هزّات عنيفة ضربت القيم الأخلاقية في الفترات الأخيرة، لغياب الداعية المربي، والحرب الشرسة على السلوكيات الإسلامية، وتعرض الصحبة الصالحة إلى عوامل هدم في ظل ضعف الوازع الديني لدى بعض الناس، إضافة إلى ذلك فإن انشغال الوالدين بضغوط الحياة كان معولًا آخر لتدمير تلك القيم.
إنّ كثيرًا من الآباء يُهملون تفقّد أحوال أبنائهم، ولا يحاولون معرفة من الذي يذهبون إليهم ويقضون معهم أوقاتهم، بل تجد مسافات طويلة بين الآباء والأبناء لانشغال كل واحد منهم في عالمه الذي يحبه ويجد ذاته فيه.
لكن اختيار الصحبة أساس لصلاح الأبناء، لأن المرء على دين خليله، كما أنها أساس صلاح الأجيال القادمة، فالإنسان مخلوقٌ اجتماعي بطبعه، يأنس إلى الآخرين، ويحب الحديث إليهم؛ لذا كان لحسن اختيار الأصدقاء الأثر البالغ في اتخاذ الطريق المستقيم في الحياة. يقول سيدنا عمر بن الخطاب – رضى الله عنه- : “عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء” (1).
أهمية الصحبة الصالحة
الإنسان كائن اجتماعي بفطرته، يعيش في بيئته ومجتمعه ويتفاعل معها وفق قوانين المكان وسلوكياته، وهو ما جاء في قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
فالصداقة من ضرورات الحياة التي قسمها الله سبحانه بين عباده، والتي حثّ عليها الشرع الحنيف، لكن مع الحرص على اختيار الصحبة الصالحة التقية، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
وقال الله – جل وعلا- محذرًا من الصحبة السيئة: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 – 29].
وشدَّد النبي – صلى الله عليه وسلم- على ضرورة اختيار الصديق بقوله: “المرءُ على دينِ خليلِهِ فلينظرْ أحدُكُم مَن يخالطُ” (مسند أحمد). وقال – عليه الصلاة والسلام-: “مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ والجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صاحِبِ المِسْكِ وكِيرِ الحَدَّادِ؛ لا يَعْدَمُكَ مِن صاحِبِ المِسْكِ إمَّا تَشْتَرِيهِ أوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أوْ ثَوْبَكَ، أوْ تَجِدُ منه رِيحًا خَبِيثَةً” (البخاري).
فوائد الصحبة الصالحة للأبناء
لا شك أن الصحبة الصالحة لها فوائد عظيمة للأبناء، فهي جزء حيوي في حياة الإنسان، تساعده على معرفة المزيد عن نفسه، وتطوير هواياته، ويمكن من خلالها التأثير بشكل إيجابي على الصحة النفسية والجسدية.
ومن أجل تحقيق هذه الفوائد لا بُد من أن يكون للآباء دور قوي في معرفة أصدقاء أبنائهم وبيئتهم وسلوكياتهم وما يتداولونه فيما بينهم وما يستمعون إليه، وذلك عن طريق الحوار الهادئ مع أطفالهم.
أما الشباب، فعلى الآباء أن تكون علاقتهم بهم مبنية على الصداقة وليس الند للند، أو الأبوية الاستبدادية والرقابة اللصيقة، التي قد تؤدي إلى نتائج سلبية تجعل الأبناء ينفرون من آبائهم ويحذرون أن يعرفوا أخبارهم وأصحابهم (2).
دور الآباء في اختيار الأصدقاء
الآباء هم القدوة الأولى لأبنائهم الذين يرسمون لهم طريقهم ويخطون مستقبلهم بأفعالهم الطيبة أمامهم بل وتعاملهم مع الله سبحانه، قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}[النساء:9].
لكن لا بُد على الآباء الحذر من التدخل الكامل في اختيارات أبنائهم، حتى لا يؤصّلوا فيهم روح الاتكالية وعدم الثقة في النفس، فدور الآباء هو الرقابة ومتابعة ما يقوم به الأبناء وعلاقاتهم بأصحابهم. وهناك عدة أمور يجب على الآباء القيام بها لتربية أبنائهم على حسن اختيار الصحبة الصالحة التقية، منها:
- تربية الأطفال على الايجابية والمشاركة وحسن الحوار، حتى تتفتح عقولهم على تمييز الغث من السمين.
- مساعدتهم على فهم أهمية المشاركة وعدم الانعزالية، وتربيتهم على حسن الاستماع، ومراعاة مشاعر الآخرين واحترامها.
- دعمهم في اختيار الأصدقاء بعقد لقاءات مع الأولاد الإيجابيين.
- تعليمهم آليات اختيار وانتقاء الصحبة ومعايير الأصدقاء الحقيقيين.
- مراقبتهم من بعيد، لمنعهم من تكوين صداقات مع أصدقاء السوء، مع مراعاة توعيتهم، وإرشادهم.
- دفعهم للقراءة في قصص الصحبة الطيبة وفضل صحبتهم وفوائدهم في الدنيا والآخرة (3).
آليات التوجيه التربوي للأبناء
مع دخول الأولاد المدارس واختلاطهم بغيرهم تظهر متغيرات حساسة أمام الأبناء تتمثل في اكتشاف العالم الجديد المملوء بالصداقات، وهو ما يفرض على الآباء اليقظة ومعاونة أبنائهم والإجابة عن استفساراتهم، بهذه الطرق:
- أن يكونوا مثالاً جيدًا للأبناء وقدوة حتى في اختيار الصحبة الصالحة التقية، لأن الأولاد يتأثرون بسلوكيات أصدقاء الوالدين أيضا.
- مساعدتهم على اكتساب مفردات جديدة وتنمية مهارات الحوار والتفاوض من خلال مواقف اللعب والخصام.
- على الوالدين اختيار الجيرة الحسنة والمدرسة المناسبة لأبنائهما، ومراقبة وسائل التواصل الاجتماعي حتى لا يقعون فريسة للمجرمين.
- التفكير بعقلية أبنائهم وظروفهم وسنهم وطبيعة الواقع الذي يعيشونه حتى يستطيعوا أن يتفهموا تفكيرهم ومن ثم توجيههم التوجيه السليم (4).
أسس اختيار الصديق
والصداقة بمثابة أرض يجب أن تزرع بالمحبة وتسقى بالمودة وحسن الأخلاق، فالأرض تقبل البذور الطيبة فتنمو في الوقت الذي تموت بقية البذور الفاسدة رغم أن الأرض واحدة. لذا على أبنائنا معرفة الأسس التي على أساسها يختار الصحبة الصالحة والتقية، وهي:
- وجود تشابه في الصفات مع الشخص الذي يود مصاحبته، بحيث تتفق أمزجتهما فلا تتنافر.
- يجب اختيار الصديق المحافظ على عبادَاته، ويتسم بحسن السلوك، ويخاف ربه ويعرف قدره سبحانه.
- اختيار الصديق العقلاني الذي لا يُحكّم عواطفه في كل أموره، فيتسبب في شقاء صديقه لمجرد موقف وقع منه.
- اختيار الصديق الذي يرعى حق صديقه فلا يكون أنانيًّا أو يلهث وراء مصالحه فقط، أو يقدم مصلحته على مصلحة صديقه، أو يحكم على المواقف وفق المنفعة التي يتحصل عليها.
- اختيار الصديق ذو الروح الإيجابية المحب للحياة، والبعد عن الأصدقاء الممتلئين بالروح السلبية، والبعيدة عن التفاؤل والأمل.
- من الممكن عمل الكثير من أنواع الاختبارات الشخصية البسيطة للصديق، ليتبيّن حقيقة صديقه وصداقته، بحيث تكون علاقة الصداقة مبنيّة على التعاون والحب والتضحية (5).
محاذير واجبة
ورغم أهمية الصحبة الصالحة في حياة الأبناء، ففي بعض الأوقات يجب أن يتدخل الوالدان، لإنهاء صداقة أولادهم مع الغير، حتى لا يتضرروا منها، لذا وجب:
- التنبيه على الأبناء بعدم التعلق بأصدقائهم منذ البداية لما للتعلق من آثار سلبية على نفسية الفرد.
- تربية الأبناء على أن النبي – صلى الله عليه وسلم- هو القدوة الذي يجب أن ننهل من معينه.
- إذا لاحظ الوالدان تأثر الابن أو الابنة بأحد الأصدقاء سلبًا، فيجب تقليل فرصة الالتقاء بهذا الصديق تدريجيا إلى أن يتغير أو تنقطع الصلة به.
- إذا ظهرت على أحد أصدقاء الأبناء بعض الصفات السيئة مثل البخل أو الغرور أو الكذب أو السلوك السيء أو الكسل، يجب أن نقطع صلتهم بأبنائنا فورا حتى لا يتأثروا سلبا (6).
أثر الصحبة الطيبة على الأسرة والمجتمع
لقد أوضح الفقيه محمد بن واسع أثر الصحبة الصالحة على حياة الأسرة والمجتمع، ومنها:
- تعمل على الهداية للحق والدلالة على الخير، يقول ابن عطاء السكندري: “لا تُصاحِب من لا ينهض بك إلى الله حالُه، ويدلّك على الله مقالُه”.
- تسعى على إصلاح حال الصاحب حين يُخطِئ وتوجهه التوجيه الصائب وتحافظ عليه من الوقوع في الزلل، وصدق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- حينما قال: “رَحِمَ الله امرَأً أهدى إلي عيوبي”.
- وفي البعد عن أصدقاء السوء النفع، لأن في مصاحبة أهل المعاصي خطر لأنهم يُهوّنون المعصية أمام أصحابهم ويدفعونهم لها ما يشكل خطرًا على الفرد والأسرة والمجتمع.
- والصحبة الطيبة تساعد على تقوية الهمة والعزيمة، فتنتج أشخاصًا إيجابيين نافعين لمجتمعاتهم.
- وهي عامل قوي لخلو المجتمع من مشكلات الشباب، مثل الإدمان والانحراف، ما يدفع الوطن للتقدم، ويحافظ على مدخرات البلاد ويعزز اقتصادها (7).
المصادر
- عبد الرحمن بن قدامة المقدسي: مختصر منهاج القاصدين، دار الأرقم، بيروت، 1995، صـ102.
- أبو حامد الغزالي: آداب الصحبة والمعاشرة، دار الكتب العلمية، بيروت، 2006، صـ238.
- محمد عبدالرحيم عدس: الأباء وتربية الأبناء، دار الفكر، عمان الأردن، 1995م.
- نهى السداوي: المهارة في توعية الأبناء لاختيار الصديق الصالح، 12 أغسطس 2015،
- أسس اختيار الصديق: 25 فبراير 2017،
- اختيار الأصدقاء “مع” الأبناء..مهارة: 15 يناير 2012،
- الصُّحبةُ وأثرُها في واقِعِ الفرد والمجتمع: