عاش العالم الجليل والشيخ المربّي أمجد الزهاوي أيامه وحياته عالمًا عاملًا، ومجاهدًا من أجل وطنه والأمة الإسلامية وفي القلب منها القضية الفلسطينية، فكان بمثابة النجم المضيء في سماء الهداية على مدى عقود من الزمن.
ولقد كان الرجل من العلماء الذين تستنير بهم المجتمعات، وتنهض بهم الأمم، ويسترشد بهم الضال، ويأنس بهم الضعيف، ويهابهم الحكام، لما له من فضل وقوة في الحق وأثر في الإصلاح، وكان موته خطبًا جللًا.
نشأة أمجد الزهاوي
وُلِدَ الشيخ أمجد بن محمد بن سعيد بن الشيخ محمد بن فيضي، وشهرته أمجد الزهاوي في بغداد عام 1300 هـ/ 1882م، حيث نشأ في أسرة سكنت في محلة “جديد حسن باشا”، وهي من محلات بغداد العريقة بالقرب من جامع السراي.
وأبوه الشيخ محمد سعيد مفتي بغداد، وجدّه الشيخ محمد فيضي كان مفتي بغداد أيضًا، وهذا هو ابن الشيخ أحمد بن حسن بيك بن رستم، بن خسرو بن الأمير سليمان باشا رئيس الأسرة البابانية الذي أنشأ حفيده إبراهيم باشا بابان مدينة السليمانية وسمّاها باسم جده بابا سليمان رئيس الأسرة البابانية التي تعود أصولها إلى أرومة عربية عريقة تنحدر من بني مخزوم، وهم من سلالة الصحابي خالد بن الوليد، رضي الله عنه.
أمجد الزهاوي.. علم وعمل
تربى أمجد الزهاوي في بيئة متدينة، وتلقى بواكير التعليم على يد أبرز رجال الفكر الديني في بغداد، وكان تعليمه الأول على يد والده وجدّه، وهما من علماء الدين الإسلامي، ثمّ انطلق إلى مجالس العلماء في بغداد، ليستمع ويحاور، وكان العلماء يستمعون إليه في الشريعة، والفقه حيث كان يقتنص الشوارد في الفتاوى والأحكام، إضافة إلى ضلوعه في اللغة والأدب.
ورحل الزهاوي إلى إستانبول، فدَرَس الحقوق في معهد القضاء العالي حتى تخرج في عام 1906م، وبعد عودته عمل مفتيًا في الإحساء، ثمّ عضوًا في محكمة استئناف بغداد، ثمّ رئيس محكمة حقوق الموصل، إلى أن اعتزل الوظيفة، وعمل محاميًا بعد دخول القوات الإنجليزية إلى بغداد، وكان من أبرز القضايا التي تولاها دفاعه عن الشيخ ضاري المحمود الذي قَتَل القائد الإنجليزي جيرارد ليتشمان.
ثمّ عاد إلى الوظيفة وعمل مستشارًا للحقوق في وزارة الأوقاف، وأستاذًا في كلية الحقوق العراقية، ثمّ رئيس مجلس التمييز الشرعي، وكان في الوقت نفسه يُدرِّس في المدرسة السليمانية في بغداد، وعندما صدر أمر وزاري بعدم جواز الجمع بين مجلس التمييز الشرعي والتدريس، استقال من المجلس، وآثر عليه البقاء في التدريس.
كرّس الزهاوي حياته لطلب العلوم الشرعية كالفقه والأصول، وله آراء شرعية وفتاوى مقبولة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وكان عالمًا في علوم اللغة العربية ويُجيد التحدث باللغات الكردية والتركية والفارسية حتى إنه عُرض عليه منصب مفتي العراق بعد وفاة المفتي الشيخ قاسم القيسي عام 1955م لكنه رفض.
وقال له الشيخ قاسم القيسي ذات مرة: “يا شيخ أمجد، كُنت تركت لك الفقه والأصول، وسلمت إليك القيادة والريادة فيهما، ولم أكن أظن أنه يمكنك أن تناقشني في علوم العربية والبلاغة، ولكنني الآن مضطر لأن أسلم لك بهذه أيضًا، فأنت يا أمجد أفندي شيخي وشيخ العراقيين جميعًا في المنقول والمعقول وفي سائر العلوم، ولن أجادلك بعد اليوم ولكن أستفتيك”.
صفات الشيخ الزهاوي
تَرَكَ الشيخ أمجد الزهاوي بصمات في كل عمل تولّاه، سواء في الجامعة أو رئيسًا لمجلس التمييز الشرعي أو الفتاوى، وكان محل تقدير من الجميع الذين وصفوه بالتواضع والزهد والصراحة والجرأة في الحق، والشجاعة والفطنة والذكاء، والقدرة على التأثير في الناس بقوة الحجة.
يقول عميد كلية الآداب في جامعة الموصل: إن الزهاوي تمتع بمكانة كبيرة بين الناس وفي مختلف الأوساط الاجتماعية والسياسية، وحظي باحترام الشعب العراقي لعلمه وحرصه وزهده وأخلاقه، حيث جعل الناس يقفون عند رأيه ولا يتجاوزونه أدبًا واحترامًا.
ويقول طارق حرب – المؤرخ والخبير القانوني-: إن الشيخ أمجد كان أحد شموع مدينة بغداد لفترة زمنية طويلة، حيث كان لا يخلو مجلس ثقافي أو حلقة معرفية أو مجمع فلسفي علمي من وجوده، لذا كان كل مَن يكتب في الفقه والدين أو القانون لا بُد من أن يرجع إليه.
وقال عنه الشيخ محمد محمود الصواف: “كان الزهاوي أزهد الناس في الثناء، وأبعدهم عن الرياء، فهو لله وحده، لذا ما كان يرجو سواه ولا يبغي إلا رضاه – عز وجل-، ويبتعد عن السعي من أجل السمعة ويكره الشهرة”.
الزهاوي وتشكيل الإخوان بالعراق
دخلت دعوة الإخوان المسلمين العراق عن طريق رافدين؛ الأول تمثل في المُدرّسين المصريين الإخوان الذين عملوا في العراق منذ بداية الأربعينيات، والثاني عن طريق الشيخ محمد محمود الصواف الذي تعلم في الأزهر وعرف الأستاذ البنا.
وحينما عاد الصواف تناقش مع شيخه البنا حول نشر فكرة الإخوان في العراق، فاتفق الاثنان على تأسيس جمعية “الأخوة الإسلامية” في (صفر 1367هـ = يناير 1948) وهي الجمعية الذي تحرك تحت اسمها الإخوان في العراق، وظلت تصدر قبل أن تغلقها حكومة “نوري السعيد” في العهد الملكي، حيث ألغيت عام 1954م.
وتشكل مجلس إدارة الجمعية من الشيخ أمجد الزهاوي رئيسًا، ومحمد عاصم النقيب نائبًا للرئيس، ومحمد الصواف سكرتيرًا، وإبراهيم مصطفى الأيوبي أمينًا للصندوق، فيما انتخبت هيئة تأسيسية للجمعية مكونة من 60 شخصًا.
وبعد انسحاب الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف ومعهما شباب الدعوة الجُدد من جمعية الأخوة الإسلامية، فتح الشيخ الزهاوي مدرسته الشرعية “المدرسة السليمانية” بالقشلة كمقر للدعوة الجديدة وواجهة لدعوة الإخوان بالعراق.
وكان لفتاوى الشيخ الزهاوي ودعمه للإخوان بالعراق تأثير كبير في التحاق الناس بهذه الدعوة لثقتهم في هؤلاء العلماء، وحينما سئل عن رأيه في الإخوان قال: هم جماعة من خير خلق الله يُعلمون الناس الخير ويدافعون عن الشريعة الغرّاء ويسعون في تكثير أمثالهم.
وحينما وقع الانقلاب العسكري في العراق عام 1958م بقيادة الشيوعيين الذي عمدوا إلى طمس الهوية الإسلامية، وقف الشيخ الزهاوي لهم بالمرصاد وندد بالقوانين التي أصدرها عبد الكريم قاسم بما فيها قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 الذي ألغى كل القوانين الإسلامية المتعلقة بقضايا الأحوال الشخصية.
وكان له ولإخوانه دور بارز في إحباط المشروع الشيوعي في العراق، وعند اشتداد طغيان الشيوعية غادر الشيخ الزهاوي بغداد إلى المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية وسكن فيها مدة من الزمن ثمّ عاد إلى بغداد.
فلسطين في قلب الزهاوي
اهتم الشيخ أمجد الزهاوي بالقضية الفلسطينية، فأسس مع الشيخ الصواف جمعية إنقاذ فلسطين عام 1947م التي نادت “من أجل فلسطين” فخرج ما يزيد على 200 ألف متظاهر عراقي تنديدًا بما يجري في فلسطين.
بل فتحت أبوابها أمام المتطوعين للدفاع عن فلسطين وسافر من خلالها كثير من العراقيين للدفاع عن القدس، وتألف من المتطوعين للجهاد كتيبتي الحسين والقادسية (كل واحدة تتكون من 360 مقاتلًا) وقد وصلتا إلى فلسطين في مارس 1948م.
ويروى فليح السامرائي – أحد مرافقي الشيخ الزهاوي وأحد قيادات جمعية الأخوّة الإسلامية التي يرأسها الزهاوي- مشاهداته لتوافد النساء العراقيات إلى جمعية إنقاذ فلسطين للتبرع بالذهب والأموال، حيث نجح الزهاوي في جمع تبرعات كبيرة لنصرة القضية الفلسطينية آنذاك.
وكان للشيخ الزهاوي دور مهم في مساعدة الثورة الجزائرية، واستطاع إقناع الدولة العراقية بالوقوف مع الجزائريين، كما أسهم في مناصرة الكفاح في مراكش والجزائر وليبيا والعديد من الدول الإسلامية.
وتصدى للفتنة الطائفية التي بدأت في خمسينيات القرن الماضي، التي كادت أن تأكل الأخضر واليابس في العراق، وأرسل الوفود إلى النجف للتعاون في إيقاف المد الشيوعي ورفض الاستبداد والدكتاتورية.
وكان من أقواله: “إن العالم الإسلامي يحترق، وعلى كل منا أن يصب ولو قليلاً من الماء ليطفئ ما يستطيع أن يطفئه دون أن ينتظر غيره”.
مواقف لها تاريخ
حفظ الشيخ أمجد الزهاوي مكانته بين العلماء وهيبتهم منذ صغره، ولم يترك بابًا من أبواب التربية إلا وسلكه ناصحًا ومرشدًا ومعلمًا شباب الأمة أمر دينهم وعزة نفوسهم، ومن المواقف التي يحكيها الشيخ عبد الغفور الهيتي: كنت أعبر سوق السراي في بداية الخمسينيات فواجهت الشيخ قاسم القيسي فسلمت عليه وقبلت يده، وبينما كنا نتحدث إذ التحق بنا الشيخ نوري الملا حويش – رحمه الله- فقال للشيخ القيسي: أما تسمع ماذا يفعل الصواف؟ قال: وماذا يفعل الصواب؟ قال: ترك مقام العلم وذهب بهيبة العلماء بمجالسته للشباب واختلاطه معهم… الخ.
قال الشيخ عبد الغفور: فالتفت إلى الشيخ القيسي فسألني: وماذا يقول أفندينا (يعني الزهاوي)؟ قال: فقلت: يا شيخنا: الشيخ أمجد يسانده ويؤيده ويجلس معه بين الشباب قال: فرفع الشيخ القيسي يده إلى السماء، فقال: اللهم إني أؤيده أيضا.
ويقول الدكتور محمد علي – أستاذ التاريخ الحديث-: كانت لدى الزهاوي مواقف ضد العديد من السياسيين الذين اعتبروه بمثابة خصم وحجر عثرة تحول دون تمرير العديد من القضايا التي تخص بعض المسؤولين.
كما أنه وقف ضد توجهات بعض حكومات العهد الملكي التي سمحت بفتح مدارس تبشيرية ومنها مدرسة كلية بغداد، وذلك لإدراكه أهداف المبشرين من فتح تلك المدارس.
ويقول الأستاذ يوسف العظم: كان الملك فيصل الثاني ملك العراق (1953- 1958) يحترم الشيخ الزهاوي، فإبان انتفاضة سنة 1956 واعتقال الشرطة جمعًا من الشباب في التظاهرات المؤيدة لمصر إبان العدوان الثلاثي البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي عليها، اتصل الشيخ الزهاوي بالملك وطالب بالإفراج عن الشباب، فقال له الملك: أي شاب يريد شيخنا أن نفرج عنه؟ كان جواب الشيخ الزهاوي: “كلهم يا ولدي.. أولادنا.. الله يرضى عليك”، ويتم الإفراج عن الشباب جميعًا إسلاميين وقوميين وماركسيين استجابة للشيخ الزهاوي.
وفاته الشيخ الزهاوي
استقر الشيخ أمجد الزهاوي أواخر أيامه في خدمة العلم والتعليم وكان لهُ مجلسه الخاص في المدرسة السليمانية الذي يجتمع فيه العلماء والأدباء وطلاب العلم، والكل بين سائل ومشتكٍ ومستفتٍ فلا يرد طلبًا وما عرف عنه غير السعي في خدمة الناس وعمل الخير والإخلاص لله.
وكان كثير المطالعة، ويحب البحث والمراجعة لكتبه، حيث يذكر عنه مطالعته للكتب إلى وقت وفاتهِ بساعة، وقد تُوفي في يوم الجمعة 15 شعبان 1386 هـ، الموافق 17 نوفمبر 1967م، عن عمر ناهز 85 عامًا.
المصادر
مجلة الأخوة الإسلامية (العراق): العدد 10، 6 يونيو/ حزيران 1954م.
محمد محمود الصواف: صفحات من تاريخ الدعوة الإسلامية في العراق، طـ 1، دار الاعتصام، للطباعة والنشر والتوزيع, القاهرة، 1984م.
محسن عبد الحميد: الإخوان المسلمون في العراق ( 1945 م – 2003م)، طـ1، دار المأمون للنشر والتوزيع، 2011م
عبدالله العقيل: من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، دار البشير، طنطا، 2008م.