احتوت الشريعة الإسلامية أصحاب الأعذار الذين أصيبوا بإحدى الإعاقات فمنعتهم كليًّا أو جزئيًّا عن القيام بأعباء الحياة ومهامها. ومشكلة الإعاقة ليست طارئة أو ثانوية، بل هي موجودة مع وجود الإنسان، وقد نظر إليها بعض العلماء على أنها من نعم الله على الخلق، حيث إن الله لم يخلق شرًّا محضًا، فكان هؤلاء محطات للخلق لمعرفة نعمة الصحة والعافية.
والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يحتويان على منهج تربوي متميز، ومبادئ تربوية، تُسهم في تحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي، وتعزيز قدرات أصحاب الإعاقات وإمكانياتهم، التي تدفعهم إلى الاستقلال وعدم الاتكالية والاعتماد على النفس؛ ليصبحوا طاقة منتجة في المجتمع.
نشأة مصطلح أصحاب الأعذار
لقد ظهر مصطلح أصحاب الأعذار على لسان الفقهاء في العصور الإسلامية، وقصدوا به كل من منعه عذرٌ: من مرض، أو إعاقة، أو تشوه خِلقي من القيام بواجب شرعي أولًا، ثم استُعمل في كل ما كان من شأنه أن يُعذر على أي عمل كان.
وبالمقابل ظهرت كلمة الإعاقة بمفهومها الخاص في القرن التاسع عشر، حيث أُطلقت بادئ الأمر في المجتمعات الغربية على المتسولين، الذي كانوا يجلسون على المقاهي أو في الأماكن العامة، يمسكون قبعاتهم في أيديهم طلبًا للإحسان.
وهذا المصطلح مميز في التربية والفقه الإسلامي، فالعذر عبارة عن حالة أو وصف عارض، يعتري المكلَّف، ويستدعي تخفيف الحكم الشرعي عنه، أو إسقاطه، أو إبداله من غير إثم، ومنه قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إن أقوامًا بالمدينة خَلفَنَا، ما سلكنا شِعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر” (البخاري).
وهناك بعض الألفاظ ذات الصلة بهذا المصطلح، منها أهل البلاء: وقد وردت هذه التسمية في حديث ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله- صلى اله عليه وسلم- قال: “يود أهل العافية يوم القيامة، حين يُعطى أهل البلاءِ الثوابَ، لو أن جلودَهم كانت قُرِضت في الدنيا بالمقاريض” (صحيح الترمذي).
وذوو العاهات: والعاهةُ آفةٌ تصيب حاسةً أو عضوًا؛ فتفسدُه. وهذا المصطلح يترك أثرًا سيئًا في نفسية صاحب العذر، والمَرْضَى: كما في قوله تعالى: {… وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ …} [النور: 61]، وأولو الضرر: كما في قوله تعالى: {… غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ …} [النساء: 95].
ومن المصطلحات ذت الصلة، الضعفاء: والضعف هو عدم قدرة الإنسان على الإتيان بالتكاليف على وجهها الصحيح، وذلك لنحافة جسمٍ، أو هشاشة عظامٍ، أو علةٍ أقامت في الإنسان؛ فخارت قواه، أو تقدمٌ في السن أورثه العلل، يقول تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91]، أهل الزَّمَانة: أو الزَّمْنَى، وهم دائمو المرض، أو الضعفاء نتيجة الكبر.
حكم تربية أصحاب الأعذار والعناية بهم
الأول: أنها فرض عين على من تجب عليه كفالة أصحاب الأعذار ورعايتهم، وهم الأصول والفروع. فالآباء كافلون لأبنائهم لأنهم فروعهم، والأبناء كافلون لآبائهم لأنهم أصولهم، ثم تتسع بعد ذلك دائرة التكليف لتشمل الأقارب والأرحام؛ لأن رعاية بعضهم بعضًا هي امتداد لصلة الرحم التي أوجبها الإسلام فيما بينهم، فكما أنهم يتوارثون فإنهم يتكافلون.
والثاني: أنها فرض كفاية على المسلمين، إذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به أحدٌ كان الجميع آثمين. فكفالة العميان والصم والمشلولين، وسائر المعاقين، واجب على مجموع الأمة، كما هو واجبهم نحو الفقراء والمساكين والمُعْوِزِين، فكما يجب على الأمة والجماعة سد حاجات هؤلاء يجب عليهم كذلك سد حاجات ذوي الاحتياجات الخاصة، وإلا كان الجميع آثمين.
آداب ينبغي أن يتحلى بها صاحب العذر
- الإقلال من الشكوى: يتمثل ذلك في صبر أصحاب الأعذار واحتمالهم للبلاء، وعدم إظهار الجزع والسخط، وهذا مسلك الأنبياء- عليهم السلام- والصالحين من هذه الأمة. قال عطاء بن أبي رباح: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إني أُصْرَعُ وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيكِ، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف؛ فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها (مسلم).
- التزام الدعاء: زعم بعض العباد أن الدعاء بكشف البلاء يقدح في الرضا والتسليم، فرد البخاري هذا الزعم وقال: “إن الطلب من الله ليس ممنوعًا، بل فيه زيادة عبادة، لما ثبت مثل ذلك عن المعصوم وأثنى الله عليه بذلك، وأثبت له اسم الصبر مع ذلك”.
- عدم تمني الموت: لما رواه أنس بن مالك عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “لا يَتمنَّينَّ أحدُكمُ الموتَ مِن ضُرٍّ أصابَهُ، فإن كانَ لا بدَّ فاعِلًا، فليقُلْ اللَّهُمَّ أحيِني ما كانتِ الحياةُ خَيرًا لي، وتوفَّني إذا كانتِ الوفاةُ خَيرًا لي”.
- الاعتقاد بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، فإن القضاء مكتوب قبل أن يُخلق الإنسان، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]، وإذا استقر في نفس المعاق الإيمان بقضاء الله وقدره وأن الذي أصابه لا بد وأن يصيبه، وأنه أمر لا مفر منه، ولا مهرب منه لأن الله قد كتبه في الأزل؛ فإن نفسه تهدأ وقلبه يسكن، ويكون هذا بداية ومقدمة للرضى بقضاء الله وقدره.
- أن يُوقن بأن الله إذا ابتلى المؤمن فلأنه يحبه، ولذلك كان الرسل هم أشد الناس بلاءً، فعن أبي سعيد الخدري قال: يا رسولَ اللهِ! أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قالَ: “الأنبياءُ ثمَّ الصَّالِحونَ، وقد كانَ أحدُهم يُبتلَى بالفَقرِ، حتَّى ما يجِدُ إلَّا العَباءةَ يجُوبُها فيلْبسُها، ويُبتلَى بالقُمَّلِ حتَّى يقتُلَه، ولأحدُهُم كانَ أشدَّ فرَحًا بالبَلاءِ، من أحدِكم بالعَطاءِ”. (صححه الألباني).
- وأن يعلم المصابُ أن الله يأجر المؤمن على كل مصيبة، مهما صغُرت ولو كانت شوكة يشاكها، كما جاء في الحديث: “ما يُصيبُ المُسلِمَ، مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حُزْنٍ ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتى الشَّوْكَةِ يُشاكُها، إلا كَفَّرَ اللهُ بِها مِن خَطاياهُ”.
الحكمة من وجود ذوي الاحتياجات الخاصة
- تحقيق العبودية لله رب العالمين: فإن كثيرًا من الناس عبدةٌ لهواه، وليسوا عبادًا لله، ومنهم من يعلن أنه عبد الله، ولكن إذا ابتُلي أو أصبح من أصحاب الأعذار وذوي الحاجة؛ نكص على عقبيه، خسر الدنيا بتذمّره وعدم قبوله ما حل فيه، والآخرة بعدم الرضا بقضاء الله، فنزول البلاء بالإنسان المسلم تمحيص واختبار يظهر فيه صدق المدعي، والمؤمن الصادق في إيمانه يصبر لقضاء الله وقدره، ويحتسب الأجر منه، وحينئذ يهون عليه الأمر.
- كفارة للذنوب: عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة: في نفسه، وولده، وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة”، وعن أنس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ الخَيرَ عجَّلَ له العُقوبَةَ في الدُّنيا، وإذا أرادَ اللهُ بعَبدِه الشَّرَّ مَسَكَ عنه بذَنْبِه حتى يُوافِيَه يَومَ القيامةِ” (أخرجه الترمذي).
- حصول الأجر ورفعة الدرجات: عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة” (مسلم).
- أن يعلم الإنسان حقيقة نفسه الضعيفة، قال ابن القيم: “فلولا أنه- سبحانه- يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء؛ لطغوا وبغوا وعتوا، والله-سبحانه-إذا أراد بعدٍ خيًرا؛ سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هَذَّبه ونَقَّاه وصَفَّاه، أَهَّلَهُ لأشرف مراتب الدنيا، وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيته وقربه”.
- إظهار حقائق الناس ومعادنهم، فهناك ناس لا يُعرف فضلُهم إلا في المحن، قال الفضيل بن عياض: “الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه”.
الأسباب المُوجدة لذوي الاحتياجات الخاصة
من النادر أن تكون الإعاقة لدى أصحاب الأعذار عند الكل نتيجة لعامل واحد؛ بل في الغالب تحدث نتيجة لأكثر من عامل. بل وكثيرًا ما يصعب تحديد سلسلة العوامل أو الأحداث التي أدت إلى ذلك، ومنها:
- العوامل الوراثية.
- الأسباب المكتسبة: مثل الولادة المبكرة، أو التعرض للأشعة الضارة بعد الولادة.
- الأسباب الاجتماعية: مثل المبالغة في زواج الأقارب، أو الزواج المبكر قبل اكتمال نمو الأم، وانتشار الأمية وانخفاض المستوى التعليمي والثقافي للأم، مما يجعلها ترتكب أخطاء في تنشئة الأطفال قد ينتج عنها تشوهات، وكذلك الفقر، وحوادث الطرق، والحروب.
تربية أهل الأعذار
ينطلق مفهوم التربية من كون ذوي الاحتياجات الخاصة، أناسًا مرضى ينبغي معالجتهم، ويكون الاهتمام بالصحة هنا في أول سلم الأولويات، والاعتماد على الله سبحانه وتعالى، جانب منهم في مجال شفاء المريض، قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [سورة الشعراء: 80]، لكنه سبحانه وتعالى يأمر بالتداوي، وأنه قد أوجد الدواء لكل داءٍ، فعلى المخلوق أن يتدبر شؤون صحته، وتعددت مجالات تربية أصحاب الأعذار ورعايتهم، وتشمل:
- التربية الصحية والبدنية: فالصحة من أهم الأشياء في حياة الإنسان؛ لأن من دونها لا يستطيع أن يعمل، أو يؤدي واجباته الدينية والدنيوية على أكمل وجه. وتتمثل التربية الصحية لذوي الإعاقات بتكوين الوعي لديهم، وتبصيرهم بأسباب المرض المختلفة، وتكوين الشعور بالمسؤولية الصحية عن أنفسهم وغيرهم، وبيان أن الإنسان حين يهمل المبادئ الصحية، يؤدي ذلك إلى مرضه، ومرض غيره.
- التربية النفسية والأدبية: اهتم الإسلام بأحوال أصحاب الأعذار النفسية ليحقق لهم الطمأنينة والأمن والحماية، ومن أساس طمأنينة النفس، تقبل الإنسان لوضعه الذي خلقه الله عليه: كلونه، وملامحه، وحجمه، أو ما أصيب به من نقص في جسده وقدراته، وفي هذا المجال أقر الإسلام مفاهيم جديدة، كمفهوم الجمال الذي كان مرتبطًا عند الناس بجمال الشكل: من طول، ولون، وتقاطيع، وهي كلها خارجة عن إرادة الإنسان ولا يد له فيها، وأبدلها بالتقوى وسلامة القلب.
- وأكد الإسلام تجنيب الإساءة لهذه الفئة من الناس وإلصاق الألقاب بهم، كالقول: هذا أعمى، وهذا أعرج، وهذا مجنون؛ ونهى عن تبادل هذه الألقاب السيئة التي تجرح المشاعر وتؤدي للظلم، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الحجرات: 11].
- التربية العقلية والتعليمة: فالمجتمع الإسلامي يكفل لجميع أفراده حق الرقي العقلي، ولن يتاح ذلك إلا بالتعليم، ولقد حض الدين الإسلامي في مجمل تعاليمه على العلم والمعرفة، بل جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وفي القرآن الكريم: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ}[سورة الرحمن: 1-2]، وقرن النبي ﷺ العلم بالمنفعة: «اللهم انفَعْنِي بما عَلَّمْتَنِي ، وعَلِّمْنِي ما يَنْفَعُنِي ، وزِدْنِي عِلْمًا»، كما جعل سبحانه وتعالى الحواس وسيلة مباشرة للمعرفة: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
إن لأصحاب الأعذار علينا حقوق، وعلينا أن نتذكر أن حكمة الله تعالى في ابتلاء عباده من المؤمنين والمؤمنات بأنواعٍ من البلاءِ، إنما ذلك تكفيرا للخطايا ورِفعةً في الحسناتِ، لقول النبي- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: “ما يُصيبُ المسلمَ مِنْ نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ، ولا حُزْنٍ، ولا أَذىً، ولا غَمٍّ، حتى الشوكَة يُشاكُها، إلا كَفَّرَ اللهُ بها من خطاياهُ” (البخاري)، وفي روايةٍ: “إلاَّ كَتَبَ اللهُ لهُ بها حَسَنَةً أو حُطَّتْ عنهُ بها خطيئَةٌ” (مسلم).
المصادر والمراجع:
- مراد نواف أحمد الرفاعي: دراسة بعنوان “القيم الإسلامية في التعامل مع أصحاب الأعذار من منظور تربوي وفقهي”.
- ابنُ القَيِّم: زَادُ المِعَادِ، 4/195.
- علي بن نايف الشحود: موسوعة فقه الابتلاء، 4/241.
- رحمة النبي بذوي الاحتياجات الخاصة.
- حقوق أهل الأعذار في القرآن الكريم .
- من حقوق ومكانة أهل الأعذار عند السلف وحقوقهم علينا .