أسكن في منطقة بعيدة، وأضطر لترك أبنائي فترات طويلة وحدهم بالمنزل، وأترك لهم التلفاز ليتسلوا به أثناء غيابي، فنهرتني صديقة لي لأنني أتركهم وحدهم أمام القنوات الفضائية.. فإلى أي مدى يتأثر أولادنا بالقنوات الفضائية؟ وكيف نحميهم من خطرها؟ خصوصا أثناء غيابنا.
الإجابة:
لم يعد تأثر الأولاد فقط بالقنوات الفضائية، فقد فتحت وسائل الإعلام أبوابها على مصراعيها، وأصبحت الهواتف المحمولة في يد كل طفل وراشد.
وبدلا من مشاهدة برامج نافعة أو غير نافعة في التلفاز سابقا على مرأى ومسمع من الجميع، أصبحت الدنيا بحلوها ومرها على أجهزة بحجم كف الطفل، يتوارى فيها عن الأعين كيفما يشاء.
ليت الحال وَقَفَ على ضرر القنوات الفضائية! حينها يمكن السيطرة على مضارّه بخطوات سهلة ممكنة، لكن مع هذا الانفتاح الهائل والتنوع الشديد لوسائل التسلية؛ أصبح الأمر أشد صعوبة، ولكن بالاستعانة بالله كل صعب يهون.
لكل شيء سلاح ذو حدين، حد قاطع جارح، وحد رحيم مليء بالخيرات، ونحن مَن ندير الأمور بشكل يجعلها يتفاقم لتصل إلى الإدمان فنقع أسرى الحد الجارح، وتكون بذلك سلاحًا ضدنا يفتك بأبنائنا ويضيع أعمارهم، ودينهم،أو نستعملها استعمالًا رشيدًا فنحوز منافع كثيرة.
لا أحد ينكر الأضرار التي خلفتها وسائل الإعلام المختلفة على الجوانب الخلقية والنفسية والصحية والدينية والاجتماعية على الكبار، فما بالنا بتأثيراتها على الأطفال!
والأمر شائك جدا، حينما نبحث عن الأسباب التي أوصلت الأمور إلى حد خطير، فطغيان الحياة المادية جعل الأهل يلهثون لتحقيق رغبات الأبناء واحتياجاتهم، فقلّ وقت مكث الآباء مع الأبناء، وازداد الوقت الذي يجلس فيه الأبناء بمفردهم في المنزل بلا رقيب، وفي أيديهم أجهزة بضغطة زر يصلون بها إلى أقبح الأشياء وأحسنها في الوقت نفسه.
لكن الأهل عليهم وضع حلول من منطلق مسؤولياتهم عن أبنائهم أمام الله، ويبذلون مزيدًا من الجهد في تحويل هذه الأجهزة لمصلحة أبنائهم: “فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.
وللتغلب على النتائج المترتبة على هذا السبب، يمكننا فعل الآتي:
- تحديد الوقت المخصص للأجهزة، ولتسهيل هذه المهمة، تتحكم الأم بتليفون ابنها عن بعد من خلال تقنية إلكترونية معروفة تربط جهاز الطفل بجهاز الأم عبر الإيميل.
- يتم الاتفاق مع الطفل على الوقت المتاح له، ونُدرّبه على توزيعه على التطبيقات المختلفة، حتى لا ينهمك في الألعاب مثلا، على حساب التواصل اجتماعيًا عبر مواقع السوشيال ميديا، فيتعلم بذلك التوازن وتقسيم المهام على الوقت المحدد.
- كما نساعده على تنزيل تطبيقات مفيدة، كبرامج مسابقات وننوع في الاختيار بينها لنغطي الجوانب المختلفة من المهارات الفنية والثقافية الدينية واللغوية والمهارات الرياضية. فغالبًا ما يلجأ الأطفال إلى الاستغراق في مشاهدة الرسوم المتحركة والأفلام لأنه لم يتدرب على تجريب البدائل المختلفة.
- كما ندربه على تقوى الله بترديد عبارة: (الله شاهدي الله ناظري الله مطلع عليّ)، فينشأ على أن الله رقيبه، فلا يغير عدم وجود الأهل من حاله، فرقيبه خالقه، فنحيي بذلك رقابته الداخلية لنفسه، ونوقظ الضمير لديه، كما يمكنه كتابة هذه العبارة بخط جميل وتعليقها على الحائط أمامه.
- كما علينا ألا نعتمد على الأجهزة فقط في تسليتهم، فإذا ما اضطررنا لتركهم في المنزل وحدهم فترات طويلة، نعلمهم قبل تركهم، كيف نستثمر أوقاتنا من خلالنا كقدوة لهم.
- فإذا رأونا نوزع الوقت ما بين الصلاة، وقراءة القرآن وحفظه، وقراءة ما يفيد وممارسة الرياضة، وصلة الأرحام، حتما ستصل إليهم الرسالة، كيف يستثمرون أوقاتهم فيما يفيد، فنوفر لهم قدوة، كما نوفر لهم وسائل مختلفة للتسلية (كتب وألعاب مفيدة، وأجهزة رياضية منزلية بسيطة.. إلخ).
إحدى قرى الصين الأكثر إنتاجًا، تقطع الإنترنت عن القرية لفترات طويلة لذلك ينتجون بكثرة، وهذا مصابنا في زماننا هذا، فبرغم الفوائد الهائلة للإنترنت إلا أن الإفراط في استخدامه، واستخدامه بشكل خاطئ، يؤدي إلى كوارث حقيقية، فيجب أن ندرب أبناءنا على التخلي عن هواتفهم المحمولة لفترة يتفق الأهل عليها مع أبنائهم، وسترون البدائل التي يصنعونها من تلقاء أنفسهم، وقد تذهلون من قدرات كامنة لديهم عطلها استغراقهم الشديد في التنقل بين الوسائط الإلكترونية المختلفة.
يقول أحد الآباء: أحضرت قطًّا إلى المنزل لأبعد أطفالي عن هواتفهم المحمولة، فوجد القط بعد عدة أيام يجلس معهم وهم يشاهدون الرسوم المتحركة على هواتفهم!
قصة مضحكة مبكية، والعبرة أن إحضار الوسائل البديلة من غير أن نقنعهم بمساوئ الإفراط في استخدام الوسائط الإلكترونية، لن يؤتِ أكله بكل تأكيد.
وبعد استعراض أهم سبب للإفراط في استخدام الوسائل الإلكترونية المختلفة، نتحدث عن التأثيرات السلبية لاستخدام الأجهزة الإلكترونية بشكل مفرط مع بعض الحلول:
أولًا: الجانب الديني:
- يتعرض الأبناء لمحتوى مليء بالمغالطات العقدية، كاستخدام قدرة السحر في الكثير من أفلام الرسوم المتحركة، والتلفظ بكلمات كالتمائم والتعاويذ، واستخدام إشارات لأصحاب العقائد المختلفة، كل هذه الأشياء نظنها نحن الكبار تمر مرور الكرام على أبنائنا، لأننا نعلم الصحيح من الدين، لكن ستكتشف أن الأبناء يستخدمون هذه الخرافات في حياتهم، بعيدًا عن وقت المشاهدة!
لذا، يجب التقليل من وقت المكوث أمام الفضائيات وغيرها، كما يفضل مشاهدة المحتوى معهم، والبحث عن آراء أهل العلم والمرجعيات المحترمة- إن وجد لهم رأي- في أي من المحتويات المعروضة فلديهم من الخبرة ما يكشفون به السم المدسوس في العسل.
وحديث: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”، ناقوس خطر، فنحن الأهل بتهاوننا كثيرا، قد نتسبب في تشويه فطرة الله التي فطر أبناؤنا عليها، بتركهم لشياطين الإنس والجن بغير ضابط أو رابط.
- استخدام ألفاظ خارجة، لم يكونوا ليعرفوها إلا من خلال هذا البلاء.
- تأخيرهم الصلاة بالاستغراق في مشاهدة المتع والملذات، لذا وجب النداء على الصلاة في أول وقتها، ولا يكتفي الأهل بالتنبيه فقط، فإذا تكرر تأخيرهم الصلاة بسبب استغراقهم، ندربهم في المرات المقبلة على ربط تنظيم أوقاتهم تبعا لوقت الصلاة، وإذا لم يتحسن حالهم نصعّد اللهجة ونأخذ تدابير أشد حزما.
- الاعتياد على مشاهدة الفواحش، فمؤخرًا تتباهى إحدى شركات صناعة أفلام الرسوم المتحركة بإدخالها محتوى الشواذ، بل تصف كميته في أفلامها بالقليلة أمام ما يجب أن يكون، وكأنها تتوعد بالمزيد، ونحن غرقى في إيجاد الأعذار بالبحث عن لقمة العيش، وعدم القدرة على متابعة الأطفال، وغيرنا لم يدخر جهدًا لفرض أجندته ومعتقداته.
لذا لزم على الأهل وضع عيونهم وسط رؤوسهم أكثر من ذي قبل، وبذل جهد أكبر في تعليم أبنائهم الحلال والحرام، وإنكار المنكر وإعلان ذلك بوضوح وسط أقرانهم حتى تكون بيوتنا قدوة، فلا نستحيي أن نخبر من حولنا بأنا مقاطعون لبرامج معينة، ونتناقش معهم في أسبابنا، فكلما توافق أكثر الأهل على خطورة ما يتعرض له الأبناء؛ حجمنا المخاطر بإذن الله، “فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ”، صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
ثانيًا: الجانب الاجتماعي:
- اختيار الطفل للعزلة أكثر من حبه للجلوس مع الناس، فقد اكتفى الأبناء بصناعة عوالمهم الوهمية من أبطال الأفلام الخارقين ومتابعة الإنفلونسر (مشاهير السوشال ميديا)، فتتآكل مع مرور الوقت دوائرهم الاجتماعية، وقد يصابون ببعض الأمراض النفسية.
- تأثرهم بأبطال وهميّين لا يشبهونهم شكلًا ولا مضمونًا، فتجد شخصيات مثل الرجل العنكبوتي (سبايدرمان)، وبات مان وغيرهما، مصدر إعجاب الأطفال ويتمنى الوصول إلى قدراتهم الخارقة!
- كم سمعنا عن أحداث قفز من الشرفات أو شنقا بحبل، أو استخدام أسلحة بين الأطفال تقليدا لهذه الشخصيات الوهمية غير مدركين الفرق بين الحقيقة والخيال!
لذا وجب النقاش مع الأطفال خصوصا من هم في سن الثالثة وحولها، عن الفرق بين التمثيل وبين الحقيقة، حتى لا يقعوا أسرى التجريب ويعرضون حياتهم وحياة من حولهم للخطورة.
كما يجب علينا استبدال هذه النوعية من الأبطال، بأبطالنا الحقيقيين، وذلك عبر قراءة قصص لهم عن سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه، وخالد بن الوليد، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم، فتنشأ لديهم عزة حقيقية، وفخر بدينهم.
- وتعد حالة السخط على أوضاعنا الاجتماعية، نتيجة حاصلة من فرط الاطلاع على حياة الآخرين وأسفارهم، فيتربى في غيبة منا طفل حاقد متطلع غير راضٍ، والصحيح أن يندمج الأطفال مع المجتمع الحقيقي وليس المجتمع الوهمي، الذي يركز على الجميل والجمال، كطبيعة لغة العصر في الإصرار على الحصول على الصورة الحلوة حتى وإن لم تكن واقعية وذلك باستخدام تقنيات تعديل الصور! فبالاندماج مع المجتمع الحقيقي تتضح النعم التي يعيش فيها الأبناء أكثر وأكثر ويحمدون الله على أن فضّلهم على كثير ممن خلق تفضيلا.
لذا يجب إمضاء أوقات مع أطفالنا نعدد النعم، ونكتبها في ورقة ونعلقها، ونجعلهم يرسمون بعض النعم ويلوننها، فالاستغراق في الحمد يملأ القلب رضا وقناعة.
- كما ترتفع حالة النهم على الشراء بسبب مغريات الإعلانات، فيحدث صراع مع الأهل بسبب الرفض، لأن قائمة المغريات كبيرة متغيرة بشكل سريع، ولتفادي هذه المشكلة، يرسي الأهل بعض القواعد مع أبنائهم، مثل: “أكلما اشتهيت اشتريت؟”، فيرد الأبناء على هذه النقطة بأنه مصروفهم، فنبدأ في تعليمهم تقسيم المصروف وأولويّات الصرف، وفكرة الادخار …إلخ.
ثالثًا: الجانب العقلي:
تحول الطفل لمشاهد سلبي، وتوقف عوامل النمو العقلي بحصرها في إطار التلقي فقط.. نعم، لا شك أن الصورة الجميلة والقصص الخيالية تنمي الإبداع لدى الأطفال، كما تنمي بعض البرامج تطور نموّهم الثقافي واللغوي، لكن مع الإفراط في المشاهدة، وبعد أن اتسع خيال الطفل في البداية، يضيق من قلة التجريب، والاعتياد على الطرح المقدم، وتشابه نهايات القصص، وحصر مفهومي الخير والشر بشكل خاطئ، فيتعطل إدراكهم إذا ما خالف الواقع ما اعتادوا عليه، وكثيرًا ما يخالف الواقع ذلك، فنجني ثمار ما فرطنا فيه، من جيل يسخط على الابتلاءات ويستأخر النصر، ويصف المؤمنين بالضعف، لأنهم خسروا جولة في الصراع بين الحق والباطل، لأنهم اعتادوا انتصار الخير في الأفلام والمسلسلات.
والحل لا يكون إلا بزيادة الأنشطة التي تستهدف جميع الحواس؛ فالمشاهدة تركز على العين والأذن فقط، ويبقى المشاهد خاملاً متلقيًا؛ أما إذا وضعنا الأولاد في نشاط رياضي أو تعليمي أو حتى ترفيهي، مثل الألعاب الرياضية، والرسم والتلوين، ألعاب الذكاء الحركية أو العقلية …الخ؛ فإنه بذلك ينشط أكبر قدر ممكن من حواسه وأعضائه ومهاراته.
رابعًا: الجانب الصحي:
حدث ولا حرج، فجيل تعاني عظام كتفه ورقبته، ومفاصل يده من فرط الإمساك بالهواتف أو مشاهدة الفضائيات بالجلوس في أوضاع غير صحيحة لفترات طويلة، وغيرها من ضعف في النظر، غير المشكلات النفسية مثل التوحد، فكثرة المكث أمام التلفاز تصيب بطيف توحد، والدراسات في ذلك كثيرة.
فماذا نصنع بأبنائنا حين نتركهم أمام الشاشات لأوقات طويلة؟
قد ذكرنا العديد من الحلول في ثنايا كلامنا السابق عن الآثار السلبية لهذه الشاشات، ونؤكد على أن التربية لا تعني أبدا الاستسهال، فبقدر عزمنا على إصلاح أبنائنا بقدر توفيق الله لنا، وكلما أدخلنا مفاهيم للتسلية والترفيه غير مشاهدة التلفاز؛ قَلَّتْ المضار.
ونشير إلى أهمية مشاركة الأولاد في اكتشاف العالم من حولنا، فهو عبادة وترفيه ومعرفة، يقول تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20].
هذا المسير في النظر في كتاب الله المنظور (الكون)، أرجى نفعًا، وأكبر أثرًا، ويغني عن ألف تسلية مضارها أكبر من منافعها.. مسير يغذي الروح، ويرفع إيمان العبد، ويقرب من الخالق- عز وجل-، وحري بنا أن نفرد له أوقاتًا وأوقاتًا حتى نكون أهلًا لرعاية أبنائنا.