اتسم الفكر التربوي لدى الإمام ابن حزم الأندلسي – رحمه الله- بالأصالة والابتكار والاستقلالية ورفض التقليد أو المحاكاة، فكان قوي الحجة في الدعوة إلى أفكاره ومتحمسًا لرأيه، ولم يلتزم باللين رغم أنه نصح به في رسالته “الأخلاق والسير”، ولعل ذلك يرجع إلى الخلاف المذهبي الحاد في الأندلس، الذي ربما رأى معه مواقف خصومه كأنها مكابرة في الحق.
ونبغ ابن حزم في العلوم الشرعية والفلسفة والمنطق والتاريخ والسياسة، فتشكلت لديه رؤية تربوية فريدة صاغها في كتبه ومؤلفاته، وهي تتلخص في محتوى المنهج وأهدافه، والمواد الدراسية بين القدماء والمحدثين، وأساليب التعليم، ونصائح لطلاب العلم، وطرق اكتساب العلوم.
لذا، يُعد ابن حزم (384-456) رائدًا من رواد التربية والتعليم في عصره؛ ومن السابقين إلى التأليف في التلقين ومراتب العلوم وخصال العالم والمتعلم؛ وشروط البحث العلمي وحداثته، ما يُمكن أن يُعد ثورة جذرية، في التربية والتعليم.
نشأة ابن حزم الأندلسي
وُلِد ابن حزم الأندلسي في قرطبة خلال شهر رمضان عام 384 هـ، لأسرة موسرة، وعاش سنواته الأولى تلك المدينة، ثمّ تنقل هو وأسرته في أرجاء الأندلس، ومرّت به مشكلات أدى بعضها إلى دخوله السجن، وفي عام 414 هـ صار وزيرًا للخليفة الأموي المستصغر بالله.
وكان يرى أنّ هذا المنصب قد يساعده في تحقيق أهدافه السياسية التي يتمثل في وحدة الأندلس، والوقوف صفًّا واحدًا ضد مسيحي الشمال الأندلسي، لكن هذا الأمل تلاشى بسرعة حين قُتل المستصغر بالله بعد أقل من شهرين من ولايته، وطُورد ابن حزم من خصوم بني أمية، فعكف على طلب العلم والتفرغ له، وكان يناهز الخامسة والثلاثين من عمره.
ومنذ نشأته كانت اهتماماته العلمية واضحة، وكان أبوه الوزير أحمد بن حزم حريصًا على تنشئته على السلوك الإسلامي القويم، فأحاطه برقابة دائمة في سنوات الطفولة والصبا، لذا لم يبرح قصر أبيه للتعلم في سنواته الأولى، فتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم ورواية الشعر داخل القصر.
وعندما بلغ الثانية عشرة صَحب أباه إلى بعض المجالس العامة وساعده ما كان يتناقله الكبار من أفكار وقضايا على الإلمام بثقافة عصره، ثمّ سمع الحديث من بعض علماء عصره، وروى الشعر وكان اهتمامه به واضحًا في شبابه.
وفي السادسة والعشرين من عمره بدأت دراساته الجادة في الفقه، ثمّ ازداد اهتمامه به في الفترة التي شهدت فشل مشروعاته السياسية، وكان مالكي المذهب في بداية أمره شأن الأندلسيين، ثمّ انتقل إلى المذهب الشافعي وناضل عنه، وتعرّض بسبب ذلك إلى مضايقات بعض فقهاء الأندلس حتى اتهموه بالشذوذ في أفكاره، ثمّ اعتنق المذهب الظاهري، وطوّره، ودافع عنه، ووضع الكتب في شرحه، وغدا صاحب اتجاه متميز بين فقهاء الظاهرية وصار له أتباع يُعرفون بالحزمية.
وإلى جانب الفقه الذي نبغ فيه ابن حزم كانت له اهتمامات بالمنطق والفلسفة وعلم الكلام، وله فيها مؤلفات ذات طابع متميز في المنهج والمحتوى، منها كتابه الشهير “الفصل في الملل والأهواء والنحل”، وكتابه “التقريب لحد المنطق”.
وفي مجال التاريخ والسياسة كان مؤرخًا دقيقا ثقة في أحكامه، وله “جمهرة أنساب العرب”، وغيره من المؤلفات، وهذا كله فضلا عن آرائه التربوية التي حفلت بها مؤلفاته الكثيرة، وهذه الاهتمامات العلمية على تنوعها كوّنت شخصيته الشديدة فيما يرى أنه حق، لذا كان يجادل مخالفيه في صرامة وعنف لا يخفف من صرامته لين أو موادعة.
أفكار تربوية لدى ابن حزم الأندلسي
كان لدى ابن حزم الأندلسي العديد من الأفكار التربوية التي استفاد منها كثير من المختصين في الحقل التربوي، ومنها:
الأسس العامة في المنهج التعليمي، فقد كان له متطلبات خمس ينبغي مراعاتها في المنهج التعليمي الذي يُقدم للتلاميذ، فهناك مطلب ديني يتعلق بتعليم أمور الدين للتلاميذ، ومطلب خلقي يعلم النشء القواعد الخلقية التي تُؤدي إلى تهذيبه، وتمسكه بالفضائل، ومطلب يتصل بنفع المادة التعليمية للمسلمين في زمانهم الذي يعيشونه، ومطلب يتصل بنضج المتعلم ومناسبة المادة له، ومطلب يتصل بطبيعة محتوى المادة التي نعلمها للتلاميذ.
والمواد الدراسية بين القدماء والمحدثين، يُقسمها ابن حزم إلى مجموعتين: الأولى تتغير من أمة إلى أمة وهي ثلاثة مواد “الشريعة، واللغة، والأخبار”، ومجموعة تتشابه في الحقائق والمحتوى عند جميع الأمم، فتتكوّن من أربع مواد، هي: علم النجوم، ويشمل علمين: علم الهيئة “الفلك” وله براهينه، وعلم أحكام النجوم، والمادة الثانية: علم العدد “الحساب”، والمادة الثالثة: هي علم المنطق والفلسفة، وينقسم هذا العلم إلى: عقلي وحسّي، والمادة الرابعة من المواد التي تتشابه عند جميع الأمم: هي علم الطب، وهي نوعان: طب النفس، وطب الجسم.
أمّا محتوى المنهج وأهدافه الخاصة، فقدم ابن حزم مواد الدراسة وفقا لتدرّجها في نظره، فبدأ بما يناسب طفل الخامسة، ثمّ انطلق مع نمو المتعلم دون أن يحدّد مراحل دراسية بطريقة مباشرة عند عرض محتوى المنهج.
فيرى ابن حزم أنه لا بد على الآباء وأولياء الأمور أن يبدأوا في تعليم أبنائهم الكتابة عن طريق المؤدبين، وذلك في نحو الخامسة من مولد الصبي، والمستوى الأدنى الذي يلتزم به المعلم هو وضوح الخط؛ ليقرأ بسهولة، ثمّ القراءة باللهجة التي تناسب بلد المتعلم، ويرتبط بإجادة القراءة حفظ القرآن الكريم، وينتقل المعلم إلى تعلم النحو، ثمّ العدد وطرف من المساحة، وبعد ذلك المنطق والطبيعيات ليعرف المتعلم ماهية البراهين، ثمّ علم الأخبار، وما بعد الطبيعة.
أساليب التعليم عند ابن حزم
يبدأ التعلم عند ابن حزم الأندلسي في سن الخامسة، عندما تشتدّ أجسام المتعلمين، ويفهمون ما يُقال لهم، ويقدرون على إجابة معلميهم، ولكل من المعلم والمتعلم دور مهم عند ابن حزم، فأمّا المعلم فيجب عليه مراعاة أن تكون المادة التي تُدرس للمتعلم مقبولة لديه؛ لتلقي استجابة منه، وأن يترقّى بالمتعلم فيحاول التعرف إلى ما يناسب طبيعته واستعداداته، ويجب أن تكون وسيلة المُعلّم التشويق والتدرج، لا القسر والإرغام والملل، ويكون التشويق والتدرج مجديا إذا راعى المُعلّم ميول المتعلّم واستعداداته.
ويجب على المعلم أن يكون قدوة لطلابه في سلوكه وتطبيقه للمبادئ التي يُعلّمها، وعليه أن يمارس الفضائل، وألا يذم ما يجهل من العلوم، وألا يحسد غيره، وألا يحتقر من هم دونه، وألا يكتم علمه أو يُدرّس علما لا يتقنه، وعليه أن يكون أمينًا مخلصًا في عمله، حريصًا على تنمية معارفه، قنوعًا في مطالبه المادية، لا يأخذ أجرًا على التعليم إلا إذا كان متفرغًا له، ولم يكن له مورد آخر للرزق.
ويحذر ابن حزم العلماء من مجالسة الحكام، فالمعلم “إن ابتلي بمحبة سلطان فقد ابتلي بعظيم البلايا، وعرض للخطر الشنيع في ذهاب دينه”، كما يكره للعالم الفاضل أن يشتغل طبيبا للسلطان أو يصحب السلطان بالنجوم؛ لأن من يصاحب السلاطين يظلم نفسه، وسوف يعيش مهددا من جهلهم، وهو ليرضيهم يكذب، ويكذب، ويتعاطى ما ليس في قوته الوفاء به، فهو دهره في كذب دائم”.
ويوجه المتعلم إلى أن يطلب العلوم التي تناسب قدراته العقلية، فلا يدرس العلوم السهلة، وهو قادر على العلوم الغامضة (القوية) وعلى المتعلم أن يقبل برغبة ونشاط على طلب العلم، وأن يهتم بالسماع، والقراءة، ومصاحبة الكتاب، وعلى المتعلم أن يكون في بحثه موضوعيًّا، محايدًا في نظرته إلى المسائل العلمية.
ويحذر المتعلم من التأثر بأهوائِه عند النظر في القضايا العلمية، فلا يصدقها بلا برهان، ولا يرفضها بلا دليل قاطع، بل يقبل عليها ويفهمها؛ ليحكم عليها بالصواب أو الخطأ بناءً على الأدلة والبراهين، كما ينصحه بالتخصص في مادة وأن يلمّ أولًا بالمبادئ العامة للعلوم؛ لتعلقها بسواها، ثمّ يتخصص في علم، أو اثنين، أو ثلاثة على قدر استعداده، وطلبه، وانتظار التوفيق من الله.
وينصح ابن حزم، المتعلم بأن يتصف في طلب العلم بالصبر، وحسن الفهم، وقوة التحمل، والتواضع، وأن يتخذ من العادات وأنماط السلوك ما يُناسب البيئة العلمية التي تُوفر له خصوبة التفكير، وعليه أن يكثر من الكتب، ويُدوّن ما يفهمه، ويتردد على العلماء، ويسكن حاضرة العلم، ويحضر الندوات والمناظرات، وإذا حضر أحد مجالس العلم عليه أن يستفيد منها، فيقبل برغبة صادقة في التعلم، وأن يلتزم بحالة من ثلاث: أن يسكت سكوت الجهال ليتعلم، أو يسأل سؤال المتعلمين لا المتعنتين، أو يناقش ويجادل جدال العلماء بالحجة والبرهان من غير لجاجة، أو عناد.
نصائح لطلاب العلم
ويقدم ابن حزم الأندلسي مجموعة من النصائح والوصايا لكل طالب علم، منها: التخلق بأخلاق العلماء، ومصاحبتهم، والتأدب بأدبِهم، وتوقيرهم، وتعظيمهم؛ وأن يتجنب الرذائل التي لا تليق بطالب العلم، كالحسد والاغترار بما بلغه من مراتب العلم.
يقول ابن حزم: “ونحن نُوصي طالب العلم بأن لا يذم ما جهل منها – أي العلوم- فهو دليل على نقصه وقوله بغير معرفة، وأن لا يعجب بما علم؛ فتطمس فضيلته، ويستحق المقت من الواهب له ما وهب، وأن لا يحسد من فوقه حسدًا يؤديه إلى تنقيصه، وأن لا يحقر من دونه، فقد كان في مثل حاله قبل أن يعلم”.
وقد وضع ابن حزم قواعد صارمة لأدب الجلوس للعلم، حددها في التالي:
- حضور مجلس العلم من أجل الاستزادة، وحصول الثواب والأجر.
- الابتعاد عن البحث عن عثرات مدرس العلم.
- الالتزام بالسكوت، وقلة الفضول في أثناء الإنصات للدرس.
- على المتعلم أن يسأل عمّا لا يدري، لا عمّا يدري.
- على المتعلم معارضة جواب المدرس /العالم بما ينقضه نقضا بينا.
- الابتعاد عن مراجعة كلام المدرس مراجعة متكبر.
والبحث العلمي الرصين، عند ابن حزم، لا بُد من أن تتوفر فيه شروط الجدية، والإبداع، والابتكار، والتحديث، والبعد عن التقليد الأعمى، ويشترط له سبعة شروط:
- شيء لم يسبق إليه- الباحث- فيستخرجه.
- شيء ناقص فيتممه.
- شيء مخطئ فيصححه.
- شيء مستغلق فيشرحه.
- شيء طويل فيختصره دون أن يحذف منه شيئا.
- شيء مفترق فيجمعه.
- شيء منثور فيرتبه.
مصادر
- المقري: نفح الطيب، ج 2، ص 552.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء: ج 18، ص 184.
- ابن حزم: رسائل ابن حزم الأندلسي، تحقيق: إحسان عباس، ج 4 ص 81 وص 104.
- ابن حزم: كتاب الأخلاق والسير في مداواة النفوس، ص 90.
- حسان محمد حسان: ابن حزم الأندلسي “عصره ومنهجه وفكره التربوي”، ص 120 و121.
- نظرية التعلم عند ابن حزم