تنشأ الأُسر على قواعد ربانية من المودة والرحمة والسكن، وفي المقابل يُمكن أن يهدمها نبش الأسرار والشك والغيرة وغيرها من الأسباب المدمرة. فالزواج يُمثل نقطة تلاقي قلبين وروحين وجسدين عاشا متفرقين ثمّ قدر لهما الله سبحانه أن يلتقيا في حياة واحدة ومصير واحد.
ورغم الاختلافات الطبيعية بين الزوجين في أشياء كثيرة، فالزواج ينصهر على صخرته كثير من الأمور الخلافية وتذوب لتصنع بيتا تحيطه المودة، يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الروم:21].
ومع ذلك لا نختلف إذ قلنا أن بعض الأمور قد تعكر صفو هذه الأسرة، بل قد تدمرها وتهدم أركانها، إذا فشل الطرفان في التلاقي على قواسم مشتركة، ومنها طبيعة حياة كل فرد منهما قبل الزواج. فالحياة التي تسبق لقاء الزوجين هي حياة خاصة بكل فرد فيهما، ولا يحق لأي منهما نبش الماضي.
مفهوم نبش الأسرار
يأتي مفهوم نبش الأسرار في اللغة من كلمة “السِّرُّ” التي تعني التكتم، والجمع أَسرار، وأَسَرَّ الشيء: كتمه. ويُقال: السر ما يُحاول المرء كتمانه من قول أو فعل، وهو خلاف الإعلان “لم يعد هذا الأمر سِرًّا- حتى قيل صُدور الأحرار قبور الأسرار- {وَاللهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ} [محمد:26]، {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7].
فالسر في اللغة يُؤخذ من مادة (س ر ر) التي تُشير إلى إخفاء الشيء؛ وكأن اللغة العربية قد احتاطت لاحتمال ظهور الأسرار وطبيعتها، فعدّت السر من ألفاظ الأضداد التي يمكن أن تستخدم في المعنى وعكسه، فيمكن أن يطلق السر على الإعلان – أيضًا- مثلما جاء في قول الله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ)، أي: أظهروا الندامة.
ويرى الرّاغب الأصفهاني، أن السر يعبِّر عن الحديث المكتّم في النّفس. وعند الكفوي: “ما يسرُّه المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها”. أما مجمع الفقه الإسلامي فقد اعتبر السر كل: “ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتما إياه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان إذا كان العُرف يقضي بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس”(1).
أسباب نبش الأسرار
الماضي بكل ما فيه يظل جزءا لا يتجزأ من دواخلنا، ويظل ذكريات وسحائب طيف قد تجول في الوجدان أحيانا. وكثير من هذه الأسرار قد سترها الله بحلوها ومرها، بطاعتها أو معصيتها، ولا يحق لأحد نبش الأسرار لأن الماضي بمثابة مقبرة أسرارنا الدفينة، ولا نسمح لأحد أن يتجاوز إشارة المرور إليه. وتزداد أهمية هذا الأمر بين الأزواج فلا يحاول أحد الطرفين أن ينبش في ماضي قرينه.
بل إن الأمر يزداد خطرًا إذا كانت بين علاقات الناس جميعًا، فلا يحق لأحد أن ينبش في ماضي الآخرين، إلا أن يكون من الفاسدين والمفسدين ولا يُرجى الخير منه، فالإسلام أجاز تعرية حقيقته لربما يرتدع.
ولو وقفنا على الأسباب التي تدفع أحد الزوجين أو كلاهما إلى النبش في أسرار ماضي قرينه سيأتي على رأسها الشك الذي ربما يكون من صنع الخيال وحده، وإذا تحكم الخيال السوداوي في شيءٍ أفسده وألغى حكم العقل وترك المجال للتصرفات الرعناء. وربما يتولد الشك بخطأ من أحد الزوجين دون قصد منه لكنه يدفع الطرف الأخر إلى الشك، ومن ثمّ وضع الإسلام القاعدة الربانية، فيقول الله – عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات:12].
وأسباب نبش الماضي، الأخطاء التي يقع فيها الأزواج من التباهي بالحديث عن مغامراتهم وماضيهم أمام بعضهم البعض، أو أمام الآخرين ما يُولّد رغبة في البحث ونبش الماضي. وفي ذلك يقول الروائي الروسي ليون تولستوي بعد أن وقع في هذه المشكلة: “كانت تلك الذكريات أشبه بفتيلة وضعتُها بنفسي في ثنايا حياتنا الزوجية، فقد اشتعلت غيرة زوجتي دون مبرِّر، وبدرجة أحالت حياتنا الحلوة الصافية إلى جحيم متأجج”.
وتدفع الغيرة الشديدة من الزوج أو الزوجة إلى عدم الثقة بالنفس والإحساس بالدونية تجاه الطرف الذي ارتبط به، ما قد يسبب له هواجس وخيالات لا صحة لها.
ومن الأسباب – أيضا- الكذب والخداع من أحد الطرفين ما يدفع الطرف الآخر إلى عدم تصديق شريك حياته، بل ونبش أسراره للتعرف إلى ماضيه” (2).
خطورته على كيان الأسرة
أصل الحياة الزوجية المودة والرحمة والسكينة، ولا يجوز للزوجين نبش الأسرار والشك والتجسس وسوء الظن في الآخر دون أدلة. وقد أكدت العديد من الدراسات والأبحاث أن نبش الماضي من أبرز أسباب تدمير الحياة الزوجية، فبعض الأزواج قد يكون لهم علاقات قبل الزواج، والخوض فيها ـ مهما كانت الأسباب – قد يكون وسيلة فاعلة في القضاء على الحياة الأسرية، ومهما كانت بساطة هذه العلاقات فإنَّها قد تسبب كوارث إذا استدعيت إلى الحاضر” (3).
وإفشاء السر يُحوّل الحياة من كونها سكن ومودة إلى جحيم وصراع بين الأزواج، ما يُؤثر على الصحة العامة لهما، كما يؤثر على أعمالهم وتفكيرهم، بل قد يصيبهم بكثير من الإحباط واليأس والاكتئاب، وربما يصل الحال إلى هدم الأسرة بالانفصال.
أما تأثيره على الأطفال، فهو يُولد لديهم الصراع والارتياب والشك، لأنهم جزء من أركان الأسرة وما يجرى فيها يؤثر عليهم بالإيجاب أو السلب وتزداد عندهم الشعورية بعدم الأمان أو الاستقرار والخوف من المجهول إذا انفصل الأب عن الأم، إضافة إلى عدد من المشكلات منها:
- زيادة العدوانية وصعوبة الحفاظ على علاقات صحية مع المحيطين به.
- ضعف التحصيل الدراسي بسبب الشتات الذي يعيشون فيه وسط أسرة تعتريها الخلافات بين الأب والأم.
- الإصابة بحالة نفسية شديدة ونوبات من القلق النفسي والعصبي، قد تصل للدخول في حالات من الاكتئاب الحاد.
- العزلة والشعور بعدم الثقة بالنفس ما يُولد رغبة في الهروب من البيئة المحيطة إلى أصحاب السوء (4).
خطورة إفشاء السر على المجتمع
لا شك أنّ من فوائد الزواج، ترابط وتلاحم الأسر مع بعضها البعض، لكن الخلافات والمشكلات التي تعتريها، ومنها نبش الأسرار والشك، قد تُؤدي إلى خلل كبير، لذا لا يقبل أحد بانتشار الفضائح أو كشف المستور، حتى إن الإسلام حثّ على علاج مثل هذه المشكلات في جو سري وأسري فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}[النساء:35].
والمجاهرة والتفاخر بذكر الماضي، له عواقب وخيمة على المجتمع، لذا حذّر الإسلام من هذه الآفة التي تُدمر كينونة الأسرة، وتتسبب في انتشار الفاحشة في الذين آمنوا، فيقول الله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148].
ويقول صلى الله عليه وسلم: “كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه” (صحيح البخاري).
الإسلام يحافظ على الخصوصية
اهتم الإسلام بكيان الأسرة والحفاظ عليها، بحسن اختيار شريك الحياة حتى تستقيم المعيشة بين الطرفين، وهو المعنى الذي ذكره الإمام الحسن البصري حينما سأله أحد الناس لمن أزوج أبنتي؟ فأجابه بقوله: “زوجها ممن يتقي الله فإن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها”؛ وذلك من أجل أن يتقي كلا منهما الله في الآخر فيتغاضان عن الأخطاء البسيطة ويتحاكمان إلى كتاب الله في أمُورهما.
تقول الدكتورة عبلة الكحلاوي – العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية ببورسعيد جامعة الأزهر-: إن نبش الأسرار والتفتيش عن الماضي مرض يُورث الشك الذي قد يؤدي إلى الطلاق بل والقتل، لهذا عمل الإسلام على علاج هذه المشكلة بدعوة الرجل إلى اختيار صاحبة الدين والأخلاق (5).
وتقول الدكتورة أميمة السيد – استشاري العلاقات الزوجية والإنسانية-: للأسف نجد البعض يستبيح جميع خصوصيات الزوجة للزوج والعكس أيضًا، وبالطبع هذا مفهوم خاطئ، فمن حق كل شخص الاحتفاظ ببعض خصوصياته التي قد تضر ببعض الأطراف الأخرى، أو قد يستاء منها الزوج باطلاع زوجته عليها وقد تستاء هي أيضًا لنفس السبب (6).
أخيرًا
إن الحياة الزوجية من الأمور التي شدد عليها الإسلام، وإقدام أحد الزوجين على نبش الأسرار الخاصة بالطرف الآخر من الأمور التي لم يقرها الإسلام إلا لريبة، كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “منَ الغَيرةِ ما يحبُّ اللَّهُ ومِنها ما يُبغِضُ اللَّهُ، فأمَّا الَّتي يحبُّها اللَّهُ فالغيرةُ في الرِّيبةِ، وأمَّا الغيرةُ الَّتي يُبغِضُها اللَّهُ فالغَيرةُ في غيرِ ريبةٍ” (صحيح أبو داود).
والحديث في ماضي الزوجين أشبه بمن يمر في حقل ألغام محفوف بالمغامرة والمخاطرة والمقامرة في الوقت نفسه، بل يجب أن يسود التسامح والحب والتغافر بين الطرفين، وأن يحل الإيمان محل الشك والغيرة المقيتة، وألا يبحث في الماضي انطلاقا من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101].
المصادر
- تعريف ومعنى السر: ، وأنظر أيضا: حسام الدين صالح: السر،
- نداء الشناق: الشك يهدم بنيان العلاقات الزوجية، 17 يناير 2019،
- «ماضي الأزواج» يزرع بذور الشك بين الطرفين ويدمر الأسرة: 16 مايو 2011،
- خيرية هنداوي: أثر الخلافات الزوجية على الأطفال، 8 مايو 2021،
- علماء الدين يحذرون: لا تنبش في ماضي زوجتك!: 31 مايو 2014،
- إيمان حسن: احترام الخصوصيات بين الزوجين ضروري،