السؤال
أنا وزوجتي على خلاف، تريدني أن أدخل ابني كلية خاصة حتى يتعلم تعليمًا جيدًا، وأنا أرى أن يدرس شيئًا يفيد في إكمال مساري المهني، فلدي عمل خاص أسسته وتعبت فيه، فهل من المعقول أن يترك ابني مجالي ويبدأ هو في تأسيس عمله الخاص أو أن يعمل لدى جهة أخرى بينما يملك والده مشروعًا خاصًا؟!
تقول زوجتي إن الأبناء خلقوا لزمان غير زماننا فما أسسته في السابق لا يصلحهم لاحقًا وإننا لا يجب أن نجبرهم على مسار معين، و أن نترك لهم حرية اختيار ما يدرسون وما يشتغلون، فهل ما أفكر فيه خطأ؟! وهل زوجتي محقة؟!
وكيف لي أن أساعد أبنائي في اختيار مسارهم التعليمي من دون ممارسة ضغوط عليهم؟!
الرد
نتفهم مشاعرك كأب بنى حلمه، ويحب أن يكمله أبناءه من بعده، ونتفهم حرص زوجتك على أن يكون الأبناء أحرارًا مستقلين، تؤسسونهم جيدًا في المجالات التي يختارونها، ثم هم من يقررون أين يعملون، يكملون مسيرتك أم يؤسسون مستقبلهم، فإن اختاروا المضي قدمًا بعيدًا عن عملك، فلهم الحق الكامل، وما صنعت لأجلهم لن يروح سدى، ففن الإدارة يسمح باستمرارية المشاريع بعيدًا عن الأبناء إذا لم يكونوا حاضرين في المشهد.
ما عليك كأب هو أن تساعد الأبناء في أن يختاروا مستقبلهم بحرية كاملة، وتوجههم بقدر ما يوفقك الله من فهم وخبرة، والقاعدة الأساسية في اختيار الدراسة الجامعية تقول: “تخصصك ليس هو أربع سنوات الدراسة، بل هو الأربعين سنة القادمة في حياتك”، في إشارة إلى أهمية أن نختار المجال الذي نتعلمه لأن عليه سينبني المسار المهني طوال العمر.
كثير من الأبناء يدخلون كليات معينة إرضاءً لأهليهم، وهي بعيدة كل البعد عن طموحهم وشغفهم بالحياة، كما أن كثيرًا من الأهل يتمنون أن يدرس أبناؤهم الطب، ليس لشرف المهنة فقط، بل لوجاهتها من وجهة نظرهم، وعلى ذكر ذلك يقول أحد المتخصصين في مجال التوظيف: “إن الطب مقبرة الأذكياء!”، في إشارة إلى أنه إن لم يكن ابنك متميزًا في مجال الطب بحق، ويطور نفسه وأدواته، سينحصر عمله في علاج بعض الأمراض محفوظة الأعراض وطرق العلاج، فلا يوجد في مجال الطب استفزاز لقدراته المهنية، كما أن التقنيات الحديثة اختصرت كثيرًا من دور الطبيب، وعليه فلا يجب أن تكون دراسة معينة هي هدفك، ما لم يكن لابنك أو ابنتك شغف حقيقي لممارسة مهنتها وتحمل متاعبها.
قد تتساءل ما هو الشغف؟!
ببساطة لكي يعرف كل واحد منا شغفه، تخيل عملًا تستمتع وأن تقوم به من غير راتب؟ والإجابة التي ستحصل عليها هي شغفك الحقيقي.
إذًا، كيف نعرف ما هو شغف أبنائنا، أو كيف نساعدهم في معرفة نوعية الدراسة المناسبة؟!
أولًا علينا أن نعرف أن التخصصات تنحصر في 3 مجموعات رئيسية:-
- تخصصات عامة، مثل الهندسة واللغة ودراسة الحاسوب.
- تخصصات مهنية، مثل الطب والتدريس والعلاج الطبيعي.
- تخصصات دقيقة، مثل تخصص الطيران والهندسة الوراثية.
تلك الأخيرة علينا أن نعرف أن وظائفها محدودة جدًا وبالتالي مهما كانت أهميتها ووجاهتها والدخول التي يحصل عليها الفرد من خلالها، فستظل تستقطب أعدادًا قليلة نظرًا لمحدوديتها، وكم تمنى الكثير أن يصبح طيارًا، فهل بمجرد التمني فقط نذهب وراء طموح الأبناء؟ الإجابة: لا؛ فبجانب ما يتمنون علينا أن ندرك مجموعة أخرى من المحددات التي تساعد في اختيار نوعية الدراسة ونوعية العمل، مثل:-
- طبيعة العمل اليومي لمجال التخصص هل يتوافق مع ميول الطالب؟ فلا يمكن لطالب يهوى الحركة أن يكون عمله محاسب، يجلس على مكتب طوال اليوم، غالبًا سيفشل ويكره مهنته، أما إن كان لديه شغف في الحسابات، وحب للحركة، فعليه أن يبحث عن مهنة تجمع بين ميوله وقدراته كالتجارة مثلا.
- هل سوق العمل في المستقبل يحتاج إلى هذا الأمر؟ فالتطوير والتكنولوجيا، تلغي سنويًا كثيرًا من الأعمال، فمهن مثل ساعي البريد اختفت تمامًا، وهناك قائمة بالعديد من المهن التي ستنتهي في خلال سنوات، فيجب دراسة السوق جيدًا.
- هل يستطيع أن يعمل عملًا حرًا بشهادته هذه؟ هذا أيضًا سؤال مهم علينا أن نسأله في رحلة البحث عن التخصص.
- ما هو التقدم الوظيفي لهذه المهنة؟ البعض يحب الوظائف المستقرة شبيهه بالوظائف الحكومية، المهم أن يحصل على راتب آخر الشهر، ومعاش عندما يكبر، ولا يهمه حينها الترقي الوظيفي، فإذا كان ابنك طموحًا، فلا تنفعه الوظيفة الرتيبة ذو الشكل الثابت.
- المستقبل المهني لتلك الوظيفة في مكان سكنكم؟ فإذا كان عمله بالبترول مثلًا، فيجب عليه أن يدرك أنه سيسافر حتى يحصل على فرصة مناسبة، والسفر لا بد له من شخص يهواه وظروف مواتية وأهل لديهم أبناء بجوارهم، يعوضونهم عن الابن الغائب، فمغريات السفر لا يجب أن تنسينا أدبيات رعاية الأهل في الكبر.
فكيف نصل إلى مرحلة اختيار التخصص عبر رحلة التربية؟
- علينا أن نعرف أن دورنا الدعم والتوجيه، وليس فرض السيطرة، أو تحقيق الأحلام من خلال الأبناء.
- متابعة الطفل منذ الصغر، كيف يختار ألعابه؟ وكيف يلعب بها؟ وما المواد الدراسية المفضلة؟ وما المهن التي ينجذب لها عبر مشاهداته في الحياة؟ والقصص، وغيرهما، فتلك مؤشرات على شغفه وما لأجله قد خلق.
- الحوار المهني بين الآباء والأبناء، فتحكي له عن مهنتك، ومهنة معارفكم، ومهنة أجداده فنقرب له تصوراته عن المهن المختلفة.
- التنقل بين المهن المختلفة في الإجازات، بداية من سن المراهقة يعينه على اكتشاف دهاليز كثيرة.
- دعمه بالمهارات المختلفة، والصبر عليه حتى تتضح معالم شخصيته.
- استغلال كل فرصة للحديث مع المتخصصين في المجالات المختلفة من معارفكم، لتوفير المعلومات الخاصة بكل تخصص.
- مساعدته في إتقان تعلم اللغات، بداية من العربية مرورًا بالإنجليزية، واللغات الخاصة بالدول المتقدمة.
- تدريبه على الاستقلالية، واتخاذ القرار، وتنمية مهاراته الشخصية؛ فتلك دعائم مهمة لمستقبله التخصصي.
- تقديم نموذج جيد لأبنائنا لحب ما نعمل، حتى لا تحدث ارتباطات شرطية خاطئة عن شكل وطبيعة العمل وتأثيرهما على المزاج العام.
- قبل دراسة الثانوية، من المهم مشاركته وحضور معارض التوظيف؛ مما يجعله على مقربة عملية من سوق العمل.
- عدم الانبهار بالمؤثرين على السوشيال ميديا، فبسببهم تراخى الكثير في طلب العلم، أملًا في أن يكونوا أصحاب محتوى يجمعون المال من خلال عملهم في وسائل التواصل، طلبًا للثراء السريع، فيتولد شعور خاطئ لدى أبنائنا أن الحصول على المال أمر سهل ولا حاجة لنا بالتعلم.
وحينما يحين وقت اختيار التخصص على الآباء والمربين الحديث مع الأبناء في ماهية الحياة الجامعية، وكيف نختار التخصص، ويساعدكم في ذلك مجموعة النقاط التالية:
- وضوح الهدف من المرحلة الجامعية.
- تحصيل العلوم: فالتعلم المقصود به تحصيل العلوم انتهى في المرحلة الثانوية، ودخول المرحلة الجامعية ليس للمذاكرة فقط؛ بل تنمية المهارات وترجمة العلوم النظرية إلى واقع عملي.
- بناء العلاقات: فشبكة العلاقات مهمة جدًا، يقولون (ليس المهم ما تعرف، الأهم أن تعرف من يعرف ما تعرف) في إشارة إلى أن زميل الدراسة اليوم، قد يكون شريكك في مؤسسة التوظيف لاحقاً، فالاعتناء بتكوين العلاقات في تلك المرحلة مهارة علينا أن نساعد أبناءنا في إتقانها.
- العمل على المهارات الشخصية: فسمات المثابرة وإدارة الوقت، والمرونة، والحرص، والاستمرارية، والقدرة على التعلم هي مهارات يحبها سوق العمل، ولن تتأتى بالتدريب عليها لاحقًا، بل سيحصل على ثمرة التنشئة عليه منذ الصغر وذلك في مرحلة التوظيف.
- الخلطات التعليمية مفيدة جدا في سوق العمل: وإدراك هذا الأمر مبكرًا يجعل أبناءنا مقبلين دائمًا على التعلم، فماذا يميز خريجًا وسط غيره من الآلاف في نفس التخصص؟! الذي يميزه ما يسمى بالخلطات التعليمية، فيدرس في التعليم العالي مثلًا إدارة أعمال، ثم يكون التخصص في الماجستير موارد بشرية، أو أن يتخرج من كلية التربية ويأخذ دبلومة في علم النفس، هذا مما يجعل خريجًا متميزًا عن غيره ويجعل فرصه في التوظيف أعلى، فلنكن دعائم لأبنائنا لحب التعلم، فكثير من الآباء يرددون أمام أبنائهم، متى تنتهون من التعلم حتى يجني الأهل حصاد تعبهم معهم، فيفاجأ الأبناء أن دراستهم الجامعية لم تكن كافية، ويلزمهم الكثير من التعلم!
- الجامعة مرحلة صناعة قصص نجاح: فالمشاركة في الأعمال التطوعية والخيرية هي نواة جيدة لصناعة خريج مختلف، فساعد ابنك ولا تقعده عن عمل الخير بدعوى شغله ذلك عن مذاكرته، وتصبح تلك الأعمال لاحقًا مفيدة في مقابلات العمل، تبرز شخصية الطالب وتجعله مميزًا عن غيره، مع الوضع في الاعتبار أن مجال التوظيف لا يعترف إلا بلغة الأرقام، كتقديم مشاريع تطبيقية لما تعلموه نظريًا.
- الاهتمام بالتدريب الذي تدفع به الجامعات: قد يعده الطالب وقتًا لطيفًا مختلفًا مع الزملاء، لكن في حقيقة الأمر، يعد التدريب عينًا من الشركات على الطلاب لاختيار المتميزين منهم.
فإدراكنا لهذه النقاط السابقة وتضمينها في حواراتنا مع أبنائنا، تجعلهم يقدمون على مرحلة جامعية مختلفة، مدركين أن النجاح غير مقصور على خريجي كليات معينة، بل مقصور على أصحاب الهمم من كل تخصص، واضحي الهدف من كل تعلم، مدفوعين من أهل لديهم الوعي الكافي، بأن استمرار عمل الابن في مشروع أبيه لا يفرض فرضًا، إنما يذهب إليه الابن مختارًا، بعد أن يتأكد الجميع أن هذا هو المجال الأنسب حتى إشعار آخر.
ومدركين أيضًا أن أغلى الكليات لا تضمن خريجًا متميزًا ما لم يسع الطالب بنفسه لتحقيق ذلك بشتى السبل.
هدانا الله وإياكم للعمل الذي فيه نفع للبشرية وإعمار للأرض بحق، وقبل كل ذلك فيه رضى الله.