من أعظم نِعم الله على عبده أن يرفع له بين العالَمِين ذِكره، ويُعلي قدرَه، ونحسب أنّ أحمد بزيغ الياسين من هؤلاء العباد، فقد عاش في طاعةٍ لله تبارك وتعالى، ونبيّه صلى الله عليه وسلم، مُنذ صغره، وحفظ القرآن الكريم، واقتفى أثر الصالحين، ونهل من معين العلم فأنار الله طريقه.
لقد عمل هذا الرجل بمقتضى قول الله تبارك وتعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ} [النساء:69]، فالصّالحون والمصلحون، هم الذين اتقوا ربهم فأطاعوه فيما أمر، واجتنبوا ما نهى عنه.
نشأة أحمد بزيع الياسين وعمله
في 6 شوال سنة 1346 هـ، الموافق 28 مارس 1928م وُلد أحمد بزيع الياسين محمد إبراهيم القناعي في حي القناعات وسط الكويت، وحرص والده على إلحاقه بالكتاب لحفظ القرآن الكريم.
تعلّم أحمد في الكُتاب بِجانب القرآن، اللغة العربية والحساب، قبل أن ينتقل إلى المدرسة المباركية عام 1937م، لكنه لم يقتصر على ذلك، فتعلّم فقه المعاملات على يد الشيخ العلامة الدكتور بدر المتولي عبد الباسط الذي أهّله لخوض غمار العمل في سن مبكرة.
تميّز “بزيع” طوال حياته بحرصه على تطبيق تعاليم دينه على نفسه وعلى مَن تعامل معهم، وقد ساعده على النجاح في العمل وضوح الهدف والغاية، مع الوقوف على الواقع ودراسته والتعامل معه وَفق المعطيات الإسلامية، بالإضافة إلى تشجيعه للكفاءات التي كانت سندًا له في مشواره الاقتصادي الإسلامي.
وبعد أن أنهى تعليمه في المدرسة المباركية عام 1942م- وكان عمره لم يتجاوز الخامسة عشر- عمل كاتب حسابات لدى سليمان إبراهيم المسلم، الذي بعثه عام 1946م إلى لبنان لمدة عامين لإدارة المكتب المختص بالأقمشة والصيرفة، فاكتسب هناك المهارة والخبرة.
انتقل بعدها للعمل في المملكة العربية السعودية، وتولّى الإشراف على تجارة وأعمال عبد العزيز علي المطوع، وأهّله ذلك لأن يكون عضوًا في غرفة التجارة والصناعة، ثمّ عضوًا في مجلس إدارة بنك الكويت المركزي.
وكان لسيرته الطيبة وخبرته العالية في المجال المالي أن كان أحد مؤسسي بيت التمويل الكويتي، الذي تولى رئاسة مجلس إدارته من عام 1977 حتى عام 1993م، وغيره العشرات من مجلس إدارة عدة مراكز مالية وبنوك إسلامية كبيت التمويل التركي، وفيصل الإسلامي بالسودان وبنك دبي الإسلامي وغيرها.
أحمد بزيع بين صفوف الحركة الإسلامية
تعرف أحمد بزيع الياسين إلى الحركة الإسلامية في الكويت (الإخوان المسلمون) في وقتٍ مبكرٍ عن طريق الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، فنشط في العمل الخيري حتى أصبح أمين سر جمعية الإصلاح الاجتماعي وهي ذراع الإخوان المسلمون في الكويت. وترشّح على قوائم الجماعة ثلاث مرات عام 1963، 1967، 1975م.
وكان للتربية الدينية التي تربى عليها منذ صغره أثرها في غيرته على دينه ووطنه، فحينما أتقن العمل المالي والاقتصادي نظر فلم يجد في وطنه إلا فرع لبنك أجنبي وذلك منتصف الخمسينيات، فاتجه إلى مدير الفرع شارحًا له مضمون الشريعة الإسلامية في المعاملات المالية وخطورة الربا، وقدم له حلولا شرعية تعتمد على المتاجرة والمشاركة والمضاربة والإجارة والمرابحة وغيرها من الأدوات الإيجابية التي تحل الربح مكان الفائدة، فتهكّم عليه المدير وَرفض فكرته.
لكنه لم ييأس فظل يعمل لها حتى تدفق المال في السبعينيات بعد الاكتشافات النفطية وتدفق المال، فكان أن ساهم في إنشاء بيت التمويل الكويتي الذي بدأ العمل به يوم 28 أغسطس 1978م.
قوة في الحق
لم يخشَ الشيخ أحمد بزيع الياسين في الله لومة لائم، فكان إسلامه وكلمة الحق مُقدمة على كل شيء، فأكد أن العمل الإسلامي المصرفي والاستثماري ليس للتجربة بل للتنفيذ، وعلى المشككين فيه الاقتناع بالتجربة التي نجحت وإلا فليبقوا كما هُم حتى يفتح الله بصيرتهم، متمنيًا أن تعم المعاملات المشروعة المعمورة كلها لإنهاء حالة الفتن والحروب في العالم التي باعتقاده ناشئة عن معاملات الربا المنتشرة.
ظل “الياسين” يحلم بالاقتصاد الإسلامي في وطنه والبلاد الإسلامية، حيث سيطرت عليه الفكرة التي أولاها جل اهتمامه، فاستطاع بالصبر والمصابرة أن يُحوّل الحلم إلى واقع يتجسد أمام الناس، بل استطاع أن يُنجح التجربة الإسلامية التي جذبت المستثمرين والمواطنين وسط ذهول الجميع الذين سارعوا بإنشاء بنوك إسلامية حتى لا يفقدوا مواردهم.
وتحوّل بيت التمويل الكويتي من مصرف بفرع واحد عند تأسيسه في رمضان 1398 هجري الموافق 31 أغسطس 1978، إلى بنك عالمي بأكثر من 250 فرعًا في عددٍ من دول العالم، وأصبح للاقتصاد الإسلامي لغة ومفاهيم عالمية معروفة ومتداولة بين العامة وفي أسواق المال المختلفة بعد أن ظلّت عقودًا حبيسة الكتب، وأدراج المكتبات.
اقتصادي ذو أخلاق
إن كل ما عبر عنه الشرع بالحلال فهو خلق يجب الالتزام به في تعامل المسلم مع المسلم أو مع غير المسلم،على مستوى الأفراد أو الشركات أو الدول، وهو الأمر الذي عاش عليه أحمد بزيع الياسين وسعى لبثه بين العاملين في حقل الاقتصاد والمال.
لذا حرص “بزيع”- رحمه الله- على انتقاء موظفي المؤسسة ممن تتوافر فيهم أربع صفات وردت في القرآن الكريم، وهي الحفظ والعلم والقوة والأمانة، وخصلة الأمانة هي أمر مهم في المؤسسات المصرفية الإسلامية، لأنها أول ما يُفقد من الدين.
فكان يعتبرها مواصفات الموظف في الإسلام، استنباطا من الآيتين الكريمتين: {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، و{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، مع أهمية عدم محاباة الإدارة أو تهاونها في توافر هذه الشروط في مَن تختارهم من الموظفين.
وليس ذلك فحسب، بل كان يحرص- رحمه الله- على نشر أهمية أخلاق العمل وتطبيقها من خلال الخواطر التي كان يُلقيها كل يوم بعد صلاة الظهر في مكاتب الإدارة العليا في بيت التمويل الكويتي، كما كان يحرص على دعوة كبار الدعاة أو أعضاء اللجنة الشرعية لينشروا أخلاق العمل الحميدة بين موظفي بيت التمويل الكويتي من خلال الدروس والمحاضرات.
ولم يشعر أي شخص عمل مع الياسين أنه أقل منه أو أنه يعمل مع رئيس مُميز عنه، وهذا لأنّه كان رجلًا منهم، يفرح لفرحهم ويتألم لألمهم، ويتواصل معهم للتعرف إلى التحديات التي تواجههم ويقترح الحلول لها.
يقول الدكتور فؤاد عبد الله العمر- نائب رئيس البنك الإسلامي للتنمية سابقا-: كان- رحمه الله- يحرص على تحفيز الموظفين من أصحاب الكفاءة، ويتفقّدهم دوريّا للوقوف على احتياجاتهم وشؤونهم الاجتماعية والنفسية بقصد دفعهم لمزيد من البذل والعطاء، كما كان يشمل الموظفين المتميزين بعلاقته الأبوية.
براعة الإدارة
وكان أحمد بزيع الياسين- رحمه الله- يحث على عدم الاعتماد على موظف معين مهما بلغت كفاءته، مع ضرورة تدريب الموظفين وتزويدهم بالخبرات بشكل مستمر، وكان يحرص على انتقاء الموظف المؤمن بفكرة المصارف الإسلامية، وبخاصة في المستويات القيادية بالمؤسسة.
ودائما ما كان يوصي إدارة الموارد البشرية في بيت التمويل لكويتي بأن يختاروا الموظف الجديد كأنهم يختارونه ليزوجوه ابنتهم، وهذا يعني أن يجري اختيار الموظف بناءً على معرفة الموظف معرفة كاملة يتجاوز السيرة الذاتية والمقابلة الشخصية لتشمل السؤال عنه تفصيليًّا من الآخرين.
بل حرص على توريث القيادة كاملة وغرس هذا المبدأ فيمن عمل معه، حتى لا تسقط المؤسسة (خاصة المالية) أو يستأثر بها أحد.
كل هذا جعله يُسلّم أمانة إدارة بيت التمويل الكويتي إلى مَن خلفه في تحمل مسؤولية المنصب، دون أن ينتج عن ذلك أي معوقات أو تداعيات سلبية، بل جرى بصورة طبيعية وسلسة ولم يؤثر على أداء المؤسسة، وهذا نتيجة لحسن اختيار القائد لمن يخلفه وإعداده في السنوات السابقة لتحمل المسؤولية.
وبذلك يكون أرسى قاعدة التعاقب القيادي، وهو وجود أجيال قيادية تحل محل الآخرين عند تخليهم عن المسؤولية، لضمان استمرار المؤسسة وعدم تعثرها.
ولأن العملاء بالنسبة لأي مؤسسة مالية هي الارتكاز الاستراتيجي التي ترتكز عليه، ودونهم لا قيمة لأى مؤسسة، فقد حرص الياسين على توضيح توجيهات الإسلام في جانب التعامل الحسن مع العملاء من حيث التأكيد على الرفق والرأفة بالعملاء، بعيدا عن الجشع والاستغلال، وبخاصة التجاوز عن المعسر عند ثبوت إعساره مصداقا لقول الله تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ) [البقرة:280].
وكان يرى إدارة المؤسسة هي المسؤولة مسؤولية مباشرة عن المحافظة على أموال المساهمين والمودعين وصيانتها وبذل أقصى الجهد في سبيل حمايتها من الضياع والخسارة، وذلك من خلال الرقابة المستمرة- بصورة رسمية أو غير رسمية- على أداء المؤسسة.
وفاته
ظل أحمد بزيع الياسين عاملًا مجاهدًا في حَقلِه الاقتصادي الإسلامي، ليس لأسلمة الاقتصاد فحسب، لكن لخَلْقِ جيلٍ من الرُّواد الاقتصاديين الإسلاميين في الكويت ليحملوا مصابيح الاقتصاد الإسلامي وينيروا للناس دروب طريق الحق، وهو ما استطاع فعله حينما ترك أجيالا تحمل الفكرة الإسلامية، ومشاريع تترجم هذا الاقتصاد واقعيًّا.
ظل الياسين على حاله حتى رحل بجسده ليلة الجمعة 8 سبتمبر 2011م الموافق 10 شوال 1432هـ عن عُمر ناهز 83 عامًا، حيث وافته المنية في العاصمة السويسرية جنيف.
المصادر والمراجع:
- فؤاد عبدالله العمر: معالم الإدارة الفعالة في المصرفية الإسلامية عند أحمد بزيع الياسين، كتابات تكريما للدكتور أحمد بزيع الياسين، صـ105،
- محمد سالم الراشد: العم أحمد بزيع الياسين «عشت محاربا ومت كبيرا» يرحمك الله رائد «عالم المال الحلال الطيب»،
- أحمد بزيع الياسين شيخ المصرفيين الإسلاميين في سطور (الجزء الأول والثاني)، .
- أحمد بزيع.. ومنهجية الفكر الاقتصادي الإسلامي: .