بقلم: أ. إبراهيم جابر
في زمن تتقلّب فيه القلوب كما تتقلّب الأسواق، وتتحرك فيه النفوس صعودًا وهبوطًا كمنحنيات البورصة، تبرز قيمة الرجل الدعوي الذي يفطن إلى طبيعة عمله…
فهو لا يدير “ملفًّا” ولا “لجنة”، إنما يدير أسهمًا في بورصة ربانية؛ أسهمًا من القلوب، وأسهمًا من الطاقات، وأسهمًا من الإيمان.
تمامًا كما يقف رجل البورصة أمام الشاشة يراقب حركة السوق بعين لا تغفو، يقف المسؤول الدعوي أمام “شاشة الدعوة”… شاشة لا تظهر فيها أرقام، بل تظهر فيها أرواحٌ ومواهب وقلوب.
سهم يرتفع.. فلا تضيّعه
هناك أخ صادق النيّة، طيب القلب، يبذل فوق طاقته.
هذا السهم يرتفع، ويحتاج إلى من يحوطه لا من يرهقه.
كان هذا منهج النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى طاقات الشباب حوله؛ فضمّ أسامة بن زيد، ومصعب بن عمير، وعليًا رضي الله عنهم إلى ميادين المسؤولية مبكرًا.
كانوا أسهمًا رابحة… فاستثمر فيهم وأطلقهم.
سهم يهبط.. فلا تُلقِه
الهبوط ليس خسارة… الهبوط تنبيه.
هناك من يضعف أو يفتُر أو يغيب قلبه، وهذا سهم يحتاج إلى ضخّ معنوي، وإلى إنعاش تربوي.
هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع حاطب بن أبي بلتعة يوم أخطأ…
لم يقطع السهم، بل قال: “إنه شهد بدرًا”، فدافع عنه بقيمة ما قدّمه، لا بزلّة عابرة.
المسؤول الدعوي لا يبيع الرجل عند أول هبوط، بل يقرأ سبب الهبوط ويعالجه.
أسهم سيادية.. لا تُمسّ إلا وقت الشدة
وهناك رجال هم “الاحتياطي الاستراتيجي” للدعوة: كبار السن، السابقون، الحكماء، أصحاب المواقف، الذين إذا تداعى الصف كانوا هم السدّ الأخير.
هؤلاء كالذهب… ليسوا للتداول اليومي.
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه بهذا المعنى يوم السقيفة… أسهم سيادي رباني، إذا حضر ثبتت السوق كلها.
المسؤول الواعي يعرف قيمة رجاله… لا يستهلك الذهب في شراء الخبز.
قراءة المؤشر.. لا قراءة الأشخاص
البورصة لا تُدار بالانطباع… تُدار بالتحليل.
وكذلك الدعوة: لا يُدار الصف بالارتياح الشخصي، بل بمتابعة المؤشرات:
من الذي بدأ ينعزل؟
من الذي تغيّر محتوى كلامه؟
من الذي يظهر نشاطًا بلا ثبات؟
من الذي طلب تكليفًا ليس من قدره؟
هذه ليست “تجسسًا”… بل فطنة مسؤول يخشى أن يخسر السهم قبل أن ينتبه إليه.
هكذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم والتاريخ حال حنظلة يوم قال: “نافَق حنظلة”…
لم يوبّخه، ولم يتركه… بل أعاد “توازن المؤشر” في قلبه بكلمة واحدة: “ساعة وساعة”.
توقيت الشراء.. وتوقيت البيع
هناك أعمال تحتاج السرعة… وهناك أعمال إن استعجلتها كسرت السهم كله.
مصعب بن عمير في المدينة اشترى “سهم أُسيد بن حضير” في جلسة واحدة…
بينما ظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو أبا جهل سنوات طويلة…
ولم تنزل آية واحدة تأمره بتركه.
بعض الأسهم تُثمر فورا… وبعضها لا معنى لبيعه مهما طال الانخفاض.
صفقة العمر.. رفع السوق وقت الأزمة
لحظات الأزمات تكشف القائد لا تُنشئه.
في غزوة الأحزاب كان السوق الدعوي كله في حالة “انهيار”: خوف، حصار، جوع، ثغرات…
ومع ذلك خرج النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة: “أبشروا يا معشر المسلمين!”
فعادت الثقة، وارتفع المؤشر بإيمان رجل واحد.
القائد الدعوي هو الذي يرفع البورصة بكلمة صادقة، ووجه مطمئن، ونَفَس طويل.
الخلاصة.. كيف تُدار بورصة الدعوة؟
راقب القلوب كما تراقب المؤشرات.
استثمر في الرابحين… ولا تفرّط في المتعبين.
احفظ الذهب البشري للشدائد.
اقرأ التحولات قبل أن تقع.
واملك شجاعة دعم الصفقة… وشجاعة إغلاقها.
الدعوة ليست شركات، ولا الناس أسهمًا حقيقية…
لكن استعارة البورصة تذكّرنا بأن الإدارة الدعوية ليست عشوائية،
وأن فقدان رجل واحد قد يهزّ السوق، وأن احتواء رجل واحد قد يرفع المنحنى كله.