إنّ عملية تحويل التعليم إلى مهنة ليست وليدة العصر الحديث، بل تمتد جذورها في أعماق التاريخ، ثم تطورت على يد علماء أجلاء بينهم أبو الحسن القابسي في القرن الرابع الهجري، الذي اعتبر المعلم محور العملية التربوية وعصبها الرئيس، بل يتوقف عليه نجاح التربية في تحقيق أهدافها والوصول إلى غاياتها.
وفي بحث للدكتورين محمد حسن جرادات، ومحمد عيسى الطيطي، الأستاذين بكلية العلوم التربوية، جامعة جرش في الأردن، هدفا إلى التعريف بهذا الإمام ورسالته المفصلة لأحوال المعلمين وأحكام المتعلمين، ودوره في صياغة نماذج تربوية نهضوية.
من هو أبو الحسن القابسي؟
هو أبو الحسن علي بن محمد خلف المعافري القابسي المولود في القيروان سنة 324هـ، وبها تربّى وتعلّم، ومات ودفن سنة 402هـ (1012م)، ويرجع نسبه على الأرجح إلى قرية المعافرين التي ينتسب إليها وكانت ضاحية من ضواحي تونس.
وكان هذا العالم ضريرًا فقيهًا وَرِعًا، وله 15 مؤلفا كلها في الفقه والحديث والمواعظ باستثناء واحد أفرده لشؤون التعليم في الإسلام، وهي رسالته المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين. وقد صنفها في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري وضاع الأصل وبقيت منه نسخة.
آراء أبو الحسن القابسي في أقطاب العملية التربوية
يؤكد أبو الحسن القابسي أهمية الدور الذي ينبغي أن يضطلع به المربي في تخريج أبناء المسلمين والذي يتمثل في الخصائص والسمات الآتية:
- المعلم مسؤول عن ترغيب المتعلمين في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله؛ ليكونوا- حسب تعبيره- من أهل الحق الذين لا يزالون يستشيرون القرآن ويهتدون بما بينه الرسول- صلى الله عليه وسلم- مقتدين في ذلك بما عَرَفَه أئمة الدِّين من سالف الأمة.
- على المعلم أن يرعى الصبيان حسب ما يرعى صبيانه، وله الحق في أخذ الإجازة (يقصد بذلك المقابل المادي) ما دام متفرغًا لذلك، مجتهدًا فيه، صابرًا عليه، والأجر لا يتمثل في محتوى التعليم بل في الجهد الذي ينفق فيه بغية التوجيه الحسن والتأديب الصحيح، والإجازة هنا إجازة البدن المشتغل بالقرآن، وليس ثمنًا للقرآن.
- يحل للمعلم من- وجهة نظر أبو الحسن- الإجازة أيضًا بحكم ما يكابده في تعليم الفقه والفرائض والسفر، وبحكم ما يبذله من أجل الاستجابة لشروط التعليم والنهوض به وبأعبائه، وهي من أسباب الرزق التي لا غنى عنها كإنسان يحتاج مثل غيره إلى ما يسد به حاجات العيش.
- علاقة المعلم بولي أمر الصبي المتعلم، هي علاقة تعاقد ملزم يشمل محتوى التعليم ومدته ومقدار الأجر وأَجَل دفعها. فهناك من ينتدب المعلم ليعلم ولده القرآن وزيادة عليه الخط وقواعد الكتابة أو الهجاء أو النحو أو الفقه أو الشعر، ومنهم من يشترط تعليم ولده لوحده أو مع غيره من الأولاد.
- قوام التفاهم بين الولي والمعلم هو وعيهما المشترك بمسؤوليتهما في تربية الأجيال الطالعة، تربية توقظ فيها الضمير الديني الذي به الإسلام، والتصديق، وخشية الله والعمل بما أمر الله ودعا إليه، والانتهاء عما نهى عنه، وبدونه لا يمكن التكيف في المحيط الثقافي الاجتماعي.
- وينادي أبو الحسن بإجبارية التعليم والحث عليه بأسلوب الترغيب تارة وأسلوب الترهيب تارة أخرى، فهو يذكّر المقبل على التعليم بالأجر عند الله ويحذر الراغب عن ذلك بسوء المآل في الحياة والمعاد.
- وأكد أن تشمل نعمة التعليم جميع الأطفال دونما استثناء، حيث دعا إلى أن يتم تعليم اليتيم مما يكون قد ورثه من مال أو من قبل وصيه، وإن لم يكن له وصي نظر في أمره حاكم المسلمين، وإن لم يكن هناك حاكم للمسلمين نظر في أمره صالحو ذلك البلد أو يتم العناية به من أحد المسلمين، أو يقوم بذلك المعلم ويحتسب أجره على الله.
- والهدف من تعليم القرآن خاصة من وجهة نظر أبو الحسن، هو تخريج الأجيال الجديدة على معرفة الدين والاهتداء بتعاليمه.
- وعلى المعلم التفرغ لمهنة التعليم، وعليه ألا يشتغل عنهم بأمور قد تطرأ عليه كشهود جنازة أو عيادة مريض، وشهادة البينات أو إبرام عقود النكاح وغيرها، وعليه أن يتفق مع الآباء على أوقات التعليم والعطل وأن يستأذن في إرسال الصبية في طلب بعض، وأن يستخلفهم في الاعتناء بهم في حال سفره.
المُربَّى في نظر أبو الحسن
الطفل في نظر أبو الحسن القابسي “لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا يميز لنفسه ما يأخذ لها، وما يدفعه عنها”، وتربيته أولًا ملقاة على عاتق كافله وراعيه الذي هو في الغالب والده، وتربية الطفل هي أصل نفعه واستقامته على القيم الإسلامية التي لا بُد من معرفتها، وللآباء أجر عظيم إذا علّموا أولادهم بأنفسهم، كان أجرهم في ذلك “أعظم من الحج والرباط والجهاد” وللذين يعلمونهم من المعلمين الذين يعهد إليهم تربية الأبناء.
وبالغ أبو الحسن في تهجين صورة الولي المتهاون في تعليم أولاده وهو واجد إليه سبيلًا، فهو مستخف بواجب السعي إلى أن يدرك أولاده النضج في الدين.
ودعا إلى تمكين الأطفال من فرصة المعرفة والتحصيل، ونبّه إلى ضرورة التمييز بين سن الرشد والمسؤولية الدينية والاجتماعية، وبالتالي لا يجوز أن يحرم الأطفال من حق التعليم لأن ذلك يؤدي إلى تفشي الأمية والعجز عن الاستجابة لمتطلبات الدنيا والدين.
ويبرر حق الأنثى في الانتفاع بالخدمات التربوية التي تقدم للذكور، فهي في نظره لها منزلة الكائن الجدير بالرعاية والاعتبار اللذين يفرضهما دورها العام في تحقيق توازن الكيان الاجتماعي.
وفصّل الأحكام الخاصة بتعليم البنت وذلك دلالة على تعميق الوحدة الإسلامية الذي يستلزم نشر الوعي في الذكور والإناث معًا، مستشهدا بالقرآن والسنة، فقد روى عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- قوله: “أيما رجل كانت عنده وليدة، فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها فله أجران”.
وأكد ضرورة الفصل بين المتعلمات والمتعلمين، لأنّ ذلك فيه صلاحهم خشية إفسادهم، ولم يفصل في هذا الموضوع، بسبب شدة انشغاله بالدعوة إلى نشر التعليم وتزهده وتعففه ووقاره واكتفى بإشارة خفية للموضوع دون تفصيلات.
كما أكد رفق المعلم بتلاميذه والعدل بينهم، وتأكيدًا لإشعاعه عليهم باعتباره القدوة والالتزام بالمثل العليا، ومنها المساواة في تحديد الأجر والتوجيه، وضبط العقاب الذي يستوجب الصبيان عند الخروج عن الحدود.
ونصح المعلم بألا يكون دائم العبوس، فيصبح عديم التأثير فيهم، وألا يكثر من اللوم والضرب حتى لا يفقدهما أهميتهما التأديبية، وفي الحالات المستوجبة لا يضرب إلا من لا ينفع معه التوجيه والتوبيخ، إذ على المعلم أن يضع الأمور مواضعها، فالمعلم يسوس أطفاله بما ينفعهم، فيرفق بهم ويرحمهم بالنصح والإرشاد أي التشكيل المستمر لسلوكهم.
يجوز للمعلم الانشغال عن الأطفال فقط لأحيان قصيرة ليتثبت من حفظ القرآن ولا يتلعثم به أو ينسى بعضه إذ أن القرآن كما قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: “أشَدُّ تَفَصِّيًا مِن صُدُورِ الرِّجالِ، مِنَ النَّعَمِ بعُقُلِها”، أي أنَّ الإنسانَ إذا لم يُداومِ مُراجعةَ القرآنِ فإنَّه يَنفلِتُ مِنْ صدرِه كما تَهرُبَ الإبلُ إذا فُكَّ وِثاقُها، وهي أسرعُ الحيواناتِ نفورًا.
وللقابسِي تصور فريد لعلاقات المتعلمين فيما بينهم، فهو يرى في تخاير المتعلمين- أي تنافسهم- وتقويم بعضهم مستوى البعض الآخر ما يصلحهم، ويخرجهم، ويبيح لهم أدب بعضهم بعضًا، وفي تكييف العريف: “المتعلم الذي ختم القرآن وعرفه” بتعليم غيره من التلاميذ منفعة لهم.
ويدعو إلى اعتبار الفروق الفردية في التعليم فيقول: “ونحن نوجب للمعلم حذقة، ونرى أن يحكم له بها في النظر والظاهر على قدر الغلام، وقدر درايته، وقدر حفظه في الظاهر، وقدر معرفته بالهجاء والخط في حذقة النظر”.
ويفضل أن يعرض كل واحد من الصبيان في حزبه، فيؤدبه على ما كان من تقصير. واستحداثًا على بذل الجهد الذاتي، الذي يعتبر أساس التعلم وتيسيرًا لمعرفة نتائج حفظه، دعا القابسي إلى تقويم نشاط المتعلم باعتبار المدى الزمني الذي استغرقه هذا النشاط.
البرنامج الدراسي ومحتوى التعليم
أما عن البرنامج الدراسي في نظر أبو الحسن القابسي فإن التلاميذ تدرس طوال ستة أيام ويفرغون للراحة يوم الجمعة “وذلك سنة المعلمين مذ كانوا” يعرضون على معلميهم “في عشي يوم الأربعاء، وغدو يوم الخميس، إلى وقت الكتابة، والتخاير إلى قبل انقلابهم نصف النهار، ثم يعودون بعد صلاة الظهر للكُتّاب، والخيار إلى صلاة العصر، ثم ينصرفون إلى يوم السبت يبكرون فيه إلى معلميهم، وهذا حسن نافع رفيق بالصبيان وبالمعلمين لا شطط فيه”.
وفي نهاية المرحلة التعليمية يكون هدف التقويم، معرفة من يستحق الختمة، والتمييز بين من زاد عن حفظ القرآن حذق قراءته في المصحف، وكتابته بخط حسن، والإلمام بقدر من الشعر أو النحو، إذ إن التعاقد بين المعلمين والأولياء يمكن أن يستظهر الصبي القرآن حفظًا من أوله إلى آخره، أو يضاف إلى ذلك ضبط الهجاء والشكل وحسن الخط، إلا أن المستظهر للقرآن حفظًا مع ما صاحبه من حسن خط، وضبط شكل، وهجاء وإعراب، وقراءة، يكون في الاجتهاد أفضل ممن لم يستظهر الحفظ.
ويرى أبو الحسن أنّ القرآن الكريم دستور المسلمين ومرجعهم في العبادات والمعاملات وهو جوهر وحدتهم وهاديهم إلى سبل الفوز برضوان الله، وموقفه من تعليم القرآن مستوحًى من طبيعة اهتماماته كفقيه.
وقد صنّف المواد الدراسية إلى مواد إجبارية وهي القرآن والفقه والأخلاق والخط والهجاء والقراءة ومبادئ العربية، ومواد أو علوم اختيارية كالحساب والشعر وأخبار العرب، وعلم النحو، وصناعة العربية.
وبالفقه يتعلم المتعلم واجباته الدينية كالوضوء والصلاة وبالأخلاق ينشأ الصبي على السلوك المتجه إلى الالتزام الذاتي بما أمر الله. أما العلوم الاختيارية فهي علوم تبتعد عن الصفة الدينية وإنما هي ضرورية لفهم الدين.
وإذا قمنا بالمقارنة بين هذه العلوم وعصرنا هذا نجد أنّ العلوم الإجبارية تمثل ما نسميه اليوم بالتعليم الأساسي، وبين مرحلة التعمق والتخصص التي تؤكد عليها مرحلة التعليم الثانوية.
وينظر أبو الحسن إلى العلوم الاختيارية بقدر خدمتها للعلوم الإجبارية فمثلا يفيد الحساب أو ما نسميه اليوم بالرياضيات في عملية ضبط المواريث وسائر الحقوق المادية، والشعر فيما يوفره من أسباب إيقاظ الذوق وتهذيبه، والتاريخ وما يبرزه من أنواع العلاقات السببية بين الأحداث والظواهر التي لا تهم المربي إلا من وجهة روحية محض.
ويؤكد على مبدأ التدرج في المحتوى الإجباري الذي يتمثل في علوم الدين والمحتوى الاختياري التي تتمثل في العلوم التي تختلف عن سابقتها في بعدها عن الصفة الدينية، وإن كانت ضرورية لفهم الدين، كما يؤكد عملية الاستمرارية والتعمق في المحتوى الإجباري، وهذا يعبر عنه بالتنظيم المنطقي والسيكولوجي للمحتوى والاستمرارية والتتابع والتكامل في تنظيم الخبرات.
المصادر:
- من ملامح الفكر التربوي عند الإمام القابسي “دراسة تحليلية نقدية”
- محمد أسعد طلس: التربية والتعليم في الإسلام، ص63.
- فتحي حسن ملكاوي: نصوص من التراث التربوي الإسلامي، ص 143.