مشكلتي تتلخص في أن أمي الغالية العزيزة تحبني كثيرًا لدرجة أنني أتضايق أحيانًا من هذا الحب؛ لأن هذا الحب ليس حبًّا طبيعيًّا إنما هو حب فوق العادة.
فوالدتي الحبيبة تخاف عليَّ من الهواء حتى لا يجرح خدي، ومن الماء البارد مخافة أن يؤذي حلقي، ولدرجة أنها تثنيني عن موضوع الزواج و لا تتحمس له، ولا تتشجع إن طلبت منها السعي معي في طلب الزواج من هذه أو تلك، حتى اكتشفت أخيرًا أنها من فرط تعلقها بي لا تريدني أن أتزوج؛ حتى لا تخطفني منها من قدّر الله أن أتزوجها، وأنا يا سيدي موظف في وظيفة راقية، تدرُّ عليَّ دخلًا طيبًا يكفي لحياة زوجية كريمة، وأصدقائي من حولي تزوجوا، والفتن تحيط بي من كل جانب، لكن هذا حال أمي! فماذا أفعل؟ هل أظل بجوارها حتى يمر قطار العمر أم أتزوج ولو بغير رضاها، علمًا أن لي أشقاء آخرين لكنها متعلقة بي أنا بالذات؟
الإجابة:
استشعرنا دفئًا وغبطةً في مطلع رسالتك وأنت تصف مشاعر الحرص والحب من أمك تجاهك، وهذه نعمة وحب لا يُعوضه أي حب في الدنيا كلها، فاحمد الله بداية على نعمة أمك ونعمة حبها وحرصها، لكن ما وصل إليه هذا الحب الذي أوضحته الرسالة هو ما لا نحمده ولا نشجعه.
فالأمر النبوي واضح لا مراء فيه: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج”، حتى أولئك الذين ظنوا أنهم سيصبحون أكثر تعبدًا لله إن امتنعوا عن الزواج، رد عليهم رسول الله فقال: “لكني أنا أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منّي”.
لن ينصحك أحد بعدم الزواج برًّا بوالدتك، لأنّ هذا يندرج تحت ما ذكره الله عن حال بعض أهل الكتاب حين قال عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}، فتكون قد ابتدعت لبر أمك ما لم يكتبه الله عليك من أشكال البر بل أمرك بنقيضه.
كما أننا نتسائل، هل ستحمل الأم الفاضلة وزرك يوم القيامة إن سبب لك تأخير الزواج وقوعًا في الذنوب والمعاصي؟! وأنت قد أشرت في رسالتك إلى كثرة الفتن من حولك، لذا فما ستتحمل وزره وحدك أمام الله وقع عليه تحصين نفسك منه وحدك ولو منعك أحد من ذلك كأمك.
مثل الحيرة التي وَقعت فيها مثل حفرة واقعة على طريق المارين، كلما مر بها أحدهم سقط فيها، وبدلًا من ردم الحفرة قام الناس بإغلاق هذا الطريق وامتنعوا عن المرور فيه، يا للعجب أغلقوا الطريق بدلًا من ردم الحفرة! كذلك الحال مع والدتك التي لا تشجعك على الزواج لارتباطها بك، ليس الحل في الامتناع عن الزواج بل بمعالجة ما تعاني منه أمك.
إذ معهود عن الآباء سعيهم وفرحتهم بتزويج أبنائهم، وقد وُجِه لهم الخطاب في سورة النور حين قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}، لذلك إذا كان لأمك بعض الحق في قليل من الغيرة، بعد أن كانت كل أمور حياتك تدور معها، يتغير الحال وتأتي من تشاركها فيها، أو أن يكون لديها رغبة دفينة أن تعيش معها أكثر فهذا مفهوم، لكن أن تثنيك عن الزّواج فهذا قد ينم عن تعلق والدتك بك تعلق مرضي يلزمه المعالجة.
والدتك تحتاج أن تدرك أنها تعرقل زواجك عن قصد حتى تبقيك بجوارها، لأنها قد لا تكون مدركة لدوافعها الحقيقية وراء ذلك. ولتجعل والدك يسمعها هذا أو أحد إخوتك وليس أنت.
كما أنها تحتاج إلى طمأنة أنك ستظل حريصًا على ودها وبرها بعد زواجك، ولا غنى لك حقيقة عن ذلك، فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “أعظم الناس حقًّا على المرأة زوجها وأعظم الناس حقًّا على الرجل أمه”، ولعلها رأت نماذج في أيامنا هذه تَغير فيها الأبناء كثيرًا بعد زواجهم وتخاف من تكرار مثل هذه النماذج، أو أنّ زواجها كان سببًا في ابتعادها عن أهلها لسبب أو آخر ولا تستطيع أن ترى الزواج إلا سببًا لاختطافك منها.
وعليك أن تتخير صاحبة الخُلُق والدين التي تعينك على هذا البر وتبدد مخاوف أمك، واجعلها من الأمور التي تُوضح أهميتها بالنسبة لك لأي فتاة تتقدم إليها، وفي الوقت نفسه حاذر أن تُخبر من تتقدم لها بهذا عن أمك فتثير بذلك القلق منها وربما منك، وحاذر أن تُؤثر عاطفة أمك الشديدة تجاهك على قدرتك على اتخاذ قراراتك باستقلالية حتى يطمئن أي بيت ستقبل عليه من قدرتك على الموازنة بين إدارة بيتك ورعاية احتياجات زوجتك وفي الوقت نفسه بر أمك ورعاية حقها.