رغم تعرّض الإسلام إلى حروبٍ كثيرةٍ مُنذ ظهوره وحتى اليوم خوفًا من انتشاره، فقد صَمَد فريق من المدافعين عنه من أمثال أحمد مفتي زاده وَسط الألغام والأشواك التي وضعها الكارهون والمشككون، بل ضحّوا بأنفسهم وبكُل ما يملكون من أجل أن يسود هذا الدين.
ولقد انتشر الإسلام ووصل إلى كثير من البلاد وتعرفت إليه شعوبها في كل العصور، ومع تطور وسائل التكنولوجيا والانفتاح العلمي أصبح صدى هذا الدين يتردّد في جنبات كل بيت على وجه الأرض، ولم تفلح محاولات الأعداء وبني الجلدة في محاربة الإسلام وتحجيم دوره.
نشأة أحمد مفتي زاده وعمله
ولد العلامة أحمد محمود عبدالله مفتي زاده عام 1933م/ 1352هـ في عائلة عريقة في الدين بمدينة سنندج عاصمة إقليم كردستان، وكان والده محمود مفتي وعمه وجده- الذي هاجر من مدينة بوه إلى سنندج لنشر التعاليم الإسلامية والعلوم الشرعية- من أكابر علماء كردستان إيران، حتى إن والده كان مفتيا وقاضيا لكردستان، ويُعد أحد أبرز أساتذة الفقه الشافعي في جامعة طهران، وهي الجامعة التي تخرج فيها أحمد مفتي زاده.
عمل الشيخ أحمد مدة كمدرس في “دار الإحسان” بمدينة سنندج، ثمّ اشتغل بعد ذلك في مكتب بطهران، واشتغل- أيضا- أستاذا في جامعة طهران، وتوجه مدة إلى النشاط في إذاعة طهران وكردستان، وعمل في أواخر حُكم الشّاه بمنصب قاضي التمييز الشرعي.
وكان لنشأة أحمد في بيت علم أن شبّ الفتى على حُبّ دينه وعلى مفاهيمه الصحيحة، لكن كان لتمزيق قومه الأكراد بين العراق وإيران وسوريا أثر كبير على رفع راية العمل من أجل توحيد بلاده.
سعى أحمد من أجل ذلك في غرس مفاهيم الإسلام الوسطية السنية الصحيحة في الأجيال الصغيرة، فأنشأ محضنًا للجيل المسلم باسم مكتب قرآن، فالتفّ حوله شباب منطقة كردستان وعموم شباب إيران من أهل السنة والجماعة.
القائد الزعيم أحمد مفتي زاده
حينما شب أحمد مفتي زاده تترّس بالعلم حتى اعتُبر أحد المفکرین والسّاسة الدینیين السنة المؤثرین بین الکرد في إيران، ما شجعه على تأسيس مجلس شورى أهل السنة والجماعة في إيران، وطالب بحقوق الأكراد في جميع البلاد المنتشرين فيها تحت قومية سنية واحدة هي قومية الأكراد، ما دفعه للالتحاق بالحزب الوطني الديمقراطي الكردستاني.
تميز مفتي زاده بسلوك إسلامي مترفع عن التّرف والاستكبار والعلو في الأرض، وَوَهب كل وقته من أجل سنيته وشرائع دينه الحنيف ووطنه.
يقول الدكتور محمود محمد علي الزمناكويي: من الواضح أنّ القرآن الكريم كان المصدر الأول والمعيار الأساسي لمفتي زاده، ومنه ينظر إلى الأفراد والمجتمع وسائر مناحي الحياة الإنسانية، بكل أبعادها: الفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية… إلخ، ثمّ بقصد إصلاح المشاكل والأزمات والصعوبات أيضا، فكان يرجع إلى القرآن أولا ثمّ السُّنة وإجماع العلماء.
ومع كون أحمد ربيب بيت علم شرعي، فإن ذلك لم يصرفه عن عالم السياسة الذي أصبح قائدًا مؤثرا فيه، فکان قائدًا قومیًا وإسلامیًا برز في إيران أثناء حُکم الشاه قبل الثورة الإسلامیة في إيران عام 1979.
وقد کان أکثر السّنة تأثیرًا في إيران ویعد الزعيم الروحي لأهل السنة، واشتهر بین الکرد بعد أن أصبح مطاردًا من نظام الشاه لمطالبته بحکم ذاتي للکرد في إيران.
زار أحمد عدة مراکز ذات تأثیر دیني في مدن حلبجة، وبیاره، وخانقین في کردستان العراق بسبب القیود المفروضة على المدارس الإسلامية السنية في إيران، وکان خطیبا لصلاة الجمعة في مدینة سنه (سنندج) بکردستان إيران عام 1970، وبدأ یکتسب تأیید المتدینین الکرد من حوله لأنه كان یعترض علی المعاملة السيئة لکل من الکرد کأقلیة قومیة والسنة کأقلیة طائفیة في إيران.
واکتسب أحمد- أیضا- تأیید الکرد الذین لم یکونوا راضین عن مستوی أداء الحرکات القومیة الکردیة في إيران أثناء فترة الاقتتال الداخلي، حیث کان یدعو إلی ترك العنف وعدم اقتتال الأحزاب والميليشيات فیما بینها.
مِحَن في سبيل الهدف
كان أحمد مفتي زاده يعيش في دولة شيعية ديكتاتورية تحت ظل حُكم الشّاه، لكنه لم يعبأ إلا في إيجاد سبيل للحفاظ على هويته وهوية شعبه السني، واكتساب الاستقرار لهم، ومن أجل ذلك تعرّض إلى الاعتقال والحبس في أواخر عهد شاه إيران، وبسبب شهرته أُطلق سراحه بعد شهر.
وحينما بدأت الثورة الإسلامية تنتشر كان “مفتي” أحد أدواتها القوية من أجل الوصول إلى حُكم إسلامي تعيش فيه البلاد حياة الأمان والاستقرار.
دعم أحمد الثورة وشَحَذ لها الدّعم من جميع الأطراف المحلية والإقليمية، في سبيل تأسيس دولة إسلامية دیمقراطیة بإيران مع حُکم ذاتي للکرد في إطار الدولة الایرانیة الإسلامية الجديدة.
وساهم الشيخ أحمد في الثورة نظرًا إلى مسؤوليته الدينية والوطنية، وكرّس جهوده لدعم الثورة بتوعية أهل السنة والنهوض بهم في وجه الطغاة، وأقام جلسات متنوعة في مسجد الأمين بمدينة سنندج وساهموا في الثورة مساهمة فعّالة.
كما تجمع حوله عموم شباب إيران من أهل السنة والجماعة، واستطاع أن يجمع کلمة أهل السنة في إيران من الكرد والبلوش والتركمان الذين يقيمون على حدود الجمهوريات الإسلامية شرق بحر قزوين، وكذلك قوم طوالش الذين يقطنون الحدود الشمالية الغربية لایران، وکان ینادي بتوحید جهود السّنة في إيران.
وسعى إلى توعية أهل السنة والنهوض بهم لمسايرة إخوانهم الشيعة في وجه الطغاة وساهموا في الثورة مساهمة فعالة وقدموا في سبيل ذلك قافلة من الشهداء من خيرة أبنائهم، مع الحصول على ضمانات من قادة الثورة وعلى رأسهم آية الله الخميني بحُكم ذاتي للكرد، لكن الخميني نكص على وعوده.
ولم يمر وقت طويل على نجاح وتمكين الثورة الإيرانية حتى شعر “مفتي” أنّ الثورة تتحرك في غير نهجها الأصلي، وبخاصة عند تدوين الدستور الذي لم يُصرّح برفع التمييزات المذهبية والقومية بل جعل المذهب الإثني عشري مذهب الدولة، فطالب الشيخ بحذف المذهبية لكن لم يجد آذانًا مصغية على أرض الواقع.
شعر الشيخ بغدر قادة الثورة بأحلام الكرد، واعتقلوا مفتي زاده عام 1983م بحجة أنه خطر على الثورة وعلى أمنها القومي وحكمت عليه المحكمة بالسجن 5 سنوات قضاها كلها، وبعد انقضاء فترة الحبس، طلبت السلطات منه أن یُقدم تعهدًا خطیًّا بأنه لن یکون له أي نشاط دیني أو سیاسي لکنه رفض کتابة التعهد ولبث في السجن 5 سنوات أخرى دون أى تهمة أو تقديمه للمحاكمة حيث قضاها في زنزانة منفردًا ولم یسمح له بالاختلاط مع السجناء الآخرین، بل تعرّض إلى أشد أنواع التعذيب والضرب والاضطهاد من حكومة الخميني كما تعرض كل رفاقه من أهل السنة إلى أشد أنواع التعذيب.
وفاته
خرج أحمد مفتي زاده بعد عشر سنوات من الاعتقال والتعذيب والاضطهاد والحبس الانفرادي وقد تدهورت صحته، لذا لم يبقَ سوى أسبوعين وفارق الحياة، حيث تُوفي في 9 فبراير 1993م الموافق 12 شعبان 1413هـ بعدما اشتد عليه المرض وأصيب بالعمى، وكان آخر وصاياه للمقرّبین منه: “أوصيكم ألا تخافوا إلا الله”.
وذکر أقارب “مفتي” أنّ معظم عظام جسده کانت قد تعرضت إلى الکسر أثناء التعذیب، وأن سبب وفاته کان التعذیب الشدید الذي تعرض له علی ید السلطات، بل اعتقلت السلطات الإيرانية عددًا من أقربائه المؤثرين بعد وفاته، خوفًا من أن يُحركوا الشارع ضد النظام.
المصادر والمراجع:
- قبسات من حياة العلامة الشيخ أحمد مفتي زاده رحمه الله: 4 أبريل 2010،
- صالح بن راشد المسعود عرعر: الشيخ أحمد مفتي زاده.. ومسيرة الأمل والألم، مجلة المجتمع: العدد 1088، 5 رمضان 1414هـ، 15 فبراير 1994م، صـ40.
- تتمة الأعلام للزركلي: جـ1، طـ2، 2002، دار ابن حزم، للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، صـ64.
- مصطفى محمد الطحان: نظرات في واقع الدعوة والدعاة، دار الوثائق الكويت، 1986، صـ192- 193.
- الدكتور محمود محمد علي الزمناكويي: مكانة السُنَّة في نظر الشيخين السبحاني ومفتـي زاده، 9 يناير 2020،