ما شاع الظلم في أمة إلا أهلكها، ولا انتشر في بلدة إلا خربها، ولا حل في قرية إلا دمرها، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا}[الكهف:59]، وما حرم الله تعالى خُلقا كالظّلم، وما توعّد أحدًا بمثل ما توعّد به الظالمين، فقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف:29].
وللظّلم آثار وخيمة وعواقب سيّئة تعود على الأفراد والمجتمعات إذا ساد فيها وانتشر، فكم من أفراد وأمم اغترّت بقوتها، وتباهت بأعدادها، وخلطت الحقائق ظلمًا وعدوانًا، وبغيًا وتسلطًا، وسلبت تلك الأمم الظالمة إرادة الشعوب، وصادرت حريتها، وانتهكت كل الأعراف الإنسانية طغيانا وعلوا، ما كان له أثره في شيوع الإحباط والإلحاد ومحاولة الهروب من الواقع.
مفهوم الظلم
الظلم لغة: مصدر ظلم، ويعني الجور، يُقال: ظلَم فلانًا؛ أي جار عليه ولم يُنصفه.
ويقال ظَلَمَه يَظْلِمُهُ ظَلْمًا وظُلْمًا ومَظْلِمةً فالظَّلْمُ مَصْدرٌ حقيقيٌّ والظُّلمُ الاسمُ يقوم مَقام المصدر وهو ظالمٌ وظَلوم… وأصل الظُّلم وضع الشيء في غير موضعه.
أمّا في الاصطلاح: فهو التعدي عن الحق إلى الباطل، والتصرف في ملك الغير ومجاوزة الحد.
وعُرف- أيضا- بأنه: وضع الشيء في غير موضعه المختص به؛ إما بنقصان أو بزيادة؛ وإما بعدول عن وقته أو مكانه(1).
لماذا الظلم؟
صرخاتٌ تُدوّي لماذا يحدث لي هذا؟ ولماذا هذا الظُّلْم؟ ويشتد ذلك مع شعور المظلوم ببراءة نفسه، ومع عدم قدرته على دفع ما وقع عليه، أو على معاقبة من ظلمه بما يكافئ ظلمه مع تكرار الظُّلم أو مع طول أمده على النفوس، وحينها المرّة بعد المرّة يعلو الصراخ من الناس: لماذا غاب العدل؟
لقد خلق الله- سبحانه وتعالى- الكون بقدر وحكمه وعدل في الاتزان بين جميع المخلوقات {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}[الملك:3]، وهذا تقرير لنفي الخلل في السماوات الشاسعات والأرض، حيث شهد الكون بعدل الله سبحانه، فلا يخرج أحد متعمدًا عن حكم الله الشرعي إلا إلى حكم الأهواء.
والإنسان على الأرض في امتحان ليميز الخبيث من الطيب، ومن ثم أصبحت الأرض ساحة للصراع بين الحق والباطل، والعدل والظلم، وأصبح صلاحها بمدافعة أهل العدل لأهل الظلم: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}[البقرة:251].
وتكتمل الصورة في الآخرة حينما يجد كل من المؤمن والكافر والعادل والظالم حقيقة ما قام به. فلو كان الموت هو النهاية لفقدت الحياة كل حكمه ولكان الموت العدمي خير من حياة يسود فيها الظلم(2).
الإسلام وتربية الأمة
احتل موضوع الظلم حيزًا لا يُستهان به في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فهو بكل صوره وأشكاله يتعارض مع رسالة الإسلام التي هي رسالة العدل.
ومنهجية القرآن في تربية هذه الأمة وإعدادها تختلف عمّا نراه ونسمعه اليوم من خطب ومواعظ، فالقرآن يحمل الأمة مسؤولية بناء نفسها، واستعدادها لحماية أرضها وعرضها، وحينما تقصر الأمة في ذلك فلن يتدخل القدر لمساعدتها، أو قلب الموازين لصالحها.
لذا، سعى إلى تربية الأمة على عدم الركون للظالم، لأنّ الركون إلى الظّلَمَة والرضا عن ظلمهم، وتبريره، يعد مشاركة لهم، مصداقا لقول الله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}[هود:113].
وهو المعنى الذي حذر منه النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله: “من أعانَ على خصومهِ بظلمٍ، أو يعينُ على ظلمٍ، يزلْ في سخطِ اللهِ حتّى ينزعَ” (إسناده حسن رجاله ثقات). وقال- صلى الله عليه وسلم-: “منْ أعانَ ظالمًا ليدحضَ بباطلهِ حقًّا، فقدْ برئتْ منهُ ذمةُ اللهِ ورسولِهِ” (صحيح).
من هنا، يجب ألا يسكت أو يوافق أو يرضى الأفراد والجماعات عن الظُّلم، الذي يمارسه الآخرون، ولا يجوز أن يستمرأ ذلك منهم، لأنّ ذلك يعد عدم ردع للظالمين عن ظلمهم والركون إلى إليهم. والقرآن عمد لتربية الأمة على عدم الركون للظلم أو الظلمة(3).
آثار غياب العدل
تتحدد مكانة الإنسان في المجتمع بمقدار الفائدة التي تعود على الناس من عمله، وأسلوب علاقته بالآخرين، والدين والأخلاق هما مناط التحكم في نمط ومحتوى العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان.
ولا يُمكن فصل علاقة الإنسان بالله تعالى عن علاقاته مع نفسه ومع الآخر، فهذه العلاقات تتكامل مع بعضها، فكلما التزم الإنسان بتعاليم الشرع الحنيف وطبقها قولا وفعلا، توثقت عرى العلاقة مع النفس) ومع الآخر.
وأي تغيير يطرأ على هذه العلاقة ينعكس بالضرورة على جميع السمات الاجتماعية في هذا المجتمع، فبُعد الإنسان عن ربّه يُؤثر في علاقته بنفسه ومع غيره لدرجة أن تسوق الأخلاق الذميمة، ومنها الظلم والأنانية.
فحينما تنهدم الأفكار والمبادئ وتتكاثف العلاقات حول الأفراد يتحول المجتمع إلى ميدان للنخاسة والظّلم، يُوسد فيه الأمر لغير أهله، وتضيع الأمانة، وتستشري الشللية وجماعات المصالح بأشكالها وصورها المختلفة(4).
للظُّلم آثار كثيرة قد تدمر الأفراد والمجتمعات خصوصًا إذ انتشر وساد، ومن هذه الآثار:
- وقوع المصائب التي تلحق بالبشرية، إذ يعيش المرء المظلوم مُكتئبًا بائسًا غير نافع لنفسه أو مجتمعه ما يهدر الطاقات البشرية.
- ملحق بالهلاك والخسران لصاحبه؛ فلا يفلح ظالم في ميزان الله تعالى، جزاء ظلمهم وجورهم.
- خروج على سنة الله تعالى في كونه، بالإفساد في الأرض والتسلط على العباد، والله- سبحانه وتعالى- يتوعد الظالمين حتى يقصمهم عاجلا أو آجلا.
- يؤدي للصراع بين أبناء المجتمع، ما يعطل إنتاجية الوطن وإهدار مقدراته وثرواته.
- سبب لمصائب الدنيا من أوجاع وأسقام وفقر وذهاب الأولاد والأموال والقتل والتعذيب.
- الجزاء من جنس العمل: وقد يولي الله- عز وجل- على الظّالم ظالمًا مثله يسلطه عليه عقابًا على ظلمه. قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأنعام:129].
- الظالم تنزل عليه اللعنة يوم القيامة، والطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، يقول تبارك وتعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}[الشعراء:227](5).
التربية صمام أمان
التربية القويمة التي أرادها الشرع الحنيف بمثابة صمام أمان للأفراد والمجتمع، كما أنّ السّير على المنهج الإسلامي وإشاعة العدل وتجريم الظلم دافعًا لتقدم المجتمعات، وهو المعنى الذي نطق به الشاعر أحمد شوقي:
ربوا على الإنصاف فتيان الحمى تجدوهم كهف الحقوق كهولاً
فهو الذي يبني الطباع قويمة وهو الذي يبني النفوس عدولاً
ويقيم منطق كل أعوج منطق ويريه رأياً في الأمور أصيلاً
فمنهج الله- سبحانه وتعالى- ينتج إنسانًا متزن الطباع، وسطي المزاج، متمسكا بالمأمور به، متجنبًا ما نُهي عنه، مدركا أن العدل فيه فريضة وعبادة وأخلاق.
يقول عمر عبيد حسنه: إن إشكالية الظُّلْمِ وما يتولد عنها من الاستبداد والاستعباد والتأله والاغتصاب والإكراه والتسلط والهيمنة وبطر الحق وغمط الناس… إلخ، كانت ولا تزال الأصل والمحور الأساسي للشر، بكل أشكاله، وشقوة الإنسان وإهدار كرامته وإلغاء إنسانيته، لذلك جعل الإسلام المسؤولية عن وقوع المظالم مسؤولية تضامنية شاملة لكل أفراد الأمة؛ لأن آثار الظلم وشروره مركَّبة وممتدة، فهي منبع للفتن ومولد لها، وإصاباته سوف تلحق الجميع بحيث لا ينجو أحد منها.
والإسلام رسّخ معالم العدل، ووسع معرفة الأمة به، وأوضح أحكامه وأولوياته وخطط تفاصيله، وصفات القائمين عليه، وعين أجهزة تحقيقه وتنفيذه، وحدود مكانته في الدين والمجتمع ومسؤولية الوالي عنه، والرضا التام بأحكامه، فالمسلم من خلال إسلامه عليه أن يلتزم بالعدل، ويدعو إليه، ويجاهد من أجله. من أجل أن تستقيم الحياة على المستوى الفردي والأسري والمجتمعي والشعوب والأمم والحكام، وفي ميادين السياسة والاقتصاد والحروب.
لكن إذا انتشر الظُّلْمِ وشعر كل إنسان بإهدار كرامته وحقوقه وحياته؛ كان لذلك أثره حتى فى تربيته أبنائه الذين قد يغرس فيهم القسوة ليسطيعوا مجابهة المجتمع وحتى لا يظلمهم أحد، أو أنه يقنط من رحمة ربه فيهرب إلى العقائد الفاسدة التي قد تبعده عن دينه؛ فالظُّلْم آثاره خطيرة على التربية.
ولتنمية العدل علينا:
- تنمية مشاعر الخوف من الله- سبحانه وتعالى- والإحساس بمراقبته الدائمة والتربية على العدل.
- تشكيل رأي عام اجتماعي يمجد الفضائل ويرفض الرذائل.
- حصر الفساد في زاوية ضيقة مظلمة، بل محاصرة الحديث عنه، والنية فيه.
- محاصرة الظُّلْمِ وتحقيق العدل، بتفعيل العقوبات على الظالمين حتى يرتدعوا ويكونوا عبرة لغيرهم(6).
إنّ العدل سُنّة الكون والشرع، إلا أنّ الصراع الدائر في الدنيا لا يكمل فيه تحقق العدل المحبوب بين الناس، فقد يعيش ظالمًا ويموت دون أن يكتمل عقابه، وقد يعيش مظلوما ويموت دون أن يستوفي حقوقه، وهو ما يحتاج لتربية تغرس في النفوس أن الظلم عواقبه وخيمة في الدنيا والآخرة، وأن الله- سبحانه وتعالى- أقسم لنصرة المظلوم ولو بعد حين.
المصادر والمراجع:
- مجموعة من المؤلفين: موسوعة الأخلاق، الدرر السنية، طـ3، الجزء الثاني، 2017، صـ319.
- أشرف عبد المنعم: لماذا يوجد الظلم؟، 24 مايو 2020
- عثمان محمد غنيم: الظلم وانعكاساته على الإنسانية (رؤية شرعية)، إدار البحوث والدراسات الإسلامية، قطر، طـ1، 2014، صـ35.
- قادرة بشير: الظلم الاجتماعي في السنة النبوية الشريفة: الآثار والعلاج دراسة تحليلية، مجلة البحوث والدراسات، الدد2، المجلد 5، جامعة الوادي الجزائر،2018.
- خالد بن عبدالرحمن الشايع: فضل العدل وشناعة الظلم وسوء عاقبة أهله، 7 مايو 2015
- عبد الله اليحيى: الإسلام والتربية على العدل، 17 يناير 2018