لا شكّ أن توظيف الطاقات البشرية أحد أهم آليَّات التعاون على البرِّ والتقوى، واستغلال الوقت في الدعوة إلى الله- عز وجل-، لذا كانت هذه المهارة أبرز ما يُميز الرسل والأنبياء الذين هُم خيرة الناس، وسفراء المولى جل وعلا- إلى الأرض، كما كانت مهمة خلفاء الرسل وورثتهم من العلماء العالمين والربانيين الصادقين والمربين الفضلاء.
والدعوة إلى الله بحاجةٍ إلى داعية رحَّالة يحمل دعوته ورسالته فوق ظهره؛ وشعاره {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} (القصص: من الآية 20)، كما تحتاج إلى رجلٍ له من ميراث يحيى- عليه السلام- نصيب؛ فقد أمره الله بقوله: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (مريم: من الآية 12)، وهي بحاجةٍ إلى داعيةٍ له في هدهد سليمان العبرة والمثل، في تحرُّكه وانطلاقه وذاتيته وإيجابيته.
أهمية توظيف الطاقات في الدعوة
وعلى الداعية الناجح أن يُتقن مهارة توظيف الطاقات البشرية، وأن يكون له معالم أساسية تتماشى مع ما توصَّل إليه العالم من تطوّر وتقدُّم؛ فلا يترك وسيلةً لعرض دعوته وكسب الأنصار لها إلا استعملها، وهو يستفيد من كل ما أتيح له من وسائل حديثة ومن مستجدات العصر في الدعوة إلى الله.
وتعد هذه المهارة من أهم المهارات التي تُحقِّق هداية الغير، فعن سَهل بن سعد الساعدي- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “فواللهِ لَأنْ يُهدى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَم”، (البخاري ومسلم).
ويترتب عليها اغتنام الأجر والثواب من الله، فعن جرير بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً فعُمل بها بعده، كُتب له مثلُ أجر من عمل بها، ولا يَنقُصُ من أُجورهم شيءٌ، ومن سنَّ في الإسلام سنَّةً سيِّئةً فعُمل بها بعده، كُتب عليه مثلُ وِزر مَن عمل بها، ولا يَنقُصُ من أوزارهم شيءٌ”، (مسلم).
لذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم-، يُطبق هذه المهارة في دعوته، لأنها تحقق استثمار الوقت والجهد في المشاركة الدعويَّة.
وسائل توظيف الطاقات البشرية في الدعوة
ولا بُد من أن ينتبه الداعية إلى وسائل توظيف الطاقات البشرية في الدعوة إلى الله- تبارك وتعالى- ومن أبرزها:
1- وسائل الدعوة المسجدية: وتشمل الخطب والدروس، والمحاضرات والندوات، والمواعظ والرقائق، والخواطر والمؤتمرات، والمسابقات وكل ما يندرج تحت المسجد من وسائل وأنشطة دعوية، فالمسجد ما زال أحد أهم المناشط الدعوية الإصلاحية، ذي الأذرع المتعددة: الدينية والاجتماعية والإنسانية والعاطفية، فضلًا عن كونه أحد أهمّ الوسائل في نشر الخير والحق، وتعزيز الأخلاق والفضائل والتزكية والتربية.
2- وسائل الدعوة الخدمية: وهي من أقوى الوسائل تأثيرًا في الناس؛ لذلك فإن شعار الداعية الناجح: “نحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب”، والداعية الناجح لا ينسى أن الدعوة الخدمية من أوجب الواجبات وأفضل العبادات؛ لأنها عبادة متعدية بالنفع للغير، وهي الأثر الباقي للداعية بعد موته.
3- وسائل الدعوة المرئية والمسموعة والمقروءة: وتندرج تحتها وسائل الإعلام الحديثة كلها؛ من صحافةٍ وإذاعةٍ وتلفاز وقنوات فضائية وأجهزة حاسوب وشبكة معلومات، وذلك بالإضافة إلى الأساليب المعروفة والمعمول بها قديمًا وحديثًا منذ عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- من الخطابة والتعليم والكتابة وإرسال الرسائل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها.
4- وسائل الدعوة بالجوارح: وهي وسائل الداعية المتميز؛ فالنظرة الحانية دعوة، واللمسة الرقيقة دعوة، والبسمة المشرقة دعوة، والكلمة الطيبة دعوة فهي لا تزال تتردّد في أذن سامعها، فتتلذّذ بها الآذان، وتنشرح لها الصّدور، وتبتهج لها القلوب، والاستماع الجيد للآخرين دعوة، ودعاء القلب بظهر الغيب دعوة.
طرق تبليغ الدعوة للناس كافة
وكما أن الدعاة إلى الله مطالبون بإتقان مهارة توظيف الطاقات البشرية، فإنهم- أيضًا- مطالبون بأن يقدِّموا دعوتهم للناس كافةً على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأوطانهم. وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعرض دعوته على الناس كافة، ويراسل الملوك ولم يترك أحدًا إلا وبلَّغه رسالة الله، وهاجر إلى الطائف ثم إلى المدينة ليبلِّغ رسالة الله، والداعية حتى يحقق ذلك لا بد له من أمور، منها:
1- الانطلاقة المزدوجة: فالداعية لا يحقق الانتشار لدعوته إلا من خلال اتصاله المتعدد والمزدوج؛ فهو يبلِّغ دعوته للعامة من الناس والملأ في آنٍ واحد، ويتوجَّه بدعوته إلى الغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والمؤيد والمعارض، كما أنه يسير بدعوته على محورَين اثنين: الدعوة الجماهيرية العامة، والدعوة الفردية الخاصة؛ فهي انطلاقة مزدوجة.
2- مسافات منتصف الطريق: فالداعية إلى الله لا يغلق بابًا ولا يسد طريقًا، فإن عجز عن إتمام دعوته فلا أقل من أن يُقيم جسورًا ممتدةً مع المخالفين، ويقطع معهم مسافات منتصف الطريق؛ وذلك بأن تكون هناك نقاط التقاء يتفق عليها الداعية مع مَن يدعوهم فيما يشبه “دائرة الثوابت والمتفق عليه”، وشعاره في ذلك “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه”.
3- مراعاة أصناف الناس: فالداعية يجد الناس أمامه أصنافًا عدة؛ منهم المؤمن بدعوته ورسالته، ومنهم المتحامل عليها، ومنهم المتردد في الإقبال عليها لما يقال عنها من شبهات، ومنهم النفعي الذي ينتظر مغنمًا، ولكل صنف من هؤلاء جهد ودعوة خاصة، ولكن يبقى الحرص من الداعية على أن يبلغ دعوته إلى هؤلاء جميعًا.
خطوات عملية لنجاح الداعية
ولا تتوقف مهارة توظيف الطاقات البشرية في الدعوة على الوسائل، إذ لا بد من السير وفق خطوات عملية لنجاح رسالة الداعية، ومنها:
1- التناغم أو التشابه والمشاركة في الخبرات والصور لدى كلٍّ من المرسل (الداعية) والمستقبِل (الجمهور) بما يكفل فهْم الرموز ومعرفتها والاستجابة لها.
2- استثارة انتباه المستقبِل، واستعمال رموز مفهومة.
3- ربط الرسالة الإعلامية بحاجات المستقبل مع اقتراح حلول مشبعة لها، بشرط ألا تتنافى مع العادات والتقاليد والقيم والمعايير الاجتماعية.
4- مراعاة الحالة النفسية للمستقبِل، ومراعاة الدقة في اختيار الوقت المناسب والمكان الملائم والوسيلة المجدية حسب نوع وقدرة المستقبِل.
5- الاهتمام باستعمال الألفاظ وتقديم الصور التي يستطيع المستقبِل فهْمها والاستجابة لها حسب إطاره المرجعي وخلفيته الاجتماعية والاقتصادية.
6- التخلص من عوامل التشويش التي تقف في سبيل التفاهم بين المرسل والمستقبِل (ومن أمثلة ذلك صعوبة فهْم رسالة الداعية الإعلامية أو سرعة تقديمها أو انعدام وسيلة نقلها.. إلخ).
مقترحات مهمة
أولاً: عقد دورات للدعاة عن استخدام التقنيات الحديثة، يتم من خلالها:
- تدريب الداعية على المهارات والوسائل الدعوية خاصةً الحديثة منها، وكذلك استخدام مختلف التقنيات لتحقيق هدفه.
- شرح مسائل تأسيسية لا بُد أن يتنبه لها الداعية وأن يمتلئ بها قلبه، مثل الإخلاص والصبر والاحتساب.
- فهْم الواقع الذي يعيش فيه الداعية وطبيعة الناس الذين يدعوهم؛ حتى يكون خطابه ملائمًا لهم.
- توفير ثقافة جيدة لدى الداعية ودراية بما يحدث في هذا العالم.
ثانيًا: التجديد في وسائل وأساليب الدورات من خلال آليات مقترحة، مثل:
- إعداد مجموعات عمل في الدورة الواحدة، فعلى سبيل المثال تُوزّع بطاقات تحوي موقفًا تخيُّليًّا على كل مجموعة، ويناقش الأسلوب الأمثل للدعوة في مثل هذا الموقف، وحبذا لو كانت هناك إمكانية لتمثيل هذا الموقف بشكلٍ مبسط.
- تدريب الدعاة على أن تكون لديهم خطة عمل دعوية واضحة في حياتهم، وألا يكتفوا برد الأفعال على المواقف التي تحدث أمامهم.
- تنظيم دورات تقنية مرافقة لهذه الدورة تهتم بتطوير مهارات الدعاة في استعمال التقنيات الحديثة في الدعوة، مثل الكمبيوتر، الإنترنت، الجرافيك، التصميم، وغيرها.
- استثمار مواهب ومهن المتدربين في الدعوة إلى الله ومساعدتهم في ذلك.
- يمكن اعتماد آلية “الرسائل المختصرة”- إضافة إلى قراءة الكتب- وهي رسائل تحتوي تلخيصًا لأهم النقاط التي يراد لفت نظر المتدرِّب إليها في الكتب المرشَّحة للقراءة.
- إعداد حلقات تناقش من خلالها قضايا مجتمعية وعالمية ودور الدعاة في معالجتها والتطرق إليها، وبخاصةٍ تلك القضايا التي لم يطرُق بابها إلا القليل؛ خوفًا أو حرجًا أو تناسيًا.
- تنظيم ندوات يحضرها مجموعة من الدعاة العاملين أو المتخصصين في أحد العلوم، ويتحدثون عن ما يهمُّ المتدربين ويعرضون تجاربهم الدعوية.
إن مهارة توظيف الطاقات البشرية في المشاركة الدعوية لا غنى عنها في إبلاغ الدعوة إلى الناس كافة بكل الطرق والوسائل المباحة، ومن خلالها يستطيع الداعية أن يُحسن في الدعوة إلى الله، ويفيد دعوته ووطنه وأمته.
المصادر والمراجع:
- المؤسسة المسجدية وأدوارها
- الدعوة إلى الله ووسائل الإعلام
- الكلمة الطيبة وأثرها في الدعوة إلى الله
- أنواع الدعوة إلى الله تعالى
- نتعاون فيما اتفقنا عليه