أعلى الله – سبحانه وتعالى- من شأن طالب العلم والعلماء، خصوصًا إذا كان العلم يعود بالنفع على البشرية ويرفع من قدر صاحبه، حيث جعل الله طلبه طاعةً وعبادة، فقال – عز وجل-:{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
وتسارعت الأيام حتى أصبح أبناؤنا على مشارف أبواب عام دراسي جديد، يأتي في ظل متغيرات فرضتها الظروف والحوادث، سيّما مع استمرار جائحة كورونا التي غَزَت العالم، وفي ظل غياب الرؤية التربوية في المناهج التعليمية حتى صار التعليم كالآلة تُسطر أدوات تعليمية في وجدان كل طالب دون أن تترك فيه روحًا تربوية تسري في كيانه فتلزمه بأخلاقيات الطالب المسلم المتعلم الذي يرتقي بنفسه ويدافع عن دينه ووطنه ويخدم مجتمعه والإنسانية. يقول ابن القيم: “مَن طَلبَ العلم ليُحيي به الإسلام فهو من الصدّيقين ودرجته بعد درجة النبوّة” (1).
منزلة طالب العلم
لقد ميّز الله – جل وعلا- العلماء وطلاب العلم عن سائر البشر، فقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ:6]. وقال مُزكيًا شأن العلم وأهله: {شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط} [آل عمران:18].
وأهل العلم هم أكثر خشية وخوفًا ووجلا من الله سبحانه وتعالى، فقال – جل شأنه-:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وزكي النبي – صلى الله عليه وسلم- كل مَن سَلَكَ وولج هذا الطريق يلتمس فيه علمًا ينفع به نفسه ومجتمعه فقال: “من سلك طريقًا يطلبُ فيه علمًا، سلك اللهُ به طريقًا من طرقِ الجنةِ، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ، وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ومن في الأرضِ، والحيتانُ في جوفِ الماءِ، وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ” (أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد).
وعن أنس – رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ، وإِنَّ طالبَ العلمِ يستغفِرُ له كلُّ شيءٍ، حتى الحيتانِ في البحرِ” (صحيح الجامع).
فضل طالب العلم
كثيرٌ من الناس يتعلّم من أجل الدنيا ولا يهتم بمعرفة فضل طالب العلم والاستزادة من علوم الدين والدنيا، ويظل في مراحل التعليم سنوات كثيرة دون أن يدرك قيمة ما يقوم به، أو يصحح نيته ليكون هذا العلم في سبيل رفعة دينه.
لذا يجب علينا أن نعقد جلسات مع أبنائنا لنُعرّفهم قيمة العلم الذي يسعون من أجله، وأنه ليس هدفا لبلوغ وظيفة أو مكانة اجتماعية فحسب، لكنه هدف لنيل رضا الله، فبه:
- يظل من في السموات والأرض من ملائكة وجميع المخلوقات يدعون للعلماء ومن يطلب العلم، بل ويستغفرون لهم “.. وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ومن في الأرضِ” (أبو داود والترمذي).
- العلم نور يُبصر به المرء حقائق الأمور، وليس البصر بصر العين، ولكن بصر القلوب.
- ويرفع الله الذين طلبوا العلم وسعوا له في سبيل خدمة دينهم وأوطانهم والبشرية بهذا العلم درجات في الدنيا والآخرة مصداقًا لقوله: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:28].
- يكسب العلم صاحبه الاحترام والرفعة والمكانة العالية وسط الناس ويجعله مسموع الكلمة، رفيع الشأن، فإذا مات ظل علمه الذي نفع الناس يفيض عليه من الحسنات لا تتوقف حتى يرث الله الأرض ومن عليها، “إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ، منها أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ” (صحيح مسلم).
- يهتدي الناس بنور العالم في أمور الدنيا والدين لكونه وريث الأنبياء “إن العلماء ورثة الأنبياء” (الترمذي).
- كما تتمثل أهمية طلب العلم بعمارة الأرض، التي لا تتحقق إلّا بمعرفة علوم الصناعة، والزراعة، والاقتصاد، والتجارة، وغير ذلك من العلوم التي تُعلي من همة الأمة والوطن.
- الدفاع عن الشريعة والعقيدة، حيث تحتاج الأمة الإسلاميّة إلى كلّ علم يهدف إلى الدفاع عن شريعتها ومنهجها (2).
طلب العلم ضرورة
من بر الوالدين لأولادهم تعليمهم العلوم المفيدة النافعة لدينهم ودنياهم، من أجل تحصين أنفسهم ومجتمعهم من الآفات الأخلاقية التي تنتشر في ظل الجهل، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
أيضا هناك أسباب جعلت الشعوب كلها تضع طالب العلم في مقامٍ عالٍ، حيث إنه يُصحح مفاهيم مغلوطة قد تنتشر وسط الناس وتؤدي إلى تمزيق وضعف المجتمع.
كونه أيضا سبب قويم في مواجهة الدعوات المنحرفة والحركات الهدّامة التي تتربص بالأمة والوطن، التي لا بُد من معرفة سبل العلم وتطوره لكشفها والتحصن منها.
يجب أن يعرف الأبناء أنهم يتعلمون من أجل تهذيب وتأديب أنفسهم وأخلاقهم.
العلم مهمة وأمانة، وبالتالي لا بد من أخذه بجدية واهتمام، كي لا ندفع أعمارنا ثمنًا باهظًا لاستهتارنا.
علينا أن نعرفهم أنهم يتعلمون من أجل الإصلاح وليس ليسعَوا في الأرض مفسدين بما تعلموا: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88](3).
شروط طلب العلم
إنّ طالب العلم إذا أراد أن يكون ذا همة عالية، لا بُد من أن يتحقق فيه شروط معينة، ذكر بعضها الدكتور خالد بن عبد الله المصلح، وهي:
- العقل الذي يستطيع أن يميز به بين صنوف العلم النافع والضار والغث والسمين.
- الفطنة والذكاء التي يدرك بها ما خفي وما التبس من أمور العلم، وهو المعنى الذي دعا به الرسول – صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عباس [اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّينِ] (البخاري).
- شهوة العلم والغيرة عليه لكي يداوم على طلب العلم، ويبحث عن كل جديد فيه ليشبع غريزته بالتفوق فلا يتسرب له الملل.
- تجنب القواطع وهموم الحياة التي قد تصرفه عن العلم وتعرقل مسيرته وتحبط أداءه.
- الحرص على التخصص في مجال حتى يبدع فيه ويتقنه وينفع به نفسه والناس فلا يتشتت بين المجالات.
- معرفة قيمة الوقت حتى لا يضيع العمر دون فائدة أو دون ترك بصمات في مجالات العلم.
- افتقار وتواضع حتى يأتي العلم بثماره الطيبة فلا تبخل به على أحد أو تتعالى به على الآخرين أو تجعله سلعة، أو تنسى فضل الله عليك به.
- تلقين أستاذ؛ لأن الإتقان يلزمه التعلم على يد شيخ أو أحد خبراء التخصص، بالإضافة إلى الصبر (4).
آداب طلب العلم
على أبنائنا أن يتعرفوا على الآداب الواجبة أثناء طلبهم للعلم، حتى يستفيدوا ويستفاد غيرهم، وكيف تكون أخلاقهم مع معلميهم وأماكن تعليمهم، ومن هذه الآداب:
- الإخلاص في القصد فلا يبتغي بعلمه سمعة ولا رياء.
- التأدب مع المعلّم والعمل بالعلم.
- استشعار مراقبة الله عز وجل.
- اغتنام الوقت بالفائدة.
- دوام الاستطلاع مع الحرص على مجالسة الصالحين.
- الحذر من الاشتغال باختلاف العلماء فيما لا طائل منه.
- مصاحبة أصحاب الهمم العالية في العلم (5).
صفات المتعلم
على الآباء غرس مفهوم الهمة العالية والصبر وتحديد الهدف وتحدي الصعاب أمام أولادهم، فلا بد من أن يتصف طالب العلم ببعض الصفات، ومنها:
- حسن الاستعانة والتوكل على الله والاتسام بهمة عالية ورغبة ملحة وحماسة للعلم.
- الحرص على الفائدة ومعرفة ثمرة العلم ونتيجته المحمودة.
- يجب أن يكون طالب العلم متفائلا، فالتفاؤل يجعله يتوقع الأفضل ويدفعه إلى الدراسة بشكل جيد.
- يجب على الأبناء اغتنام فترة الصبا وأوائل الشباب للحفظ والمذاكرة وأن نشجعهم على ذلك بشتى السبل.
- السعي للتخصص ومعرفة المجال المحبب للنفس للتركيز عليه والاهتمام بالموهبة الشخصية والعناية بالتجديد والإبداع والابتكار وعدم الجمود حول النصوص العلمية.
- أن يكون شعار الطالب: “الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها، مع البعد عن الجدال والمراء العقيم “لا جدال إلا بالحق”.
- الاهتمام بمستجدات العصر المختلفة، من علوم وتكنولوجيا، فالطالب في العصر الحديث يجب أن يكون متسلحًا بأدوات عصره من استخدام الحاسب الآلي واللغة الأجنبية التي تعينه على فتح مجالات عمل كثيرة بعد التخرج (6).
المصادر
ابن القيم الجوزية: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، جـ1، دار ابن عفان للنشر والتوزيع، الجيزة، مصر، 2010، صـ185.
أحمد بن محمد بن إسماعيل المصباحي: طلب العلم، 9 فبراير 2013.
الدكتور عبد الحق حميش: فضل طلب العلم، 27 سبتمبر 2021،
إلهام جميل حسن أبو حجر: لماذا نتعلم؟، 28 مايو 2020،
خالد بن عبدالله المصلح: الشروط التي ينبغي توفرها في طالب العلم، 19 أكتوبر 2013،
ما هي آداب طالب العلم؟: 20 مايو 2001،