إنّ اللّغة بالنسبة للإنسان هي حدود عالمه، وهي الولاء والانتماء، والثقافة والهوية، والوطن والشخصية، وهي الأم التي تنسج شبكة الوفاق بين أفراد المجتمع وجماعاته، ونظمه ومؤسساته، وقِيَمه ومعتقداته، فلا وفاق دون لغة، ولا مجتمع بغير وفاق.
وفي بحث أعده الدكتور علي أحمد مدكور، أستاذ التربية بجامعة القاهرة، رأى من خلاله أنه رغم الدور المميز للغة في تاريخ الأمة، فإننا نعيش أزمة لغوية طاحنة تلطخ جبيننا الحضاري، وهي دليل على انتكاسة الأمة وتبعيتها، وتخلفها عن الركب، ويحاول رصد أسباب الأزمة وطرق العلاج.
أسباب أزمة اللغة العربية
وتعود أزمة اللغة العربية وانتكاستها إلى عوامل عديدة أجملها الباحث في عدد من النقاط على النحو التالي:
- قصور العتاد لمعظم منظرينا اللغويين، وبخاصة بعد أن أصبحت اللغة ساحة ساخنة للتداخل الفلسفي، والعلمي، والتربوي، والفني.
- خطأ التشخيص لدائنا اللغوي، حيث يوجه الاتهام إلى إدانة اللغة ذاتها، تحت زعم أن هذه اللغة الإنسانية العظيمة تحمل بداخلها كوامن التخلف الفكري والعجز عن تلبية مطالب العصر!
- عدم إلمام الكثيرين منا بجوانب إشكالية اللغة؛ خوفًا من الخوض في دراسة علاقتها بالدين، والسياسة، والقومية والوطنية.
- الابتعاد عن السبب الحقيقي وراء ذلك، وهو العولمة الاقتصادية، وانبهار الجماهير العربية بالثقافة الغربية ولغاتها، وتدهور اهتمامهم باللغة.
- غياب إرادة الإصلاح اللغوي؛ فحركات التعريب تواجه معارضة شديدة بعد أن صارت شوطًا لا بأس به من قبل.
- نجاح الاستعمار في تهميش لغتنا العربية، وخلق اتجاه سلبي نحوها، وربطها بمظاهر التخلف، وطردها من المواقع المتقدمة في الحياة المعاصرة.
- النظر إلى اللغة بوصفها “وعاء” أو “أداة” أو “وسيلة” للتعليم والاتصال بقطع النظر عن قيمة تعليم العربية لترقية القدرات العقلية، وتنمية مفاتيح الفكر وملكات التأمل والاكتشاف والإبداع.
- عولمة تعليمنا، بحيث لا تعكس سياساته، ومفاهيمه، وسلوك مدرسية، وأداء طلابه.
- التعليم باللغات الأجنبية على مستوى التعليم العام والعالي، رغم الحقيقة العلمية التي أجمع عليها الباحثون واللغويون، وهي أن التعليم بغير اللغة الأم يغلق مفاتيح الفكر، ويعوق عملية الإبداع والابتكار لدى المتعلمين.
- الربط بين تعليم اللغات الأجنبية وأماني الدخول إلى “العالم المتحضر” والحصول على وظائف مميزة في المستقبل.
كيف نبعث الحياة في كيان اللغة العربية؟
أولًا: على مستوى القناعات: إذ لا بُد من تغيير الذهنية، وتعريب العقل العربي، عن طريق التعليم والتعلم باللغة في جميع مراحل التعليم؛ لأن ذلك هو الأصل الذي لا بد من العودة إليه، ويستند ذلك على المنطق العلمي والبحثي الذي نوجزه فيما يأتي:
- إن اللغة ليست مجرد وسيلة أو أداة أو وعاء، إنها الرحم الذي يصنع الفكر والولاء والانتماء والثقافة والهوية والشخصية والوطن.. إن اللغة وطن.
- إن التعليم والتعلم بغير اللغة الأم يضيع مفاتيح الفكر، ويغلق أبواب الإبداع، فالتعليم بغير لساننا لا يمكن أن يكون ترجمانًا صادقًا لفكرنا وخيالنا ووجداننا.
- إن العقل متكون في جوهره من تقاليد اللسان، فإذا انفصل العقل عن اللسان فإن ذلك يؤدي إلى تردي “القوة العقلية” وإلى التردي الفكري والعلمي.
- من الثابت علميًّا أن قيام العضو بوظيفته ينشط العضو، بل ينشئه، ولذا فإن إقصاء اللغة عن أداء دورها في تعليم العلوم يزيدها قصورًا عن أداء هذا الدور، ويبقيها دائما خارج السباق، وهذا إضرار بها، وإضرار بالعلم ذاته، وإضرار بمستوى الأمة في نهضتها العلمية والمعرفية والحضارية.
- إن ادعاء أن لغتنا الجميلة لا تفي بمطالب التعبير عن العلوم التطبيقية، وأنها قاصرة عن ملاحقة التطور العلمي في هذه المجالات يتناقض مع الحقيقة العلمية في هذا المجال، وهي أنه لا توجد لغة قاصرة، وإنما أهلها هم القاصرون أو المقصرون.
ثانيًا: على مستوى المؤسسات: فإن الاقتراح المحدد في هذا السياق هو ضرورة وضع سياسة لغوية تفرضها مجامع اللغة العربية، وتدفع بها إلى المستويات الجامعية والقومية والإقليمية، بحيث تكون همًّا قوميًّا وشأنًا مجتمعيًّا مشتركًا على المستويات التعليمية، والسياسية، والاقتصادية، والمعرفية والإبداعية.
ثالثًا: على المستوى التعليمي:
- وجوب تأخير تعليم أية لغة أجنبية بجانب اللغة في التعليم الأساسي حتى نهاية المرحلة الابتدائية.
- التركيز على تعليم اللغة الوظيفية، وعلى تعليم اللغة تعليمًا وظيفيًا، بالتكيف مع المجتمع ومتطلباته، ومع اللغة المستعملة في مواقع العمل.
- النظر إلى اللغة بوصفها وحدة تتكامل فيها الفنون اللغوية، لا بوصفها فروعًا أو جزرًا منعزلة لا يجمع شتاتها جامع.
- الدخول بالعربية إلى مجال البرمجة الحاسوبية، وإلى تعريب نظم التشغيل، وإلى الترجمة منها وإليها.
- تعريب نظم التشغيل للحاسوب، وذلك لضرورة توفير ثنائية لغوية متوازنة بين الإنجليزية- أو غيرها- وبين العربية.
- إعادة تصميم مناهج اللغات في منظومة واحدة، وأن يقوم تعليم اللغات على التكامل بدلًا من التنافس والتناحر.
- زيادة درجات اللغة في المراحل المختلفة، عناية بها وزيادة عدد الحصص المخصصة لها في الجداول الرسمية.
- العناية بالمعلم وطرائق التدريس، فقد أثبت البحث العلمي والواقع العملي أن المعلم هو الذي يصنع الفارق في نجاح منظومة التربية والتعليم.
- قصر القبول بكليات التربية على من لديهم الاستعدادات والقدرات ليكونوا معلمين مهرة.
- تعيين أوائل الكليات المختلفة ممن لديهم الرغبة والاستعدادات والقدرات معلمين للتعليم الابتدائي، بعد إعدادهم تربويًا ومهنيًا.
- وضع شهادة دولية للغة العربية مصممة ومنفذة على المستوى القومي للأمة العربية، بحيث تلزم كل العرب في شتى أقطارهم أن يطلبوا من غير العرب الساعين لآفاق العلاقات العربية الحصول على شهادة “اللغة الدولية”؛ لتيسير العلاقات، وتسهيل المصالح المشتركة.
دور المؤسسات التعليمية في النهوض بلغتنا العربية
اللغة العربية لغة القرآن الكريم، بها خاطب الله – سبحانه وتعالى- الناس كافة، وهي لغة الحديث النبوي الشريف الذي احترم العقل البشري، فقدم له الإسلام بلغة ترتقي بفكره، وتوجهه نحو الطريق السليم، وتخاطبه ببلاغتها وسمو معانيها، لذا فقد تكفل الله تعالى بحفظها، فهي محفوظة بحفظ كتابه إلى قيام الساعة.
ويرى الباحث ياسر ذيب أبو شعيرة، أن لغتنا العربية لا تمتد ولا تنهض ولا تعمل بذاتها، وإنما هي مطواع تستجيب لفعالية الناطقين بها، ولذا فقد اقترح عدة خطوات للنهوض بالعربية الفصيحة، بالدعوة إلى التمسك بها في ظل الانفتاح على الثقافات الأجنبية من خلال محاور عدة من أهمها:
أولًا: التوعية بأهمية اللغة: وذلك لوصفها وعاء المعرفة وسبيل الأمة العربية للتوجه نحو مجتمع المعرفة، وذلك باستخدام مرافق المدرسة مثل الإذاعة المدرسية والمسرح لبث الكلمات والموضوعات، وعرض المسرحيات التي تدعو للمحافظة على الهوية العربية المتمثلة في لغتنا الأم، وكذلك إعداد مواد خاصة بلغتنا الفصيحة، للإفادة منها، إضافة إلى الدعوة لتأليف النصوص الشعرية والأدبية التي تتغنى بعظمة اللغة وتحث على العناية بها، وأخيرًا إصدار المطبوعات والمنشورات التي تحفز الطلبة على التحدث بالفصيحة والاعتزاز بكونها لغة الوطن والأمة.
ثانيًا: المناهج المحوسبة والبرامج التلفزيونية: إن التعريف بأساليب تعليم اللغة العربية القائمة على اقتصاد المعرفة والتنويع فيها باستخدام إستراتيجيات التدريس، والوسائل التعليمية الحديثة، وإستراتيجيات التقويم إضافة إلى التعريف بواقع تنفيذ هذه الأساليب وسبل النهوض به في ظل التطور التكنولوجي بات أمرًا ملحا لا غنى عنه.
ثالثًا: الأنشطة التربوية: ولأن للأنشطة التربوية المنهجية واللامنهجية دورًا مهمًّا في توجيه سلوكيات الطلبة نحو القيم السامية، فإنه يمكن استثمار تلك الأنشطة في توجيه الطلبة وتحفيزهم على العناية بلغتهم العربية قراءةً وكتابةً، وفهمًا وتطبيقًا بحيث تصبح العناية باللغة سلوكًا فكريًا يوميًا يمارسه الطلبة في حياتهم.
رابعًا: التوعية الإعلامية: يجب ألا نغفل دور الإعلام والتوعية الإعلامية بأبعادها كافة في النهوض باللغة، والقيام بدورها المكمل لدور الوزارة في رعاية اللّغة، والتعريف بها وبفضلها، لتكون لغة التخاطب بين الناس، وتحل الفصيحة مكان العامية. وحث مستخدمي الشبكات الخلوية والهواتف النقالة على تفعيل استخدام الفصحى في التخاطب والتواصل في المناسبات الدينية والوطنية، وفي التواصل الاجتماعي والإنساني عبر رسائلهم القصيرة.
ولمزيد من تفعيل استخدام الفصيحة في الغرفة الصفية، وليس في حصة اللغة وحسب بل في المواد جميعًا، فإنه يجب تطبيق شعار (كل معلم هو معلم لُغَة عَربيّة)، لحث المعلمين كافة على تفعيل الفصحى في حصصهم، بما يضمن استخدامًا أشمل للغة العربية الفصيحة بين الطلبة.
خامسًا: المناهج والكتب المدرسية: يجب الحرص على خلو الكتب المدرسية من الأخطاء كافة، النحوية والصرفية والإملائية والعروضية، والعمل على الوقوف على الأخطاء النحوية واللغوية الواردة في المناهج والكتب المدرسية للمباحث الدراسية جميعها، وتصويبها ومراجعة الكتب المدرسية وتطويرها، وإعادة النظر في المناهج والكتب المدرسية جميعها، وإجراء التعديلات اللغوية عليها، وتعديل محتواها والتخفيف منه، والتركيز على مهارات اللغة.
المصادر:
- أزمة اللغة العربية: الأسباب والمظاهر وسبل التجاوز .
- عن “أزمة” اللغة العربيّة .