطفل الذي أتى بعد سنوات عقم طوال.
- الطفل صاحب الظروف المرضية الخاصة يجد تدليلًا من الجميع، فيشب على أنه محور الكون، وهو دائمًا الأولى والأول بتسديد احتياجاته.
لا نعلم أي ظروف مما سبق مر بها الطفل، وعززت لديه سلوك الأنانية، لكن كونه متفوقًا قد يضيف بعدًا آخر في أسباب الأنانية لديه، ربما عززت لديه الثقة الشديدة بالنفس، أنا لا أحتاج الآخر، أو أن الآخرون أغبياء فأنا لا أحب التعامل معهم، لا أفهمهم ولا يفهموني.
هو دائمًا مُقدَّر كونه متفوقًا، فلا يحب أن يخسر تلك المكانة، فيبتعد عن مشاركة زملائه حتى لا يخسر ويظل متربعًا على عرش التميز لا ينافسه فيه أحد، وهذه إحدى أخطاء التعامل مع مقدرات الطفل وحصر ميزاته في ميزة واحدة.
الطفل الجميل، الطفل المتفوق، الطفل المؤدب، وغيرها من الصفات التي تغلب على الطفل ويتميز بها بشدة، فنظل نثني عليه من هذه الوجهة، فيفعل كل ما هو منطقي وما هو غير منطقي، حتى يظل محاطًا بالمعجبين، وحتى يغذي ثقته بنفسه، التي حرمت من أن يجرب دروبًا أخرى للتميز، تجعله إنسانًا أكثر وسطية واعتدالًا.
وبذلك بعد أن كان التفوق مندوحة، يصبح مذمة ونقيصة بسبب إدراتنا الخاطئة لباقي جوانب الشخصية، ويكمن علاج المشكلة في عدة أمور:-
- وضع خطة تركز على جوانب شخصيته الأخرى المميزة وتنميتها.
- الحد من تسليط الضوء على كونه متفوقًا، ونعزز كل سلوك له علاقة بالمشاركة والتعاون، وإن بدا السلوك بسيطًا جدًا.
- عدم وصمه بصفة الأنانية، نبدلها بالتأكيد على احتياجه لأن يكون أكثر تعاونًا، بدلًا من أن نطلب منه ألا يكون أنانيًا.
- من المهم أن يحظى بمساحة من الملكية الخاصة لبعض الأشياء التي لا ينازعه فيها أحد، فيحدث لديه إشباع، فكما أن التدليل الزائد مفسد، كذا الحرمان الزائد مفسد، نعم نقول: فصلنا، مدرستنا.. لكن هذا كرسيك، وهذه منضدتك، فلا نطلق مفهوم ملكية كل شيء للجميع.
- حضور القدوة المتمثلة في الأهل والمعلمات، يخلقون حوله مواقف توضح قيمة وأهمية التعاون، كعمل سباق لإنهاء مهمة في أسرع وقت (كتوزيع الألعاب في صناديقها) ونقسم الفصل على مجموعات، إذا اختار الانفراد بالمهمة، نقيس الوقت الذي أنهى فيه المهمة وحيدًا، والوقت الذي أنجزت المجموعة فيها المهمة، سيجد النتائج غالبًا في صالح المجموعة، مع تكرار فاعليات مثل ذلك، يتضح له الفرق بين العمل في فريق والعمل منفردًا.
- توضيح الفرق بين الصلاة في جماعة والصلاة منفردًا كنموذج لفضل الجماعة وثوابها فالمتفوق يحب أن يحصل على درجات أعلى دائمًا، فهذا مما يحفزه بلغته التي يفهمها- تحصيل الدرجات الأعلى- على الانضمام للجماعة.
- القصص وسيلة قريبة للكبير والصغير، فمشاركته قصص عن التعاون، كقصة ذي القرنين مثلًا، حينما مر على قوم لا يكادون يفقهون قولًا، توسموا فيه الخير كي يعينهم على بناء سد لمواجهة يأجوج ومأجوج، وذلك مقابل أن يعطوه مالًا، فرفض أن يأخذ منهم مالًا وطلب منهم أن يعينوه بقوتهم العضلية والمادية، ولم يجد حلًا إلا ردم ما بين الجبلين لإقامة السد.
فهو بفطنته لا يقدر على العمل بمفرده، وهم رغم أنهم لا يفقهون قولًا؛ كانت لهم قوة مالية وعضلية، فكمل العمل باجتماعهم ولو تفرد أحدهم وقال: أنا لها لهلكوا جميعًا: { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)﴾ [الكهف].
ويفضل أن تكون القصة قبل النوم، أو في نقاش مع زملائه في الفصل، فيرى وجهة نظر الآخر في الأشخاص غير المتعاونين، فيصبح في مقعد المتفرج يرى أثر تصرفاته، من غير أن نشير إلى شخصه.
كذلك المشاركة في الأعمال الخيرية، يدخل المفهوم لدى الأطفال بشكل محبب، فمثلًا نطلب منهم اقتطاع جزء يسير من مصروفهم بعد استئذان الأهل، والمشاركة في عمل إطعام وتوزيعه على المحتاجين، سيرى بنفسه متعة العطاء، ومن الممكن أن يطلب منكم تكرار التجربة، لأثرها الطيب في النفس.
شكرالله لك أيتها المعلمة الفاضلة حرصك على تهذيب أبنائك أخلاقيًا، كحرصك على تعلمهم العلم، فما نفع العلم والتفوق إذ كانا من غير التأكيد على أهمية مهارات التواصل، وغرس أخلاق الأخوة والتراحم بين تلاميذك بعضهم البعض.
أرشدك الله للحيل الناجعة، ونفع بك وجعل ذلك في ميزان حسناتك.