إنّ أزمة أطفال الشوارع واحدة من أهم الظواهر الاجتماعية؛ نظرًا لآثارها السلبية الخطيرة على الطفل والأسرة والمجتمع، ولكونها قضية تُمثل انتهاكًا واضحًا لحق مِن أبسط حقوق الطفل، كما أنها قضية لا يحتملها الضمير الإنساني لأنها تبديد صارخ للموارد البشرية.
ويرى الدكتور محمد محمود العطار، في بحث له عن هذه الأزمة، أن الملايين من هؤلاء الأطفال يعيشون منعزلين، ويعانون من سوء التغذية منذ ولادتهم، ويفتقدون العطف والتعليم والمساعدة، لذا نجد الكثير منهم يعيش على السرقة والعنف، ويندمجون في عصابات ليبنوا لأنفسهم أسرًا تمنحهم شعورًا غير حقيقي بالأمان.
مَن أطفال الشوارع؟
إنّ مصطلح (أطفال الشوارع) يُطلق على الصغار الذي يستغلهم الغير بلا حرج ويسيؤون معاملتهم، بل يعمل العالم على تناسيهم أو تجاهلهم، ويرون في الكبار أعداءً لهم، ولا يبتسم لهم أحد، ولا يدللهم أو يحبهم أو يخفف آلامهم أحد، وفي النهاية إما يدخلون السجن بعد رحلة من الجرائم أو يقتلون.
وهؤلاء الأطفال لا يجدون لأنفسهم بيتًا دافئًا بمشاعر الأسرة المترابطة، ولا يجدون عائلًا مستديمًا لهم، أو تدفعهم أسباب – كالفقر والجوع والحرمان- لعدم التكيف مع ظروف البيئة أو مع التعليم، فتدفعهم إلى الطريق العام طلبًا للعيش أو لأي عمل، أو ممارسة التسول، أو مرافقة الأشرار.. فيصبحون عرضة للخطر ويتعرضون أيضًا للانحراف كأدوات فرائس للكبار من المنحرفين وجماعات إفساد الأحداث. وقد يقع عادة انتهاك لأعراضهم وحقوقهم الإنسانية، ما يزيد تعقد علاقاتهم بالمجتمع، ويجعلهم وبالًا على مستقبله وأمنه.
وهم لا شك، طاقة مفقودة تحتاج إلى رعاية، ودراسة لمشكلاتهم وأوضاعهم وظروفهم ضرورة حتمية توجبها مصلحة المجتمع ذاته، نظرًا لخطورة هذه الظاهرة ونتائجها السلبية على الأمن والاستقرار السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، كما تُعد – أيضًا- إنسانية تُوجب النظر إلى هؤلاء الأطفال كضحايا.
ولقد وضعت الأمم المتحدة عام 1985م تعريفًا لهم وهو “الطفل- ذكرًا كان أم أنثى- الذي اتخذ من الشارع محلًا للحياة والإقامة الدائمة، دون رعاية أو حماية أو إشراف من جانب أشخاص بالغين مسئولين”.
وتُعرف منظمة الصحة العالمية هؤلاء الأطفال بأنهم: “الذين يعيشون في الشارع، وينقصهم البقاء والحماية”، وهم الأطفال المنفصلون عن أسرهم ويعيشون في حماية مؤقتة في بيوت مهجورة، أو في مبانٍ أو خنادق أو ملاجئ الحماية، أو يتحركون بين أصدقائهم، أو الذين تبقى لهم صلة مع أسرهم، لكن بسبب الفقر أو ازدحام المنزل أو الإساءة الجسمية والنفسية في أسرهم فإنهم يقضون بعض الليالي أو أغلب الأيام في الشارع.
وهم الأطفال الذين يكونون في رعاية المؤسسات، ويأتون من أماكن التشرد، ويكون هناك خطر عليهم للرجوع إلى حياة التشرد، وهم – كذلك- الذين عجزت أسرهم عن إشباع حاجاتهم الأساسية- الجسمية والنفسية والثقافية- كنتاج لواقع اجتماعي اقتصادي للأسرة، في إطار ظروف اجتماعية أشمل، دفعت بالأطفال- دون اختيار حقيقي منهم- إلى الشارع، كمأوى بديل معظم الوقت، أو كله، بعيدًا عن رعاية وحماية أسرهم، حيث يمارسون أنواعًا من الأنشطة لإشباع حاجاتهم من أجل البقاء، مما يعرضهم للخطر والاستغلال والحرمان من حقوقهم، وقد يعرضهم للمساءلة القانونية، بهدف حفظ النظام العام.
لا يوجد تقدير دقيق لحجم ظاهرة أطفال الشوارع في الوطن العربي، وقد اختلفت التقديرات وتباينت، لكن الذي يلاحظ الظاهرة يجد أن هناك نموًّا مذهلًا في العدد والانتشار، كما نجد أن معظم التعدادات الخاصة بالسكان لا تتضمن حصرًا لمثل هذه التجمعات الهاشمية من الأطفال، ونظرًا لصعوبة رصد هذه الظاهرة من الشارع مباشرة، فليس أمامنا إلا الاعتماد على بعض التقارير واجتهادات الباحثين التي تعطي مؤشرات تقديرية وليست إحصاءات دقيقة.
وتُشير تقديرات رسمية لبرنامج “حماية الأطفال بلا مأوى” التابع لوزارة التضامن الاجتماعي، إلى أنّ أطفال الشوارع في مصر بلغ حتى عام 2019 نحو 16 ألف طفل مُوزعين على 10 محافظات، وفي اليمن وصل عددهم وفق دراسة أجريت في عام 2008م إلى نحو 30 ألفًا، ويُقدر عددهم في المغرب وفق وزارة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية، إلى 3830 في عام 2018م، وفي السودان يُقدر عددهم بنحو 19 ألفًا خلال عام 2021م، وفق وزارة التنمية الاجتماعية.
مخاطر تواجه أطفال الشوارع
وهناك العديد من المخاطر والمشاكل والسلبيات التي يتعرض لها هؤلاء أطفال الشوارع في الوطن العربي، التي تنعكس على المجتمعات بأسرها، تتلخص في:
1- التعرض للأمراض: حيث يتعرض هؤلاء الأطفال إلى العديد من الأمراض، ما يجعلهم يعيشون في آلام مستمرة دون علاج حتى يصلوا إلى مرحلة الصراخ من الألم، وتتخلص هذه الأمراض في الآتي:
- التسمم الغذائي، ويحدث نتيجة أكل أطعمة فاسدة انتهت صلاحيتها.
- الأمراض الجلدية، مثل الجرب، وهو يصيب معظم أطفال الشوارع، لعدم استحمامهم ووجودهم في أماكن قذرة بها العديد من المواد الملوثة.
- البلهارسيا؛ ويتعرض لها هؤلاء الأطفال نتيجة تجمعهم سويًا للاستحمام في الترعة.
- الملاريا؛ حيث يصاب بها الأطفال نتيجة تعرضهم للناموس الحامل لفيروس الملاريا أثناء نومهم في الحدائق.
- أمراض الجهاز التنفسي؛ مثل السعال المستمر ونزلات البرد، نظرًا لتعرضهم لعادم السيارات باستمرار إلى جانب تدخينهم أعقاب السجائر الملقاة على الأرض، وتناولهم المواد المخدرة.
- الأمراض النفسية؛ مثل الانطواء نتيجة لتعرضهم لضغوط الحياة المستمرة، وسوء المعاملة من الأفراد، وحالات الخوف والقلق من مخاطر الشارع، مما يولد لديهم انحرافات سلوكية كالسرقة والعدوانية والعنف المفرط، الذي يؤدي بهم إلى طريق الجريمة.
- أمراض تتعرض لها الإناث بوجه خاص؛ وتتعلق بالإناث اللاتي يحملن بطرق غير مشروعة، ويحاولن التخلص من الجنين بطرق غير مشروعة.
2- مخاطر الطريق: يتعرض هؤلاء الأطفال للعديد من مخاطر الطريق مثل حوادث السيارات، بسبب تجولهم المستمر في الشارع من أجل التسول أو بيع السلع التافهة، وركوب أسطح القطارات للتهرب من دفع ثمن التذكرة، مما يعرضهم للسقوط من فوقها.
3- مخاطر استغلال العصابات: إن استقطاب المجموعات الإجرامية المنظمة لهؤلاء الأطفال تمثل خطورة بالغة عليهم وعلى المجتمع بوجه عام، حيث تتخذ هذه العصابات من هؤلاء الأطفال أدوات سهلة ورخيصة للأنشطة غير المشروعة، سواء باستخدامهم كأدوات مساعدة في الترويج والتوزيع للممنوعات، أو إحداث الاضطرابات والعنف، أو استغلالهم في الأعمال المتصلة بالدعارة والفسق.
أسباب انتشار ظاهرة أطفال بلا مأوى
وإذا بحثنا عن أسباب انتشار ظاهرة أطفال الشوارع في الوطن العربي، سنجد أن:
- الأسرة على رأس هذه الأسباب، نتيجة التّفكُّك الذي يحدث فيتشتت الأطفال بين الأب والأمّ بعد الطلاق، إضافة إلى العُنف الأُسريّ، وكثرة الأولاد في ظل عدم الاهتمام باحتياجاتهم ما يدفع البعض منهم إلى التوجه للشارع.
- ويتسبب التّمييز بين الأبناء في الأُسرة الواحدة إلى إشعال شرارة الغِيرة بينهم، مّا قد يقودُ بعض الأطفال إلى الهروب للشّارع، كما يؤدي فقدان أحد الوالدين أو كليهما إلى ضعفَ الرّقابة والمتابعة للأطفال أو انعدامهما، مّا يقودهم إلى الانحراف، أو الانضمام إلى أطفال بلا مأوى.
- وتعد القسوة من بين الأسباب، سواء من الوالدين أو أقارب الطِّفل، أو المُحيطين به، أو في المدرسة، وكذلك القدوة السيئة خصوصًا في الوالدين إذ من الممكن أن ينقلون الانحراف إلى أطفالهم.
- وللمجتمع دور كبير – أيضًا- في انتشار الظاهرة، حيث إن الظّروف الاقتصاديّة الصّعبة تتسبب في أن بعضُ الأُسَر لا تتمكن من توفير حاجات أبنائها الأساسيّة، من: مأكلٍ، ومشربٍ، ومسكن، وعلاج، مّا يدفعها للسّماح للأطفال بالعمل في الشّارع، للمساعدة في تأمين الاحتياجات، وسوء البيئة المُحيطة، يؤدي – كذلك- إلى مُجاورة الأشخاص المُنحرفين.
- والتسرُّب المدرسيّ له دور كبير في الدفعُ بالأطفال إلى الهروب، وتركِ المدرسة، والانخراط في بيئة الشارع، إضافة إلى بعض الأسباب التي قد تتعلق بالطفل نفسه، والتي لا تعالجها الأسرة بالأساليب التربوية الناجعة، ومن ذلك حُبّ التملُّك والاستقلاليّة؛ فقد يلجأ بعضُ الأطفالِ إلى الهروب من البيت لتلبية رغباتهم في العمل، واحتياجاتهم، والميلُ للحريّة، والبعد عن توتر الأجواء في المنزل.
حلول لمشكلة الأطفال بلا مأوى
إذا نظرنا إلى احتياجات أطفال الشوارع نجدهم في حاجة إلى التربية والتنشئة السليمة، والحاجة إلى الشعور بالعطف والراحة النفسية والحب والأمن والأمان، والرعاية الصحية والتعليمية، والحاجة إلى التخلص من المشكلات الاقتصادية بتوفير مسكن مناسب وملبس وغذاء وغيرها من الاحتياجات التي تعد حلولا لمشاكلهم، التي إذا لم تحل سيواجه المجتمع أطفالا أكثر عداءً وعدوانية، لذا يمكن تلخيص هذه الحلول في النقاط التالية:
- لا بُد من توفير نظامٍ اجتماعيٍّ يهتمّ بتفعيل آليّةٍ لرصد هذه الظاهرة في الوطن العربي، وإنشاء مؤسَّسات اجتماعيّة، تهتمّ بالتّدخل المُبكّر لحماية هؤلاء وأُسَرهم من أنواع العنف والاستغلال المختلفة، ومن الضّروري – كذلك- التّدخل لحماية الأطفال ضحايا الأُسَر المُفكَّكة، والأطفال العاملين في بيئات ضارّة وغير آمِنة.
- ومن بين الحلول التربوية التي يجب الانتباه إليها، تطوير برامج مكافحة الفقر، وزيادة أعداد مكاتب الاستشارات الأسريّة، وتفعيل دورها وتحسينها، وتدشين مراكز مهمّتها تأهيل هؤلاء الأطفال نفسيًّا ومهنيًّا، وتفعيل دور الإعلام بوسائله المختلفة؛ لزيادة وعي المجتمع، وتحريك الرّأي العامّ حول هذه الظّاهرة، وأهميّة مُكافحَتها.
- تفعيل دور الرقابة من جانب الدولة على دور الرعاية التي تستقبل هذه الفئة من الأطفال وتشجيع الأسر على رعاية بعضهم في حالة زاد العدد، مع صرف مساعدات شهرية لهم.
- الاستفادة من أموال التبرعات التي كانت مُخصصة لهم في وزارة الأوقاف للإنفاق عليهم وتربيتهم.
- حثّ المجتمع على كفالة هذه الفئة المُهمّشة ورعايتها، فهم أحوج ما يكونون إلى الأموال لسد الاحتياجات الأساسية، وبناء دور إيواء جديدة لهم.
- ويرى بعض العلماء أنه من الممكن معاملتهم كأبناء السبيل، ما يستوجب إقامة دور رعاية لائقة تؤمن وتوفر الحياة الكريمة ويتعلمون فيها المهن والحرف التي تفيدهم وتفيد الوطن، وهذا يتم من خلال تكاتفت الجهود الرسمية والأهلية معًا.
- ويرى البعض الآخر، أن الحل يكمن في إعطاء الزكاة لهؤلاء الأطفال، خصوصًا أنّ هذه الفريضة لها مصارف حدّدها القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا …}، وتدخل هذه الفئة من الأطفال في نطاق الفقراء والمساكين لما يواجهونه من مآس عديدة في حياتهم.
- يُمكن – كذلك- استيعاب هذه الفئة بإنشاء مشروعات صغيرة تحولهم من عاطلين إلى منتجين بضوابط شرعية، أهمها الدراسة السليمة للمشروعات الصغيرة التي سيعملون فيها، ولا بد أن يتفق مع أهداف الشريعة الإسلامية، ويتولى الإشراف على هذه المشروعات جهة رقابية تتوافر في أعضائها القيم الدينية والأخلاقية بجانب المهارة الفنية.
- من الضروري – أيضًا- إعادة تربية هؤلاء الأطفال على القيم العليا والخلق الإسلامي والسلوك المستقيم قبل إنشاء مشروعات لهم، سواء من أموال الزكاة أو التبرعات لحل مشكلتهم والحد من تفشي تلك الظاهرة.
- أمّا بعض علماء الاجتماع، فيرون أن جانبًا مهمًّا من حل هذه المشكلة يكمن في النزول إلى هذه الفئة من الأطفال في مكان تجمّعهم لتقديم الخدمة الصحية والغذائية والرعاية الاجتماعية المباشرة لهم، وزيارتهم بصفة دورية لاكتساب ثقتهم، ثم استقطابهم مجموعة تلو الأخرى إلى مراكز الإيواء المناسبة لتأهيلهم معنويا وتعليميا وأخلاقيا.
المصادر والمراجع:
- سهير الجبرتي: أطفال الشّوارع.. ظاهرة تحتاج إلى حل! .
- آلاء الفقي: كيف تحمي “أطفال الشّوارع” من الأزمات والأمراض النفسيّة؟ .
- ظاهرة أطفال الشوارع: أسبابها، وآثارها، وطرق معالجتها .