مراجعة الأحداث والتصرفات، مادة للتأمل والتّعلم والاعتزاز بوجود علماء ومصلحين آلوا على أنفسهم إلا أن يحملوا أمانة الدعوة إلى الله في وقت كانت ترزح فيه البلاد تحت نير الاستعمار، فتناول حياة العظماء (ومنهم فتحي الخولي) الذين رسّخوا قواعد دعوة الإسلام المعاصرة، ليست مادة تُطرح للاطلاع أو التسلية، لكنها سطور نستقي منها العِبَر ونستَرشد بها في حياتنا.
يقول الحسن البصري: “الموت قدر محتم على كل حي، لا ينجو منه كبير ولا صغير، غير أنّ رحيل العلماء وهم بمثابة بركات الأرض ورحَمات السماء، ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار”.
و”الخولي” كان مثالا للتربية الحقيقية بصورها الشاملة التي تجسدت على الأرض، فكان نموذجًا يُحتذى به في خدمة الإسلام، تجسَّد فيه الإخلاص فكان رجلًا في زمن قلّ فيه الرجال.
نشأة فتحي الخولي
وُلِدَ فتحي أحمد حسن الخولي، المعروف بـ”فتحي الخولي” في قرية برشوم الكبرى التابعة لمركز طوخ بمحافظة القليوبية في 4 سبتمبر 1922م، الموافق 13 محرم 1341 هـ، في أُسْرَة ريفية كانت تُحب التعليم الديني، فدفعت بابنها إلى الولوج للعلم الشرعي، فحفظ القرآن وهو صغير.
ولقد حَمَاه القرآن الكريم من الانغماس في فِتَن الدنيا التي كانت منتشرة برعاية الاستعمار الغربي، كما حَمَاه من شطحات الصوفية التي كانت ذائعة الصّيت في الريف المصري.
وبعد أن أتمّ مرحلة الثانوية الأزهرية التحق بكلية دار العلوم (كان لها شأن في ذلك الوقت ومكانة علمية) حيث تخرّج فيها عام 1949م، غير أنه لم يكتفِ بذلك، فالتحق بمعهد التربية بجامعة عين شمس في القاهرة لدعم علمه اللغوي.
وعقب تخرجه عمل مُعلمًا لمادة اللغة العربية في عددٍ من المدارس المصرية، قبل أن يرحل إلى المملكة العربية السعودية ليعمل مدرسًا في معهد المعلمين بالرياض عام 1377هـ/ 1957م، حيث سطّر فيها ملحمة في النظام التعليم. واختير عام 1383هـ/ 1963م لتدريس اللغة العربية وفروعها بكليتي التربية والشريعة في مكة المكرمة، ثم كان أمينًا للتّوعية الإسلامية بجدة ومشرفًا على بعض مدارس تحفيظ القرآن فيها، حتى كرّمته إمارة منطقة مكة، وسلّمه سمو الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز درع التعليم كأول مدير للمعلمين بجدة.
وأنشأ منظومة تعليمية ومدارس في جدة تحت اسم مدارس التيسير في عام 1388هـ/ 1968م وهي من أولى المدارس الخاصة التي أنشئت في هذه المدينة وخرّجت المئات من الشباب السعوديين والعرب.
فتحي الخولي بين أبناء الحركة الإسلامية
كانت تربية فتحي الخولي الدينية من أهم العوامل التي ساعدت في التعرّف إلى ثُلّة من المحبين للقرآن الكريم والعمل به في أثناء دراسته، وحينما انتقل إلى كُلية دار العلوم تعرّف إلى شباب الإخوان المسلمين الذين اصطَحبوه للتعرف على الإمام الشهيد حسن البنا، حيث ظل محافظًا على دروسه وأعمال الإخوان المسلمين طيلة فترة دراسته الجامعية، حتى تخرج في العام الذي استشهد فيه الإمام البنا.
وظل يعمل وسط إخوانه بعد عودة الجماعة واختيار مرشدٍ جديدٍ وهو المستشار حسن الهضيبي، وبعد أن سافر إلى السعودية أصبح أحد قادة الإخوان المسلمين في الخارج.
فتحي الخولي.. وسَنوات المحنة
شارك فتحي الخولي إخوانه مرحلة التغيير الجذرية في أثناء ثورة 23 يوليو 1952م، قبل أن يتوحش العسكر ويُنكلون بكل خصومهم ومنهم الإخوان المسلمين، حتى كان عام 1954م ذروة الصدام، ما دفع الشيخ للهروب إلى ليبيا في العام نفسه، وظل في حمى الملك السنوسي، قبل أن يتنقل من مكان إلى آخر هربًا، حتى استقر به الحال في المملكة العربية السعودية.
يقول “الخولي” عن هذه المغامرة: “ولما أعلن عن تسفيري من ليبيا إلى مصر، رفضت السلطات الليبية، وكان ذلك زمن الحكم السنوسي، واتفق على تسفيري آخر العام الذي بقي عليه حوالي خمسة عشر يومًا، ولما حان وقت السفر، هرّبني بعض إخواني خارج ليبيا عن طريق البحر إلى ميلانو، ثم طوردت في ميلانو، فذهبت إلى سوريا وفي سوريا طوردت إلى لبنان، ثم من لبنان إلى قطر، ثم السعودية في فترات كلها ترقُّب ومطاردة وصراع بين المخابرات”.
ظل “الخولي” يعمل من أجل دينه ولم يعد إلى مصر إلا زيارات، حيث اهتم بالفكر التربوي والنهوض به من خلال مدارس اليسر التي أسسها وتركت بصمات وأَثّرت في المجتمع السعودي وأصبحت حديث الجميع لريادتها، إلا أن نظام مبارك أراد أن يضع أمامه العراقيل فأوعز بوضعه في قضية الإخوان الشهيرة (العرض الرياضي في جامعة الأزهر عام 2006م)، ومع أن القضاء العادي برّأه ثلاث مرات، لم يرضَ مبارك بذلك فأحاله وجميع المقبوض عليهم إلى القضاء العسكري الذي حكم عليه في جلسة الثلاثاء 15 أبريل 2008م بالسجن غيابيًّا 10 سنوات، وظل الحكم قائمًا حتى بعد وفاته فأصدر الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي قرارًا بالعفو عنه في 26 يوليو 2012.
وكان جمال عبدالناصر قد أصدر قرارًا بسحب الجنسية من عددٍ من إخوان مصر، ومنهم الدكتور سعيد رمضان، وعبد الحكيم عابدين، وسعد الدين الوليلي، وفتحي الخُولي وغيرهم.
مشروعات تربوية خيرية
عشق الشيخ فتحي الخولي صناعة الرّجال مُنذ صغرهم، فاهتم بالأطفال والشباب وحرص على إنشاء مجمعات تعليمية يتعلم فيها الأولاد سبل التربية الحقيقية.
لقد أنشأ “الخولي” ستة معاهد أزهرية على أرضه وعلى نفقته الخاصة، كما وهب ثلاثة عشر فدانًا إلى جمعية شباب برشوم.
وأنشأ مشروع مدينة علمية كاملة تضم ثلاثة معاهد علمية (ابتدائي – متوسط – ثانوي) يَدرس فيها حاليًّا مئات الطلاب والطالبات، وتُخرّج أفواجًا منهم كل عام دراسي منذ سنوات إلى الجامعات.
كما أنشأ ثلاثة معاهد أخرى نموذجية (المستوى التعليمي الرفيع) بنين وبنات لجميع المراحل، وتم تخصيص أرضها ومبانيها والتنازل عنها للأزهر، إلى جانب أماكن تحفيظ القرآن الكريم.
كما تبرّع بجميع الأملاك والعقارات والأموال والأراضي الزراعية وما عليها رسميًّا إلى أعمال الخير وسُجّلت بالشهر العقاري بحكم رقم 314 في 14/9/2005م في محكمة بنها الكلية عقد هبة دون عوض، كما جرى وضع مبلغ من المال في بنك مصر فرع الحسين ووديعة لسداد المصروفات عن الطلبة الفقراء العاجزين عن السداد في المعاهد أو في دور تحفيظ القرآن الكريم، كما أنشأ وحدة صحية كبيرة تبرع بأرضها إلى المحافظة.
ولم يدّخر الشيخ وقتًا في العمل لنشر الفكر الوسطي للإسلام أينما حلّ، وظلّ كذلك حتى توفاه الله صباح السبت 1 مايو 2010م الموافق 17 جمادى الأولى 1431هـ، وأقيمت صلاة الجنازة في المسجد الحرام قبل أن يدفن في أراضي مكة المكرمة، عليه رحمات الله.
آثاره التربوية في كلمات إخوانه
كان للدّكتور فتحي الخولي آثار تربوية سطّرها كبار إخوانه عبر كلماتهم، حيث قال الدكتور محمد بديع – المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين-: “نشهد له أنه عاش حياة العلماء المربين المخلصين الصابرين المجاهدين والمحتسبين، وعزاؤنا فيه أنه لقي ربه ما لانت له عزيمة يومًا، وما انحنت له قامة لغير الله، علم وعمل وربَّى وجاهد، وابتُلي وصبر، فلئن كنا فقدناه فإنه يحيا في قلوب ربَّاها، ورواها من معين دعوة عايشها وعاش لها”.
ويضيف: وكان رحمه الله ممن ينطبق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: “إن لله عبادًا اختصهم بقضاء حوائج الناس، حببهم إلى الخير وحبب الخير إليهم أولئك الآمنون من عذاب الله يوم القيامة”؛ حيث كان يستغل علاقاته بالمسؤولين السعوديين في قضاء حوائج كلِّ مَن يلجأ إليه ليس من إخوانه فقط وإنما من كل المصريين الذين كانوا يعتبرونه الأب الروحي لهم في المملكة العربية السعودية، بل إنه لم يكن يتأخر عن قضاء حوائج كل مَن يلجأ إليه سواء كان عربيًّا أو أجنبيًّا”.
وذكر الأستاذ محمد مهدي عاكف، صفات تربوية للشيخ الخولي مطالبًا شباب الحركة الإسلامية بالاقتداء بأمثال هؤلاء حيث قال: “عايشت الشيخ الراحل وربطتني به حياة طويلة من صبانا في حقل دعوتنا المباركة وحتى لقي ربه، كان خلالها نعم الداعية، ونموذجًا للمربين وقدوة للمعلمين، استطاع أن يحمل دعوته واقعًا عمليًّا يعايشه كل من يختلط به من طلاب ومعلمين وعاملين ورجال دولة ودعوة، وحتى من كان يلقاه عابرًا”.
وقال عنه الدكتور توفيق الواعي: “وداعًا يا أعزَّ الأحبة، وأغلى الرجال، وشيخ الدعاة، وحكيم المربِّين.. وداعًا يا شيخ الإخوان، وأكرم المجاهدين، وأصدق العاملين، ورائد المحجَّلين”.
أمّا الأستاذ جمعة أمين عبدالعزيز – عليه رحمة الله -، فقال عنه: “عايشته 4 سنوات من 1981 إلى 1985م، وعرفته قائدًا لمسيرة العمل الإسلامي باذلاً ماله في سبيل الله، ومواقفه لا تعدُّ ولا تُحصى.. يكفى أنه كان حاميًا لهذه الدعوة ناصرًا لها حافظًا لرجالها عندما ألمَّت بهم الأنواء”.
وقال الدكتور محمد مرسي – عليه رحمة الله -: “ما أشد حاجتنا لهذا المثال الذي تجسَّد فيه الاقتداء بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم في كل ما يفعل وما يقول، فهو كان قرآنًا يمشي على الأرض، ونعم السفير لوطنه ودعوته وخير معبرٍ عنها”.
المصادر
1. حديث الشيخ فتحي الخولي لبرنامج “واجعلنا للمتقين إماما”: 15 مايو 2012م،
2. المرشد العام ينعي للعالم الداعية العالِم الشيخ فتحي الخولي: 1 مايو 2010،
3. توفيق الواعي: الشيخ فتحي الخولي معلم الجيل.. وداعًا، 4 مايو 2010،
4. خالد عفيفي: قيادات الإخوان ينعون الشيخ فتحي الخولي، 1 مايو 2010،