لقد تركت المدرسة المالكية بصماتها، التى لا تخطئها عين باحث، في حركة الفكر التربوي الإسلامي، لذا نجد أن المستقرئ للإرهاصات الأولى للفقه الإسلامي يُمكن أن يلمس بكل سهولة ويسر أنه نشأ وثيق الصلة بحركة الحياة العملية، وبمشكلات واجهت الناس، وقضايا كانت محل اهتمام عموم الأمة.
ويمكننا أن تتوثق الصلة بين الفقه على وجه العموم وبين العمل التربوي، خصوصًا إذا تنبهنا إلى أنّ الدين، ليس مُجرد معتقدات وأفكار تحتل موقعها في العقل والقلب، وليس مجرد شعائر تؤدى، وإنما هو في لُحمته وسُداه “ما وقر في القلب وصدقه العمل”، أي أنه إذا كان يبدأ في العقل والقلب، إلا أنه لا بُد من أن يتشخص واقعًا عمليًّا حيًّا في سلوك الناس ومعاملاتهم، وهو ما حاول تأكيده الباحث التربوي الدكتور سعيد إسماعيل علي، في دراسة له.
المدرسة المالكية والتأسيس التربوي
في تصورنا فإن حسن بيان ما قامت به المدرسة المالكية في الحقل التربوي يستوجب البدء بمرحلة التأسيس، ووضع اللبنات الأولى على يد المؤسس: الإمام مالك، المرجح مولده عام 93 للهجرة، وفي تناولنا لهذا الجزء، لا نقصد أن نتتبع مسيرة حياة، ولا أن نتوقف أمام ما تناوله من مسائل وقضايا فقهية، فذلك يخرجنا من نطاق الدراسة، وإنما سوف نتوقف أمام ما يكون له من دلالة ومضامين وبذور في التأسيس لمدرسة تربوية.
وأول ما يمكن أن يلفت انتباهنا ذلك الرحم الأسرى الذي وجد فيه مالك، فما من اتجاه في العلوم التربوية والنفسية إلا ويضع (الأسرة) في المقام الأول من حيث قوة التأثير والقدرة على التشكيل والتربية والتنشئة، وإذا كان كثيرون، في تلك السنوات البعيدة قد نشأوا في بيئة فقيرة ثقافيًّا وعلميًّا فاعتمدوا على أنفسهم في التحصيل المعرفي، فإن مالكًا كان محظوظًا حقًّا إذ اجتمع لديه العزم والإرادة والرغبة والقدرة على التحصيل المعرفي، وفي الوقت نفسه، توافرت له ظروف مواتية تتسم بالإثراء المعرفي.
وعلى سبيل المثال، فقد كان جد مالك، مالك بن أبي عامر من كبار التابعين وعلمائهم، روى عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وعائشة أم المؤمنين.
وإذا كان أنس أبو مالك لم يكن مشتغلًا كثيرًا بالحديث، فإن أعمامه كان لهم قدر طيب من هذا، ثم ماذا نقول في المكان الذي نشأ فيه؟ إنه المدينة المنورة، مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومقصد هجرته، وموطن الشرع، وهي المكان الذي شهد تأسيس البنية الأساسية للأمة الإسلامية ودولة الإسلام، وخلافة أبي بكر وعمر وعثمان، مما لابد أن يكون له أثره في التكوين الشخصي لإمامنا المؤسس.
وهو يبدأ خطوات تعلمه بتلك الخطوة التأسيسية التى أصبحت معلمًا أساسيًّا قرونًا عدة لكل متعلم مسلم، حيث الاختلاف إلى (كُتاب) يتعلم فيه القرآن الكريم، قراءة وحفظًا، ويحدد الخولي الكتاب بأنه مكتب (علقمة بن أبي علقمة المدني)، كانت أمه (مرجانة) مولاة لعائشة أم المؤمنين، وهو من موالي التيميين، الذين حالفهم جد مالك ووالاهم، وكان مكتبه يعلم فيه أكثر من حفظ القرآن، إذ كان يعلم العربية، والنحو، والعروض.
ثم كان عليه بعد ذلك أن يستجيب لنداء أمه الواعية التى طلبت منه أن يتهيأ لطلب المرحلة التالية من العلم، استجابة للتوجه التعليمي العام في هذه الفترة بصفة خاصة، ألا وهي الإقبال على تعلم الفقه، بحيث يقر في ذهنه منذ البدايات أن طلب العلم لابد أن يكون لنفع يحصل عليه ويفيء به على آخرين، وما غير الفقه يمكن أن يجد فيه هذا؟
كان المقصد الذي نصحت به الأم أن يطلب العلم عند ربيعة، تقصد ربيعة الرأي، ليتعلم من أدبه قبل علمه، فكأنها بذلك تضع يدها، منذ البداية على تلك القاعدة التربوية التى لا تبلى أبدًا بمرور القرون، ولن تبلى ما بقيت تربية واستمر تعليم، والتي نعبر عنها بقولنا: (الأدب فضلوه على العلم).
لقد كانت المدينة بالفعل مهد العلم حقًّا وصدقًا، فكان بها في زمن مالك من التابعين عدد يجد فيهم مالك الناشئ المعين الذي لا ينضب، والمنهل العذب المستساغ الذي لا شائبة فيه، فكان أن تتلمذ على ابن هرمز عدة سنوات لازمه فيها يأخذ عنه العلم، مع التنبيه إلى أن البعض يخلط بين ابن هرمز هذا (أبو بكر ابن يزيد المتوفى سنة 148هـ) الفقيه، وآخر يحمل الاسم نفسه كان نحويًّا.
لكن أي علم أخذه الإمام من ابن هرمز؟ لو تأملنا عبارة الإمام عن أستاذه فربما وضعنا أيدينا على الإجابة عن هذا السؤال، إجابة ترجيح لا إجابة توكيد، فقد قال عنه: «كان أعلم الناس بالرد على أهل الأهواء وما اختلف فيه الناس»، فهذه العبارة تفيد أنه كان يتلقى عليه اختلاف الناس في الفتيا والفقه، ويتلقى عنه الرد على أهل الأهواء، ولعل هذا يفسر السبب الذي جعله لا ينشر كل علمه بين الناس، وقد ذكر ذلك، فإن مالكًا كان يقتصر فيما يلقيه على تلاميذه على الحديث، والفتيا في المسائل الفقهية، ولا يعدو هذين الأمرين.
ويبدو أن عناية ابن هرمز بالرد على الأهواء، وجده في ذلك، على ما قيل، وأنه كان يسد على أهل الأهواء، إنما كان ذلك كله منه صدى لشعوره الحي بالواجب الاجتماعي وخشيته من خطر تلك الأهواء والبدع على المجتمع الذي يعيش فيه، ويشعر بواجبه نحوه، ذلك الشعور الحي الذي نرجوه اليوم لكل ذي علم في مجتمعنا، ولا سيما أصحاب العلم الديني، الذين كان ابن هرمز في سلفهم مثلًا صالحًا، وأسوة حسنة حقًّا.
ومن هنا فقد كان لا يحب الجدل فيما أثاره المعتزلة والجبرية والمرجئة والخوارج من أمور تتشابك فيها الآراء وتتحير فيها العقول، وتتنازع فيها الفرق، لا عن جهل بما كانوا يقولون، وإنما عن دراية وعلم؛ لأنه كان متيقنًا أن مثل هذه المسائل غالبًا ما لا يستطيع المجادل فيها أن يصل إلى قول فصل يأمن له ويطمئن قلبه.
والمبدأ التربوي الذي يتضمنه هذا هو أهمية الأخذ بكل ما يقتضيه التفكير السليم من صرامة المنهج ودقة الأداة، والتحوط والحذر في الحكم، وهو الأمر الذي نشكو منه أشد ما تكون الشكوى، فكثرة الناس تميل إلى القفز على المقدمات لتصل إلى الحكم، لكن ما ورثه مالك عن ابن هرمز: أن يورث جلساءه قول: لا أدري؛ حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري، ومن المشهور، قول: (من قال لا أدري فقد أفتى).
بل إننا نفتقد مثل هذه الدقة المنهجية في حياتنا التعليمية إلى يومنا هذا، فالتلاميذ كثيرًا ما يتساءلون، ويتطرقون من موضوع إلى آخر، وأحيانًا ما يوجهون أسئلة إلى معلمهم (خارج المقرر) أو المساق، وهنا ينسى معلمون هذا المبدأ العظيم، ويسارعون بالإجابة حيث لا يعلمون؛ لأنهم ينطلقون من موقف يتصورون فيه أنهم وحدهم سلطة المعرفة ومصدرها، ويتصور الواحد منهم أن عدم الإجابة أمر يشينه أمام تلاميذه!
الصبر على مشقة العلم في المدرسة المالكية
ونتعلم في رحاب المدرسة المالكية آية نادرة حقًّا في أدب طالب العلم، وصبره على مشاق الطلب وحرصه عليه ودأبه، مهما كلفه هذا من جهد وعرق ونصب، فلنستمع إليه يقول عن موقف طلبه المعرفة النبوية على يد نافع مولى ابن عمر بن الخطاب: (كنت آتى نافعًا نصف النهار، وما تظلنى الشجرة من الشمس أتحين خروجه، فإذا خرج أدعه ساعة، كأني لم أره، ثم أتعرض له فأسلم عليه، وأدعه، حتى إذا دخل أقول له: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا، فيجيبني، ثم أحبس عنه، وكان فيه حدة).
وهكذا، في تلك البلاد شديدة الحرارة، يخرج ظهرًا حيث تبلغ الحرارة ذروتها، إلى منزل نافع، وهو في البقيع خارج المدينة يترقب خروجه من منزله، ثم يصحبه إلى المسجد، حتى إذا استقر نافع واطمأن ألقى عليه أسئلة في الحديث والفقه، فأخذ عنه حديثًا كثيرًا، وتلقى عليه فتاوى ابن عمر، وابن عمر هو من هو في فقه الأثر، والتخريج عليه، واستنباط الأحكام على ضوء الحديث النبوي الشريف.
ولأن الكدح العلمي ليس حالًا عارضًا، وإنما هو (طبع) و(سجية) نرى مواقف مماثلة، كلها تشير إلى مدى حرصه على طلب الحديث، فقد كان حريصًا على تلقى الأحاديث من ابن شهاب الزهري (توفي سنة 123 هـ على وجه التقريب) فيصل إلى بيته أيًّا كانت حالة حرارة الجو، وهو لا يريد إزعاجه، فيظل منتظرًا خروجه، يروى في ذلك: (شهدت العيد، فقلت: هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب، فانصرفت من المصلى، حتى جلست على بابه، فسمعته يقول لجاريته: انظري من الباب، فنظرت، فسمعتها تقول: مولاك الأشقر مالك، قال: أدخليه، فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك! قلت: لا، قال: هل أكلت؟ قلت: لا، قال: اطعم، قلت: لا حاجة لي فيه. قال: فما تريد؟ قلت: تحدثني، قال لي: هات، فأخرجت ألواحي، فحدثني بأربعين حديثًا، فقلت: زدني، قال: حسبك، إن كنت رويت هذه الأحاديث، فأنت من الحفاظ، قلت: قد رويتها، فأخذ الألواح من يدى، ثم قال: حدث، فحدثته بها فردها إليّ، وقال: قم، فأنت من أوعية العلم!).
وقد رسخت هذه المواقف التعليمية، والدروس التربوية في مالك، مهارة التحرى الدقيق، ونقد الرجال، ومن هنا لم نكن نجده يأخذ الحديث عن كل من يحمله، وإنما كان يأخذه من الثقات العدول الضابطين، العارفين لما يحدثون به، المرضيين عنده علمًا ودينًا، حتى صار عند أئمة الحديث والجرح والتعديل ميزانًا فيمن روى عنه من الرجال، وفيما روى من الأحاديث، فمن ذلك:
قول عبد الرحمن بن مهدي: (ما أُقدّم على مالك في صحة الحديث أحدًا)، وقال أيضًا: (ما بقي على وجه الأرض أحد آمن على حديث رسول الله من مالك بن أنس).
وقول الإمام الشافعي: (إذا جاء الحديث عن مالك فاشدد يديك به).
وابن عيينة إذ يقول: (كان مالك ينتقى الرجال ولا يحدث عن كل أحد).
ومما يتصل بهذا أن مالك عود نفسه أن يكون مقلًا من الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد، بحيث لا يستحب الإكثار منه، ولم يقتصر على إلزام نفسه بذلك، بل كان حريصًا على أن يربي تلاميذه على العادة نفسها، وما كان ذلك ليكون إلا لعوامل تتصل بنهجه التعليمي والتربوي، منها أنه كان يتخوف من الوقوع في الخطأ عند الإكثار من الحديث عن رسول الله، فقد روى عنه ابن وهب أنه قال: «إذا كثر الكلام كان فيه الخطأ، وإذا أصيب الجواب قل الخطاب»، وقال ابن وهب أيضًا: «قال لي مالك: إنه لم يكن يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إمامًا أبدًا». ومنها رغبته في أن يتعلم السامعون منه القليل ويتفقهوا فيه؛ لأن الكثير ينسي بعضه بعضًا.
وقد تنبه عدد غير قليل من المربين في العصور الإسلامية إلى هذا المبدأ، فشددوا على ضرورة ألا ينتقل المتعلم من موضوع إلى غيره إلا بعد أن يتأكد أنه قد أصبح مالكًا زمامه بإتقانه واستيعابه والإحاطة الواعية المتعمقة له، ووضح هذا لدى ابن خلدون بصفة خاصة، وابن خلدون -كما هو معروف- من علماء المغرب العربي حيث كان المناخ في مجمله مشبعًا بالمذهب المالكي.
حال العلم والمتعلمين في زمن الإمام مالك
ولم تنشأ المدرسة المالكية في التعليم والتربية إضافة إلى الفقه، بين ليلة وضحاها، فعندما نتأمل ما عرضنا له من أمثلة لمواقف تعليمية مرّت بالإمام مالك، فإننا نستطيع أن نستنبط، بالإضافة إلى ما سبق أن أشرنا إليه:
أن العلم في هذه الفترة كان يؤخذ بالتلقي المباشر من ينابيعه الممثلة في كبار العلماء، وليس عن طريق القراءة في كتب مسطورة، والتلقي المباشر من أفواه العلماء طريق في التعلم يقف موقف الصدارة في طرق التعلم وأساليبه، ففيه التفاعل بين المعلم والتلميذ، وفيه الاتصال المباشر، وما يضيفه هذا من حيوية وحميمية، وفرصة للمراجعة المتصلة للتصويب والتصحيح، وفيه هذه الأبعاد الإنسانية مما يسرى من مشاعر وعواطف لا تُرى، لكن لها دورها في تعزيز موضوع التعلم.
أنها تشير إلى أن العلماء قد باشروا في تدوين العلم، بعد أن كان المتعلمون يعتمدون فقط على الذاكرة بحكم طبيعة البيئة والثقافة والمجتمع في شبه الجزيرة العربية، والتدوين خطوة جبارة على طريق التعلم والتعليم، والمعرفة على وجه العموم، بل إننا لنذكر القارئ بأن التاريخ إنما يبدأ بدقة أكثر عند بدء التدوين والكتابة، حيث يمكن الضبط وأن يراه أكثر من واحد فيكون الحكم أقرب ما يكون إلى الموضوعية.
أن مالكا كان دءوبًا على طلب العلم، فقد صرف نفسه إليه في جد ونشاط وصبر، لا تمنعه شدة الحر والجو اللافح من أن يخرج من منزله، ويترقب أوقات خروج العلماء من منازلهم إلى المسجد، ولا تمنعه حدة بعضهم من أن يأخذ عنهم ويتحمل غلظة اللوم أحيانًا ويتجنب بهدوئه وكياسته ورفقه أن يثير حدتهم بقدر المستطاع.
وعن طريق غير مباشر، وضع مالك أسسًا مهمة للمعلم في موقف التعليم، فالبعض يتصور أن المسألة المهمة هي المادة العلمية التى يتحدث فيها المعلم، وهي كذلك الطريقة التى ينقل بها ما يعلمه إلى التلاميذ، لكن ما لا يقل عن ذلك أهمية (هيئة المعلم)، فالمعلم تتعلق به أبصار العديد من طلاب العلم، ومن هنا يجب أن تقع أعينهم على هيئة نظيفة مقبولة على قدر معقول من حسن المنظر، فتلك مسائل ليست شكلية هامشية كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، وإنما لها دورها في عملية (التهيؤ) للتعليم وحسن تقبل ما يلقيه المعلم.
كذلك فإن المعلم أمام أنظار المتعلمين نموذج ومثل أعلى، ولا يتفق مع هذا أن يكون المعلم على غير وقار وسكينة وجدية، ونحن إذ نشدد على هذا وننبه عليه نسجل وعينا بأن هناك فرقًا بين الجدية والوقار والسكينة وبين الشخصية التي تألف العبوس والجهامة على الوجه، ومظاهر الجفاء، والتعامل مع الآخرين من منطلق التعالي والأنفة.
فمن ذلك ما حدثوا عن إظهار مالك التجمل بعامة، وأنه -على سبيل المثال- كان إذا أصبح لبس ثيابه وتعمم، ولا يراه أحد من أهله ولا من أصدقائه إلا متعممًا، لابسًا ثيابه، وما رآه أحد أكل وشرب حيث يراه الناس.. هذا مع أن مألوف الناس عادة أن يتخففوا في بيوتهم.
وحدثوا كذلك عن إيثاره السكون، وقلة الحركة، حتى بالمشي، ولعل هذا يكون راجعًا إلى ما كان عليه من ميل إلى العزلة، وتحاشي مخالطة الناس إلا بقدر ما هو ضروري، ومن هنا يجيء قوله ذي المغزى: “ينبغي للعالم ألا يتولى شراء حوائجه من السوق بنفسه، وإن كان يقع عليه في ذلك نقص في ماله، فإن العامة لا يعرفون قدره” وقال بالفعل: “حق على طالب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة”، وقال كذلك: “من علم أن قوله من عمله قل كلامه”.
أسس التعلم عند الإمام مالك
ويضع الإمام مالك مؤسس المدرسة المالكية في التربية، بعضًا من أسس التعلم والتعليم، وكأنها دستور التربية الإسلامية في صورتها التنفيذية لما رسمه القرآن الكريم وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فمن ذلك مثلًا، ضرورة التريث في طلب العلم، لا بمعنى التباطؤ، ولكن بمعنى التأني والحرص، والبعد عن العجلة في التحصيل، ومن هنا يجيء قول أحد تلاميذه: «عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يومًا، فقال: كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يومًا؟ ما أقل ما تفقهون؟!».
ومثل هذا النص ينبغي أن يقرأ بمزيد من العمق والفهم، إذ من الطبيعي ألا يستغرق المتعلم في استيعاب كتاب المدة التي استغرقها مؤلفه، فقد يستغرق المؤلف بالفعل سنوات طويلة، لكن دراسة كتاب يمكن أن تتم خلال فترة أقل من هذه الفترة، ومن ثم يكون النص مقصود به دلالة معينة، ألا وهي البعد عن العجلة في التحصيل، ولا يمكن أن يعنى بأي حال من الأحوال أن كتابًا استغرق تأليفه أربعين سنة لا يجوز تعلمه في أقل من ذلك!
وعن حرية الاجتهاد في العلم يقول: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما خالف فاتركوه”.
وبالنسبة لأهمية اختيار المعلم المناسب القادر على حسن التعليم، روي عنه قوله: “لا يؤخذ العلم من سفيه، ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا يؤخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس، وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يؤخذ من شيخ له فضل صلاح وعبادة، إذا كان لا يعرف ما يحدث”.
ولأهمية هذه القضية، تتعدد الأقوال المنسوبة إلى مالك، فنجد أيضًا أنه سئل: «أيؤخذ العلم عمن ليس له طلب ولا مجالسة؟ فقال: لا، قيل له: أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ، ولا يفهم ما يحدث؟ قال: لا يكتب العلم إلا ممن يحفظ، ويكون قد طلب وجالس الشيوخ، وعرف وعمل، ويكون معه ورع”.
وتأمل مسيرة مالك العلمية تؤكد لنا أن طالب المعرفة لا يمكن أن يحد نفسه بفترة زمنية بعينها، وإنما هو ساع وراءها طالما ظلت أنفاسه تتردد وقلبه يخفق، وهو ما نسميه بمصطلح العصر الحاضر (التربية أو التعليم المستمر).
ومن هنا فإن مالكًا، بعد أن تخرج على العلماء لم يتوقف علمه عند هذا، بل سعى إلى تنميته وتطويره عن طريق الاتصال المستمر بعلماء عصره، سواء أكانوا فقهاء أم كانوا غير فقهاء، وكان ذلك عن طرق ثلاث:
الأول: اتصاله بالعلماء في موسم الحج ومناظراته وأخذه منهم، ومناقشاته معهم، وفي أوقات زيارة المدينة، فهو، على سبيل المثال، يلتقي بأبي حنيفة ويتناظران في مناظرة علمية بريئة، ويقول فيه: إنه لفقيه، ويقول الآخر فيه مثل ذلك، ويلتقي بالليث بن سعد، وبالأوزاعي، وبأبى يوسف، ومحمد، وغيرهم، وهو في كل المقابلات يأخذ ويعطي.
الثاني: مجلسه العلمي الذي كان يلتقى فيه بالنابهين من العلماء المقيمين بالمدينة، سواء كانوا من أهلها أم من الوافدين عليها، واتخذوها مقامًا طلبًا للعلم والتثبت فيه، وكان هؤلاء يخصون مالكًا بالطلب، ومن ثم فنحن نرجح أنه كان يتحادث معهم فيما عندهم من الفقه، وقد لازمه محمد بن الحسن ثلاث سنوات، ومحمد راوية الفقه العراقي، ونحن نعلم شغف مالك بمعرفة آراء أبى حنيفة ومن في مستواه من حيث التقوى والفقه، ومن ثم فيغلب أن نجد مالكًا يخص محمدًا بالتعرف على ما لديه مما ورثه من علم أبي حنيفة وأصحابه ومن سبقه من فقهاء العراق(2).
الثالث: الاتصال بالعلماء عن طريق المراسلة، ومما يشير إلى ذلك رسالته إلى الليث بن سعـــــد ورسالة ابن سعد إليه.
نظرات تربوية على الطريق
لا تتوقف قيمة المفكر والعالم على مقدار ونوع ما كتب وفكر فيه وإنما فيما يتركه من بصمات على مسيرة الفكر والعلم، وتبلغ الذروة حقًّا بأن يكون له امتداد بشري عبر العصور المختلفة، لا عن طريق التناسل البيولوجي المعروف من خلال أولاده وأحفاده وهلم جرا، وإنما عن طريق التناسل الفكري والعلمي إن صح هذا التشبيه، من خلال فئة من الأتباع والتلاميذ والمريدين يحملون راية فكره إلى من بعدهم، وهؤلاء إلى من بعدهم.. وهكذا.
وتلك الميزة لا تتوافر إلا في هذا النفر الفذ حقًّا من أئمة الفقه الإسلامي وفي مقدمتهم الإمام مالك، الذي ترك المدرسة المالكية في الفقة والتربية.
لقد كتب كثيرون وفكروا من أقدم العصور حتى العصر الحديث، منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو، ثم روسو وكانت وهيجل، ثم هربرت ورسل وغيرهم، ولم يبق منهم إلا كتاباتهم، لكنهم (انقطعوا) من حيث الأتباع والمريدين إلا ما ندر.
ولكننا لو نظرنا إلى الحالة الخاصة بمالك سوف نجد تلاميذ وروادًا ومريدين دائمي النهل من معين فكره واجتهاده، في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي، وعبر مختلف العصور.
ونحن إذ نتوقف أمام بعض الأمثلة والنماذج، فسبيلنا الدائم، هو هذه الأبعاد والمضامين التربوية، فهي ساحتنا التي نرتادها.
وقد بدأ انتشار المذهب المالكي بالعراق بالبصرة على يد بعض أصحاب الإمام مالك من أئمة الطبقة الوسطى ممن رووا عنه الحديث وتفقهوا به، ومن هؤلاء الإمام عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري المتوفى سنة 198هـ، ومنهم عبد الله بن مسلمة بن قعنب المتوفى سنة 221هـ، ثم جاءت طبقة بعد هؤلاء من أتباعهم، مثل أحمد بن المعذل، وتوالى التلاميذ والمريدون، كل ينهل من فيض مالك ويجوده، وقد يضفى عليه شروحًا وتعليقات تبعث كثيرًا من الضوء، ويجتذب العديد من التلاميذ، فيزداد الانتشار عن طريق حلقات تعليمية تعقد في منازلهم أو في المساجد، ومن خلال المراسلات والمقابلات والمناظرات والمنتديات العلمية المختلفة.
وانتشر المذهب في مصر وخاصة على يد عبد الله بن وهب، الذي لازم مالكًا ما يقرب من عشرين سنة، وإن كان لم يقتصر في تعلمه على الإمام مالك فقط، لكنه كان يكثر من الحديث، وفيما يبدو فإن كثرة أخذه عن العلماء أوقعته في الرواية عن بعض الضعفاء، لكن من حسن الحظ أنه أدرك هذا في نفسه، وكان مالك هو منقذه، بالإضافة إلى الليث بن سعد، وفي ذلك روى عنه قوله: لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت، فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: (أكثرت من الحديث، فحيرني، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان: خذ هذا ودع هذا)، وبهذا يتبين لنا قيمة هذا النهج الذي أرساه مالك من حيث ضرورة التريث والتمهل في السماع والاستيعاب، والتدقيق في قبول ما نسمع وما نقرأ، والسعي إلى التثبت من كل هذا خوف الوقوع في الخطأ.
وهناك أسد بن الفرات بن سنان، الذي كان له دور كبير في إذاعة المذهب المالكي في أرجاء المغرب، والقيام بهذا فريضة دينية وضرورة تربوية، فمن حيث هو فريضة دينية، أن الله ورسوله يأمراننا دائمًا بأن نذيع ما حصلناه من المعرفة إلى من هو بحاجة إليها حتى يعم نور الحق بين الناس، وأما أنه ضرورة تربوية، فمن حيث السعي لنفع أكبر عدد من الناس بما حصلناه، فمن حقهم هذا، وخاصة هؤلاء الذين يعيشون في أنحاء بعيدة عن ينابيع المعرفة والعلم.
وأبرز ما يستوقفنا هنا أن تلقي ابن الفرات لم يكن تلقيًّا سلبيًّا، وكأن مثله مثل جهاز الاستقبال، فقد كانت قراءته لما في كتب الإمام محمد بن الحسن في العراق، مثلًا، وما فيها من الفروض والمسائل وحلولها، حافزًا له لأن يبحث عن مثل هذه الحلول على وفق مذهب الإمام مالك ليجتمع بين يديه حكم المذهب في تلك المسائل.
وإلى جانب الفقهاء المربين من المنتمين لمدرسة الإمام مالك في بلاد المغرب، نشير إلى ابن عفيف، أبو عمر أحمد بن محمد بن عفيف بن مريول ابن حاتم بن عبد الله الأموي ( 348- 420هـ)، فهو لم يكتف بالعناية بالفقه، وإنما برز كذلك في علوم أخرى آخذًا منها بنصيب وافر، ومال إلى الزهد ومطالعة الأثر والوعظ، فكان يعظ الناس بمسجده بحوانيت الريحاني بقرطبة ويعلم القرآن فيه، وكان يقصده أهل الصلاح والتوبة ويلوذون به، فيعظهم ويذكرهم، ويخوفهم العقاب ويدلهم على الخير، وكان رقيق القلب، غزير الدمع، حسن المجادلة، مليح المؤانسة، جميل الأخلاق، حسن اللقاء، وما يلفت نظرنا الإشارة إلى أنه جمع كتابًا حسنًا في (آداب المعلمين، أو المتعلمين)، وهو في خمسة أجزاء لم نسعد بالاطلاع عليها.
وكان أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد (450 _ 520هـ) أنبه فقهاء المالكية ذكرًا في عصره، وقد تولى قضاء الجماعة في قرطبة، إذ كان فقيهًا عالمًا حافظًا للفقه مقدمًا فيه على جميع أهل عصره، عارفًا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيرًا بأقوالهم واتفاقهم واختلافهم، نافذًا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة في العلم والبراعة والفهم، مع الدين والفضل والوقار والحلم والسمت الحسن والهدي الصالح، وكان صاحب الصلاة في مسجدها الجامع.
فقهاء المالكية في المغرب
وبقراءة عناوين عدد من الكتب التى صنفها بعض فقهاء المدرسة المالكية في بلاد المغرب الإسلامي الذي نقتصر على دراسته، يمكن لنا أن نلمس طابعها (التعليمي)، صحيح أن كل كتاب هو للتعليم ونشر العلم بين طلاب المعرفة، لكن أمثلة لكتابات فقيه مثل محمد بن أحمد بن حرب المتوفى سنة 741هـ تؤكد لنا ما نقول، فقد كان معنيًّا بأصول الدين والفقه، علاوة على تحققه بالعربية والأدب، وله مؤلفات مثل: (كتاب الأنوار السنية في الكلمات السُّنية)، و(كتاب في تهذيب صحيح مسلم)، و(كتاب الدعوات) في مجلدين، و(كتاب الفوائد الفقهية في مذاهب المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية) في ثلاثة مجلدات، و(كتاب في القراءة نافع وغير نافع)، و(المختصر في لحن العامة)… الخ.
ونجد لأحد الفقهاء موقفًا مذهلًا حقًّا في شدة الحرص على مقام المجالس التعليمية، والمحافظة على كرامة العلماء، أمام أصحاب السلطة والنفوذ هو من أكثر الدروس التربوية عمقًا ودلالة، فقد روى الفقيه أبو القاسم بن مفرج:
كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم – رحمه الله تعالى- فيمن يختلف إليه للتفقه والرواية، فإني لعنده بعض الأيام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبى عثمان، الذي كان يصلي به قرب داره، بجوفى قصر قرطبة، ومجلسه حافل بجماعة الطلبة، وذلك بين الصلاتين، إذ دخل عليه شخص من أصحاب الرسائل، جاء من عند الخليفة الحكم، فوقف وسلم، وقال له: يا فقيه، أجب أمير المؤمنين أبقاه الله، فإن الأمر خرج فيك، وها هو قاعد ينتظرك، وقد أمرت بإعجالك، فالله.. الله!
فقال له: سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين، ولا عجلة، فارجع إليه، وعرفه، وفقه الله عنى، أنك وجدتني في بيت من بيوت الله تعالى، مع طلاب العلم، أسمعهم حديث ابن عمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهم يقيدونه عني، وليس يمكننى ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس المعهود لهم في رضا الله وطاعته، فذلك أوكد من مسيرى إليه الساعة، فإذا انقضى أمر من اجتمع إليَّ من هؤلاء المحتسبين في ذات الله، الساعين لمرضاته، مشيت إليه إن شاء الله تعالى، ثم أقبل علي شأنه!!”.
ومن الملاحظ أن بعض فقهاء المالكية بالمغرب لم يقتصروا على التعليم الفقهي، وإنما امتدت ساحة التعليم لديهم إلى آفاق معرفية أخرى، وخاصة في مجالات الأدب واللغة والتاريخ، وكذلك امتدت ساحة التعليم لديهم بما استطاعت أن تصل بهم إليه ظروفهم وجهودهم، فإذا بهم يعلمون في أكثر من موطن، اتساقًا مع ما تميز التعليم الإسلامي في عصور الحضارة الزاهية، فمع ظهور الدول الإقليمية المستقلة، إلا أن هذا لم يمنع عالمًا من أن ينتقل إلى منطقة أخرى طلبًا للعلم، أو سعيًا للتعليم.
فهناك على سبيل المثال أبو حيان الغرناطي، خرج من الأندلس عام 679هـ، واستوطن القاهرة بعد حجه، وأصبح إمام النحاة بالديار المصرية، وشيخ المحدثين بالمدرسة المنصورية، وتولى التفسير بها أيضًا، والإقراء بالجامع الأقمر، انتهت إليه رياسة التبريز في علم العربية واللغة والحديث، وكانت له تصانيف سارت وطارت، وانتشرت وما انتثرت، وقرئت ودريت، ونسخت وما (فسخت).. وقرأ الناس عليه، وصاروا أئمة أشياخًا في حياته، وهو الذي جسر الناس على مصنفات مالك ورغبهم فيها وفي قراءتها، وشرح لهم غامضها، وخاض بهم لججهـــا، وفتح لهم مقفلها.
وكان علماء الفقه المالكي، في عملية التعليم، مثل الجمهرة الكبرى من علماء الفقه الإسلامي في مختلف المذاهب، لا يتقيدون بسن معينة في ممارستهم لمهنة التدريس، إذ لم يكن ثمة قانون يحددها، ولا قاعدة تحكمها، وكل من يرى في نفسه الكفاءة ليكون أستاذًا يمكن أن يمارس المهنة في الحال، والطلاب وحدهم هم الذين يقررون حظه من الفشل والنجاح، وحتى الطلاب أنفسهم يستطيعون أن يتبادلوا الدروس فيما بينهم، وأن يصبح بعضهم أستاذًا للآخرين.
المصادر:
- ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله، 1/775.
- ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام 6/56.
- المقري: أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، 1/200.