الرجالُ في كل عصرٍ لهم علامات وآثار، والمخلصون منهم يتركون أثرًا واضحًا في عُموم الناس، ويسير حبُّهم في الوجدان، ومنهم إبراهيم الطه الذي كان أحد أبرز المُربّين، الذين أدّوا دورًا كبيرًا، وتركوا آثارًا واضحة في أجيال من الشباب، فأصبح يُشار له بالبنان، وتُعقد عليه الأنامل، علمًا وفضلًا وتعليمًا وإرشادًا.
ورغم رحيل “الطه” في عام 2009م، لكنه ترك أثرًا صالحًا، حيث إن المؤمن كالغيث أينما حل نفع بعلمه وخُلُقه، فقد رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا؛ اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا”.
نشأة إبراهيم الطه
في مدينة دير الزور شرق سورية، وُلد إبراهيم أحمد الطه أبو صفوان عام 1944م، والتحق منذ صغره بمراحل التعليم المختلفة واستمر فيه حتى كان من أوائل الخريجين في كلية الشريعة بدمشق، التي زادته مهارة إلى ما كان يتحلى به من صفات.
بعد تخرج إبراهيم الطه من كلية الشريعة عمل مدرسًا لمادة التربية الدينية بثانوية الفرات بدير الزور حتى استطاع أن يُحولها لمادة تتحرك على الأرض بأخلاقه وترجمته العملية لمعانيها على نفسه قبل الآخرين.
وقد كان يُسخّر دروسه في أوساط الشباب، للهدف الذي عاش من أجله، وأخذ عليه جُل اهتمامه، وكانت دروسه في الثانوية، عبارة عن منتديات لبث الثقافة الإسلامية في صفوف الشباب، ولتَربيتهم على مبادئ الإسلام.
يقول إبراهيم الخزام: إن أحد الطلاب الشيوعيين الذين دَرّس لهم قال إن “الطه” صاحب خُلُق رفيع لا مثيل له في مدرسة ثانوية الفرات، فكان لا يدخل غرفة الصف إلا والابتسامة مُشرقة في وجهه، وكنتُ ذا أفكار يسارية شيوعية وقرأت كتب سيغموند فرويد وماركس وتأثرت بها، لكنني أحببت هذا المعلّم الذي دَرّس التربية الإسلامية، علماً بأنَّ هذه المادة ليست أساسية في الصف الثالث الثانوي، وكثير من الطلبة لا يحضرون حصص الديانة، لكن الطلاب يحرصون على حضور حصص الأستاذ إبراهيم.
ويضيف في موقف آخر: دُعي إلى مؤتمر في دمشق (في الستينيات)، فقدم أحد منظمي المؤتمر الأستاذ إبراهيم لإلقاء كلمة، فتقدم- وهو حليق اللحية والشارب- فامتَعض العلماء الحضور ممن قدمه، وقالوا: أما وجدوا أحدًا من علماء سوريا حتى يُقدموا هذا الرجل الحليق؟، لكنّ أبا صفوان أزال الحُجب التي كانت تُغطي أبصار البعض، فقد سَحَرهم ببيانه، وجذب ألبابهم بفصاحته وقوة حجته، حتى قال أحد الحضور- بعد أن انتهى الأستاذ إبراهيم- من كلمته: قام جميع الحضور وحَيَّاه العلماء، وقال أحدهم له: عندما تقدّمتَ يا أستاذ تضايقت من منظرك، ولكنك أجدتَ، ولو تقدَّمَ غيرك ما استطاع أن يأتي بما تكلمت به.
ويقول الشيخ محمد خلف الكواكة: كان أستاذنا ومربينا حريصًا على تعليمنا الصلاة، فعندما كنا بالصف الثالث الابتدائي كان- رحمه الله- يأخذنا إلى المسجد ويعلمنا الوضوء وكيفية الصلاة، لقد كان محترمًا ومحبوبًا من الجميع.
إبراهيم الطه وسط الحركة الإسلامية
زاد من خبرة الأستاذ إبراهيم الطه التربوية التحاقه بجماعة الإخوان المسلمين التي تعرف إلى كثير من عُلمائها وأصبح أحد مربيها المميزين، ومن الخطباء البارزين الذين يهزّون أعواد المنابر، ولهم صولات وجولات في هذا الميدان، وكان تأثيره غير عادي في سامعيه، إذ إن الرجل كان يتمتع بموهبة الإلقاء النادر، فصاحة اللسان، وإتقان فن الخطابة، إضافة إلى علمه الغزير، وفقهه الدقيق، وثقافته الواسعة.
يقول الدكتور عامر البو سلامة- كاتب سوري-: حدثنا مَن عَاصره في شبابه، وَوَصفوه بالنّاشط الذي لا يعرف الهدوء، والعامل الذي لا يتطرق اليأس إلى نفسه، وهو يرى واقع الأمة، ويلاحظ المحيط الذي يعيش فيه، فيندفع من أجل أمته، لعله يؤدي الذي عليه من واجب شرعي، في إطار الدعوة إلى الله، والعمل للإسلام، على أمل استئناف الحياة على أساس الإسلام، وبناء الحياة على ضوء تعاليم الشريعة الإسلامية.
من هنا، التحق في صفوف العاملين في الحركة الإسلامية، مع الرواد الأول الذين حملوا هذه الأمانة، مع الدكتور حسن هويدي-رحمه الله- والأستاذ الرباني أمين الشاكر- رحمه الله- والدكتور عز الدين جوالة- رحمه الله- وغير هؤلاء كثير، منهم مَن قَضَى نحبه، ومنهم من ينتظر.
وكان من ثمار هذا الجهد، والعمل الجماعي، أن وُجِد جيل من العاملين للإسلام، هذا الجيل الذي فقه الدعوة، وتحرك في إطار البحث عن مجد الأمة، وتكون على أساس التصور الحركي، الذي يخطط لاستعادة المكانة الحضارية لأمة الإسلام، ولا شك أن الأستاذ إبراهيم- رحمه الله- واحد من هؤلاء البناة، في المحيط الذي نشأ فيه، وبقي في إطاره، إلى أن توفاه الله تعالى.
أخلاق الداعية الرباني
تميز الأستاذ إبراهيم الطه بالكثير من أخلاق الداعية الرباني التي جعلت الناس يقبلون عليه، مثل:
- القدوة الحسنة: إذ كان من النماذج العملية التي تُؤثر في الناس بالحال قبل المقال، وقالوا قديما: “حال رجل في ألف رجل، خير من قول ألف رجل في رجل”، فالقُدوة ضرورة حتمية للداعية إلى الله تعالى، وهي المدخل الذي لا بُد منه، لنجاح الداعية، فالإسلام ليس فلسفة تُلاك، أو أفكار تُردد، وثقافة تُنشر فقط، لكنه علم وعمل، وثقافة وسلوك، ومنهج شامل يُنظم شؤون الحياة كلها.
- حسن الخلق: والأستاذ إبراهيم-رحمه الله- كان على جانب كبير من حسن الخلق، وطيب المعشر، وحلو الكلام، وتلك الابتسامة التي ما كانت تُفارق محياه الجميل، يلقى الناس بوجه طلق، ولا يسمعون منه إلا الكلمة الطيبة، والتعامل الحسن، هكذا كان مع طلابه، وبهذه الصورة كان يعامل زملاءه من المدرسين، وهو كذلك مع الصغير والكبير. وحسن الخلق هذا أكسبه حب جميع الناس واحترامهم، حتى صار محل اتفاق لدى فئات المجتمع، حتى أولئك الذين كانوا يعادون التيار الإسلامي، كانوا يحرجون منه، لأنه بأخلاقه فرض احترامه على كل مَن عَاشره، وكان قريبًا منه، وهكذا ينبغي أن يكون الداعية إلى الله، ألفًا مألوفًا، قريبًا من قلوب الناس، محبوبًا عندهم.
- الصبر والاحتساب: فقد كان على جانب كبير من الصبر على أخلاق الناس، وكان يختلف عن كثير من الدعاة الذين من حوله، إذ كثير منهم لا يفوت موقفًا، وربما اعتبروا هذا من الحزم، وجعلوه من وسائل القوة للداعية.
- يقول البو سلامة: درسنا عدة سنوات، فما رأيته تكلم بكلمة قاسية مع أحد من الطلاب، ولا ضرب أحدًا، ولا طرد طالبًا من قاعة الدّراسة، ولا نادى مديرًا ولا موجهًا، ليعاقب طالبًا من الطلاب، رغم أنّ في الطلاب سفهاء، وفيهم من يُسيء الأدب، إلا أن الأستاذ- رحمه الله- كان الصبر رائده في مواجهة الموقف، وأحيانًا يسمع الكلمة النابية وكأنه لم يسمع شيئًا، يحذر وينبه على طريقة (ما بال أقوام)، فلا يواجه أحدا بما يكرهه، ولا يجرح أحدا حتى لو كان يستحق ذلك.
- ويضيف: كُنا نعجب من صبره وتحمله، وربما تشاجرنا مع الطلاب الذين يُسيئون للأستاذ إبراهيم، غِيرة على كرامته، وكان إذا سمع بهذا يمنعنا، ويقول: يا أبنائي أنا لست عاجزًا عن الرّد، وأستطيع أن أطرد الطالب وأفصِله، لكني لن أفعل هذا، وأرجو ألا تتدخلوا بالأمر، ودعوا الأمور لي.
- نكران الذات: كان يترفع عن الأمور الشخصية، من أجل المصلحة العامة، لأن مَن وقف عند أموره الذاتية وغلبها على المصلحة العامة، لا يُمكن أن يكون من أهل الدعوة، ولا يُمكن أن يكون له شأن في بناء الحياة على أساس الإسلام؛ ذلك أنه يعمل لنفسه، فيدور في فلكها، يفرح لفرحها ويحزن لحزنها، والدنيا بخير إذا كان هو بخير، والعالم كلّه في ويل وثبور، إذا مس بأي سوء.
صفات المربي
اتصف الأستاذ إبراهيم الطه بالكثير من صفات المربين، فكان من العلماء النادرين في سعة علمهم، وتنوع ثقافتهم، كما أنه يمتلك خاصية الإفهام، وجودة إيصال المعلومة، وصاحب أسلوب جذاب، رشيق العبارة سهل المعلومة، إذا تكلّم شنف الآذان، وشدّ السامعين، إذا ألقى دروسه على طلابه في الثانوية؛ تجد الطلاب يستمعون إليه بكلهم، ويشدهم حديثه شدًّا غير عادي، حتى لو ألقيت إبرة سُمع صوتها، لأنّ كل السامعين مشغولون بجمال ما يستمعون إليه، هذا من جانب، ولأنّ أسلوب وعظ الأستاذ إبراهيم- رحمه الله- كان يخلع القلوب، من جانب آخر.
ولم يكن الأستاذ إبراهيم يقتصر على قاعة الدّرس، في التعليم والنصح والفتوى، بل كان يستثمر علاقته الطيبة بالناس، لينصح ويرشد ويوجه، بحكمته المعهودة، ولباقته المعروفة، وكان يسخر حب الناس له، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ديدنه يعرفه القاصي والداني.
وكان يستغل بعض المناسبات ليؤدي واجبه الدعوي، فلمّا تُوفي الأستاذ خالد غدير- رحمه الله- وكان الخبر مفاجئاً للناس، ومدهشًا لطلاب ثانوية الفرات، فما كان من الأستاذ إبراهيم إلا أن أخذ (الميكروفون) في طابور الصباح، وألقى كلمة ترحم فيها على الأستاذ خالد، ودعا المدرسين والطلاب إلى الاتعاظ بالموت، والتوبة والعودة إلى الله، وكانت كلمة مؤثرة، خشعت لها القلوب، وذرفت منها الدموع.
ولم يكن الأستاذ بعيدًا عن الواقع، بل إنه من نوادر الفاهمين للواقع، والعارفين للملابسات التي كانت تحيط بالناس، وكان كثيرًا ما يتابع الأمور أولاً بأول، فكان يدق على الوتر الحساس، ليؤدي واجبه في إطار الدعوة والعمل الإسلامي، فيضع النقاط على الحروف، ويعالج المشكلات بأسلوبه المعهود، ومن ضمن الأمور التي يتابعها، شباب الحركة الإسلامية من الطلاب، فيخصّهم برعايته، ويحثهم على الثبات، ويشجعهم على العمل الدعوي، ومن وقع في مشكلة لا يتركه إلا بعد أن يحلها له، خصوصًا وأن الشباب الملتزم كان يعاني من بعض الحاقدين؛ وكان الأستاذ يستثمر علاقاته الطيبة، وجاهه العريض، لخدمة إخوانه من الطلبة الدعاة.
وقد وصفه أحد الشعراء بقوله:
كان في الناس مشهورًا ببسمته
وكان في ساحة التعليم كالعَلَمِ
رُحماك ربي بمن كانت بشاشتُه
للناس طرًّا من الأعراب والعجمِ
رُحماك ربي بمن قد زدته خلقًا
وزاد عن غيره باللطف والشيمِ
رحيله
يقال إن الأستاذ إبراهيم الطه قد تُوفي في حادثة، حينما تعطّلت به وسيلة مواصلات فوق سكة حديد القطار الذي أطاح بها، وكان ذلك في عام 2009م؛ فرحمة الله على المعلم المربي.
المصادر والمراجع:
- عامر البو سلامة: الأستاذ إِبْراهيم الطه…. العالم المربي، 13 يوليو 2019،
- من أعلام دير الزور: من الذاكرة الجميلة، 3 فبراير 2017،