لقد عاش القاضي الفقيه والمربي اللبناني فيصل مولوي حياة العلماء الذين فهموا الدين ونشروه بالقدوة الصالحة، وتولى في رحلته التي امتدت إلى نحو 70 عامًا العديد من المناصب فضلًا عن إسهاماته الدعوية وجهاده ضد المستعمر الفرنسي الغاشم.
ولم تتوقف مسيرة “مولوي” على الجهاد الحركي، بل كانت له إسهامات فكرية تنوعت بين بحوثٍ ومؤلفاتٍ عديدة زخرت بها المكتبة الإسلامية، وساعدت الناس على معرفة شؤون دينهم، فجمع بذلك بين الجهاد بالنفس والفكر.
نشأة فيصل مولوي
وفي مدينة طرابلس شمال لبنان، وُلِدَ الشيخ فيصل أنور رياض مولوي سنة 1940م، لأسرة مسلمة سنية جاهدت لعدم الذوبان في المجتمع أو القبول بالإغراءات الفرنسية، وربّت أبناءها على حُبّ الدين والعمل له، فتعلّق قلب فيصل بذلك من صغره، حيث كان والده الشيخ أنور مولوي آخر شيوخ التكية المولوية بلبنان، وتُوفّي عام 1963م.
التحق فيصل مولوي بمراحل التعليم المختلفة حتى تخرج في كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية، وحصل على إجازة في الحقوق من الجامعة اللبنانية، بكلية الحقوق والعلوم السياسية سنة 1967م.
ولم تتوقف مسيرته عند ذلك، حيث التحق بكلية الشريعة بجامعة دمشق وحصل منها على إجازة سنة 1968م، ثمّ سافر إلى فرنسا والتحق بجامعة السوربون وحصل منها على شهادة الدراسات المعمقة في علوم القانون التي استطاع أن يدمج بينها وبين علوم الشريعة الإسلامية ما أهله لنيل مناصب في القضاء.
وظل عاملًا عالمًا ثائرًا من أجل دينه ووطنه في الكثير من المحافل المحلية والإقليمية حتى توفّاه الله بعد صراع مع المرض يوم الأحد 5 جمادى الآخرة 1432هـ، الموافق 8 مايو 2011م، وصُلّي عليه في المسجد المنصوري الكبير بطرابلس، قبل أن يُواريه الثرى في مدافن باب الرمل بمسقط رأسه طرابلس.
لم يهدأ الشاب الذي تخرج حاملًا العديد من الشهادات الجامعية، حيث عُيّن عام 1968م قاضيًا شرعيًا في لبنان، وتنقّل بين المحاكم الشرعية الابتدائية في راشيا وطرابلس وبيروت، حتى استقر به المقام عام 1988م مستشارًا في المحكمة الشرعية العليا ببيروت وبَقي في هذا المركز حتى استقالته سنة 1996م.
ولجهوده في دعم القضاء، حاز على مرتبة قاضي شرف برتبة مستشار، وذلك بموجب مرسوم جمهوري رقم 5537 تاريخ 23 مايو 2001م.
إسهامات فيصل مولوي الدعوية
ولقد كان للبيئة التي نشأ فيها فيصل مولوي أثرًا عظيمًا في تشكيل شخصيته، حيث المستعمر الغاشم الفرنسي الذي سعى إلى تمزيق لبنان وتفتيت عناصره بين مسلمين ومسيحيين، بل سعى إلى تمزيق المسيحيين لطوائف قبل أن يمزق المسلمين لسُنة وشيعة ودروز وعلويين وغيرهم.
دفعت هذه الأمور الشاب فيصل إلى التمسك بدينه والتعرف إلى الصحبة التي ساعدته على ذلك، أمثال: الشيخ فتحي يكن، والأستاذ إبراهيم المصري، والكاتب محمد علي ضناوي، وحاتم الفوال، وإبراهيم شهاب، وغيرهم من شباب لبنان.
ورغم أن العديد من الطلاب الدارسين في مصر قد حملوا دعوة الإخوان المسلمين إلى بلاد الشام في وقت مبكر، من أمثال الدكتور مصطفى السباعي، والشيخ محمد الحامدي الحموي، وعمر بهاء الأميري، وغيرهم عام 1937م، فإنّ الحكومة اللبنانية حلّت جميع الجمعيات الإسلامية عام 1948م، بسبب أحداث سياسية داخلية ووقوع مصادمات بين الحزب القومي السوري ومنظمة الكتائب اللبنانية.
ولما أنشأ الشيخ محمد عمر الداعوق جماعة عباد الرحمن عام 1950م لتربية الشباب، انضم إليها يكن ومولوي والمصري والتقوا بالمرشد العام الثاني أثناء زيارته سوريا عام 1954م، لكن سرعان ما اختلف الشباب مع الشيخ الداعوق بسبب تجنب الحركة الحديث في السياسة وهموم الوطن فكونوا الجماعة الإسلامية عام 1961م، بموافقة وزارة الداخلية.
واستمرت الجماعة تحت قيادة الدكتور فتحي يكن كأمين عام لها حتى سلم الراية للشيخ فيصل الذي أصبح ثاني أمين عام للجماعة الإسلامية بلبنان في 1992م وظل كذلك حتى 6 ديسمبر 2009م حينما سلم الراية للأستاذ إبراهيم المصري. بل إنه ترشح لانتخابات البرلمان عام 1996م لكنه لم يكن يتقن اللعبة الانتخابية، بالإضافة للفرقة بين حلفائه.
وقضى مولوي نحو خمس سنوات في أوروبا من عام 1980 إلى 1985م، استطاع خلالها أن يُحدث تغييرًا ويترك بصمة واضحة في نفوس الكثيرين، حتى من أبناء الدّول الغربية أنفسهم الذين شهدوا له بدماثة الخلق.
وكان لغيرته على دينه أنّ أسس اتحاد الطلبة المسلمين في فرنسا، ثم اتحاد المنظمات الإسلامية بأوروبا، وأنشأ الكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية، وأصبح مصلحًا وداعية لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا ثم في أوروبا منذ سنة 1986م، ولأهمية التواصل والحوار، ظل على تواصل مع أكثر المراكز الإسلامية في أوروبا حتى وفاته.
واستمرارًا لجهوده في بلاد الغرب، ساهم في تأسيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في بريطانيا في مارس 1997 برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي وشغل هو منصب نائب رئيس المجلس.
وعمل على تأسيس الكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية في “شاتو شينون” بفرنسا، واختير عميدًا لها منذ تأسيسها سنة 1990، وهي كلية للدراسات الشرعية بالمستوى الجامعي، وهي مخصصة للمسلمين الأوروبيين أو المقيمين بصفة دائمة في أوروبا وسائر بلاد الغرب، واستمر في هذا المنصب حتى سنة 1994.
وأصدر الشيخ فيصل سلسلة كبيرة من المؤلفات في فقه الواقع لقيت إقبالًا بين المسلمين في الغرب، لكونه يكتب في أشد ما يحتاج إليه الناس، وكان رجلًا عاقلًا وحكيمًا ولا يعطي أي أمر أكثر مما يستحق. واختارته الندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض أثناء إقامته في فرنسا أحسن داعية إسلامي في أوروبا، ومنحته جائزة تقديرية.
لكن نشاطات الشيخ فيصل أزعجت السلطات الفرنسية، وعندما غادر البلاد بنية العودة أوصت باريس سفاراتها بالخارج بعدم منحه تأشيرة الدخول مجددًا، لكن الدنيا لم تضق يومًا في وجهه، فكان يذهب إلى إنجلترا وألمانيا ويقصده المسلمون الفرنسيون هناك لسؤاله عن شؤون دينهم ودنياهم.
جمع الشيخ مولوي في تعامله مع الغرب ملكات الفقيه الأصولي والباحث الأكاديمي والداعية النشيط، والمفكر الألمعي، حتى أفرزت فكرًا خاصًا بالحالة الأوروبية التي يجب على كل مسلم حسن التعامل معها، حتى إنه اعتبر أنّ المسلمين في البلاد الغربية ليسوا في دار حرب لكنهم موجودين فيها طبقا لعقد أمان فكان كتابه “المسلم مواطنًا في أوروبا”.
مولوي ثائرا ومجاهدا
عاصر الشيخ فيصل مولوي الكثير من الأحداث في وطنه العربي والإسلامي مثل نكبة فلسطين، والانقلابات والثورات التي شهدتها المنطقة، والحروب بين الغرب والبلاد العربية، والصراعات المسلحة في وطنه لبنان، ونكسة 1967م، واجتياح الصهاينة جنوب لبنان، والحرب الأهلية اللبنانية وغيرها، فانعكس ذلك على حياته ومواقفه التي دفعته للمشاركة فيها.
وعمل الشيخ مولوي لقضية بلاده، فكان الداعية المعتدل الوسطي الذي نادى بإنهاء الاقتتال بين اللبنانيين في الحرب الأهلية التي اجتاحت البلاد عام 1979م.
وحينما اجتاح الصهاينة جنوب لبنان عام 1982م رفض مولوي البقاء على كرسي القضاء ومتابعة تطورات الحرب عبر الإعلام، لكنه انخرط في المقاومة ونشط في التعبئة وتموين جبهات القتال.
لم يقتصر أداء الشيخ مولوي في المقاومة على الطرف السّني، يقول عنه علي فضل الله- وهو نجل المرجع الشيعي محمد حسين فضل الله-: “كنا نَجِد الشيخ فيصل- رحمه الله- سندا قويًّا للمقاومة في لبنان، بل كان له دور في صناعة بعض مواقعها”.
ولم يترك مولوي أي مناسبة إلا وتكلم فيها عن معاناة الشعب الفلسطيني وسبل دعمه والوقوف بجانبه، وعاب على الحكام العرب والمسلمين خذلانهم القضية الفلسطينية والانبطاح للصهاينة، وكان دائما ما يطلق الحملات لإغاثة الشعب الفلسطيني.
يقول منير شفيق- المنسق العام للمؤتمر القومي الإسلامي- إن مولوي هو من أهم الشخصيات الإسلامية التي دعمت القضية الفلسطينية، ووقفت بقوة إلى جانب المقاومة.
وحظى مولوي بمكانة لوسطيته بين جميع الطوائف حتى إن الوزير المسيحي “جان عبيد” يؤكد ذلك بقوله: “كنت أشعر بأنه أقرب إليّ بكثير من المرجعيات في مذهبي أو طائفتي، وأحيانا أكون أقرب إليه من مرجعيات في مذهبه أو طائفته وحتى في دينه.. كان محترِما ومحترَما”.
تلك المكانة التي علق عليها المرشد العام للإخوان المسلمين الراحل مهدي عاكف بالقول: إنها تعكس الذكاء والاستثناء، فليس سهلًا أن يعيش الإنسان في بيئة طائفية مسلحة مثل لبنان ويحتفظ بمكانة بين الجميع.
نشاط فكري
وكتب الشيخ فيصل مولوي بحوثًا ومؤلفات عديدة زخرت بها المكتبة الإسلامية، وساعدت الكثيرين على معرفة شؤون دينهم، ومن هذه المؤلفات ما يخص علاقة المسلم بغير المسلم التي أوضحها من خلال كتاب (الله وسنة نبيه)، وزاد عن ذلك في الكتابة عن الاقتصاد والأوراق المالية، ومن هذه المؤلفات:
- تيسير فقه العبادات.
- دراسات حول الربا والمصارف والبنوك.
- موقف الإسلام من الرق.
- أحكام المواريث، دراسة مقارنة.
- الأسس الشرعية للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين.
- نظام التأمين وموقف الشريعة منه.
- نبوة آدم.
- المرأة في الإسلام.
- حكم الدواء إذا دخل فيه الكحول.
- السلام على أهل الكتاب.
- المفاهيم الأساسية للدعوة الإسلامية في بلاد الغرب.
- سلسلة مبادئ التربية الإسلامية للمرحلة الابتدائية (خمس أجزاء).
- سلسلة التربية الإسلامية للمرحلة المتوسطة- (أربع أجزاء).
- الجزء الأول من كتاب التربية الإسلامية للمرحلة الثانوية.
- أثر انهيار قيمة الأوراق النقدية.
- الحج والعمرة.
إنّ فيصل مولوي عالم مجاهد اتسم بالوسطية والاعتدال حتى أحبه الجميع، فرسم رؤية الجماعة الإسلامية واضحة حينما تولى مسؤولية الأمين العام، حيث تلخّصت في نشر وعي إسلامي حقيقي بقضايا الإسلام وقضايا الأمة.
ولقد رأى أن الزواج من الكتابيات جائز في الأصل إذا كنّ محصنات، وإن بلاد الغرب ديار دعوة، ويجب احترام قوانينها ما لم تتعارض مع أحكام الإسلام وأن الموازنة مطلوبة بين الإقامة في الغرب والمحافظة على الأسرة والأبناء.
المصادر والمراجع:
- موقع المسلم: الشيخ فيصل المولوي في ذمة الله: 5 جمادى الثانية 1432هـ.
- موقع إخوان ويكي: تاريخ الإخوان المسلمين في لبنان، 22 أبريل 2020.
- فادي ضو: الدين والديمقراطية في أوروبا والعالم العربي، دار الفارابي، بيروت، لبنان، طـ1، 2017، صـ 160 وما بعدها.
- يوسف القرضاوي: الشيخ فيصل مولوي.. العالم الباحث الداعية المربي القائد، 14 مايو 2012.
- الجزيرة الوثائقية: العمامة البيضاء.. فيصل مولوي الذي أحبه الشيعة والمسيحيون، 8 مايو 2019.
- أبو آية: السيرة الذاتية لسماحة الشيخ فيصل مولوي، 4 مايو 2008.
- موقع اعتدال: الشيخ فيصل مولوي القاضي والداعية: 31 ديسمبر 2018.