سار الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- وَفق المبادئ التي أرساها النبي – صلى الله عليه- في الاهتمام بالمتعلم وتربية النشء على القيم والأخلاق الإسلامية، وكذلك الاهتمام بتربية العقل الذي هو مناط التكليف ومعدن الرجال، ثمّ الاهتمام بتنقية التراث الثقافي ونقله إلى الناشئين لينهلوا من معينٍ صافٍ يَسمى بأرواحهم.
ومن خلال تحليل أقوال علي بن أبي طالب ونصائحه وتوجيهاته التربوية، نجد أنّه كان يرتكز في اهتماماته التربوية على ثلاثة أبعاد رئيسية: بُعد الماضي، وبعد الحاضر، وبعد المستقبل، وهذه الأبعاد ليست مُنفصلة، وإنما تتداخل وتتكامل فيما بينها لتكون في النهاية البعد الزماني لحياة الإنسان.
اهتمام الإمام علي بطبيعة المتعلم
يرى الإمام علي بن أبي طالب أنّ طبيعة المتعلم خيّرة والشر عارض عليها، لقول الله تعالى: {فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِ}، وقال – كرّم الله وجهه- في وصيته لابنه الحسن: “فإنك أول ما خلقت جاهلا ثمّ علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحير فيه رأيك، ويضل ثمّ تبصره بعد ذلك”.
وبهذا يتبيّن أنّ علي بن أبي طالب، يُقر بمرونة الطبيعة الإنسانية وقابليتها للتشكيل، قال تعالى: {وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفِۡٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ}.
ويذهب ابن عمّ النبي – صلى الله عليه وسلم وأول من أسلم من الصبيان- إلى ضرورة إعطاء المتعلم الثقة بنفسه حتى يتمكن من استغلال طاقاته الذاتية إلى ما فيه فائدته، وأن يعامل غيره بحسب ما يتوقعه من الآخرين من معاملة.
اهتمام الإمام على بتربية النشء
ولقد ذهب الإمام علي إلى القول بأهمية التربية والتعليم في سنّ مبكرة، لمرونة الطفل وقابليته الكبيرة – في هذه المرحلة العمرية- إلى التوجيه والإرشاد من جهة، ولصعوبة قدرة الطفل على الاختيار من بين الخبرات التربوية المتعددة والمتراكمة من جهة أخرى.
قال كرّم الله وجهه: “أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره فاستخلصت لك من كل أمر جليله، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك، أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر، ومقبل الدهر، ذو نية سليمة ونفس صافية”.
فيشير هنا الإمام إلى أنّ الإرث الثقافي للمجتمع ليس كله صالحًا ومفيدًا للأجيال الجديدة والناشئة، الأمر الذي يستوجب معه تنقيته من الشوائب، والاختيار من البدائل المتعددة بما يتناسب مع تحديات الحاضر ومشكلاته، ويظهر من ذلك أثر المربي والمعلم المسلم القدوة في تدعيم الطبيعة الإنسانية نحو الخير أو الشر لأنها قابلة للتوجيه والتعديل والتهذيب نحو الأفضل.
ويُقرر الإمام في وصيته لابنه الحسن: “أنّ قلب الحدث كالأرض خالية، ما ألقي فيها شيء إلا قبلته، فبادر بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل عقلك لتستقبل بجد رأيك ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كفيت مؤنة الطلب وعوفيت من علاج التجربة”.
هذه الوصية تكشف اللثام عن اعتماد الطفل على غيره مدة طويلة، وبخاصة في أيام حياته الأولى، وطول هذه المدة تفسح له المجال للاتصال بالآخرين للأخذ منهم وتشرب خبراتهم المختلفة، وفي الوقت نفسه تؤكد أن الإمام قد سبق التربية الحديثة إلى ما يعرف اليوم بإشراف الدولة على التعليم وما يعرف كذلك بالتوجيه التربوي.
تربية العقل
واهتم الإمام علي بن أبي طالب بتربية العقل وأعطاه منزلته التي أعطاه إياها الإسلام، وتدل آثاره – رضي الله عنه- على تلك العناية، بل والاهتمام بتربيته باعتباره مناط التفكير العلمي الذي يُعد أساس كل شيء في الحياة، ومن الوسائل التي يُمكن تحقيقها لتربية العقل في نظره:
التأمل العقلي: فالعقل هو المُوجّه والمرشد للإنسان لسلوك طريق الخير واجتناب طريق الشر، لأنّ نظرة الإسلام للخير والشر، تقوم على بيان النتيجة النهائية لكل منهما، قال تعالى: {وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا * قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا} [الشمس: 7-10]؛ وذلك حتى تتحقق للإنسان حريته الكاملة في الاختيار.
والغِنَى عند علي بن أبي طالب، ليس هو امتلاك المال الكثير إنّما هو امتلاك الإنسان عقلًا معافى يهديه سبل الرشاد، قال كرم الله وجهه: “لا غنى كالعقل”، وأوصى ابنه الحسن بقوله: “إن أغنى الغنى العقل”.
والعقل عند ابن عم رسول الله، خزانة لحفظ التجارب التي يتمكّن من خلالها الإنسان من حل مشكلاته، قال كرّم الله وجهه: “العقل حفظ التجارب”، وكان يجسد ذلك في وصيته لبنيه فيقول: “لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه”، وقال – أيضًا- تعزيزًا لتربية العقل: “لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب، ولا ظهير كالمشاورة”، ومن حِكَمه قوله: “إذا تم العقل نقص الكلام”.
العلم: لقد أولى علي بن أبي طالب العلم عناية خاصة تليق بمكانته في حياة الإنسان، فالعلم عنده خير من المال، قال لتلميذه كميل بن زياد: “يا كميل العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، المال تُنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق”، والخير كله في كثرة العلم، فقال: “ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك”.
وأفضل طريقة عند الإمام لتحصيل العلم هي الإكثار من مجالسة العلماء ومناقشتهم وفي هذا تنمية للقدرة على التأمل والنظر والتفكير، وعن طريق محاورة العلماء تتم عمليات نقل الأفكار إلى الأجيال اللاحقة، قال كرّم الله وجهه لعامله على مصر مالك النخعي: “أكثر من مدارسة الحكماء”.
التفكر في مخلوقات الله تعالى
تحدث الإمام علي في كثير من خطبه عن الحيوانات والنباتات والسحاب والمطر، وعن أحوال الناس وما يمرون به في حياتهم من مواقف ما يدل على ممارسته لما يُعرف الآن بالتفكير العلمي الذي يقوم على الوصف الدقيق للظاهرة من جهة، وحثّه للناس من حوله على استعمال قدراتهم العقلية في التفكير والتأمل في مخلوقات الله تعالى ليتأكدوا من صدق ما أتى به الوحي المسطور ومقارنته بالكون المنظور.
ومن تلك المخلوقات التي وصفها علي بن أبي طالب، النمل والخفاش، فقال في وصف الخفاش: “من لطائف صنعته، وعجائب خلقته ما أرانا من غوامض الحكمة، في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء ويبسطها الظلام القابض لكل حي”.
وإننا لندرك من خلال كلامه كرم الله وجهه الأمور الآتية:
- أهمية تربية العقل وتنميته من خلال الاستفادة من التجارب والعبر والصفات السابقة، وذلك لِما لنضج العقل من أثر فعال في حياة الإنسان والمجتمع.
- أهمية تربية العقل للمشاركة في الشورى، وأهميته في مجال القضاء، فالرأي مهم فيما لم يكن فيه حكم من المنهج القرآني النبوي، أو لم يرد في قضاء الأئمة.
- أهمية تدريب العقل على التأمل والتدبر والتفكر والمراجعة ومعرفة الحق والفهم الجيد فيه.
- التأكيد في تربية العقل على الجدل الحسن والسؤال والإجابة والتلقين والاستنساخ والحفظ والرواية.
وهذا ما أكده علي كرم الله وجهه في وصية وصّى بها الحسن فقال: “يا بني احفظ عني أربعًا وأربعًا، لا يضرك ما عملت معهن، أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق، يا بني إياك ومصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك وإياك ومصادقة البخيل، فإنه يبعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه وإياك ومصادقة الكذاب فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد، ويبعد عليك القريب”.
تنقية التراث الثقافي
كان الإمام علي رقيق القلب وافر التأثر شديد الإخلاص، لكنه لم يرَ حوله أدنى شبه لما في نفسه، وإننا لنفهم حقيقة هذه الشخصية وندرك سر هذا الاهتمام إذا ما درسنا القوى الأدبية الثلاث واتحادها في هذا الرجل، وهي ثلاثة من كنوز الجنة: كتم العلة، وكتم الصدقة، وكتم المصيبة.
هذا دور الشعور والمخيلة والعقل في إنشاء علي بن أبي طالب وأن هذه القوى الثلاث تتحد بعضها ببعض اتحادًا متينًا ويرتبط ارتباطًا وثيقًا، فلا يحس القلب بشيء إلا ظهر صورة جميلة، يختم عليها العقل بخاتم الإيجاز، ويدفعها حكمة مصكوكة كقطعة النقود تتداولها العقول معجبة مستفيدة، ومن كانت هذه مقدرته فلا عجب أن رغب فيه قوم، وحسده قوم آخرون فأبغضُوه، وغالى الفريقان، حتى قال الشعبي: “أحبه قوم فكفروا في حبه وأبغضه قوم فكفروا في بغضه”.
ويرى كرم الله وجهه أنّ أول ما يجب تعليمه للأجيال الجديدة القرآن الكريم والتفسير، لاشتماله على كل ما يحتاج إليه الناس في حياتهم الدنيا والآخرة، ولبيانه كثيرًا من أحوال الأمم الماضية، فقال في وصيته لابنه الحسن: “أني ابتدأتك بتعليم كتابه – عز وجل- وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله، ولا أجاوز ذلك إلى غيره”.
وواجب المربّي حينئذ تنقية هذا التراث من الشوائب قبل تقديمه للمتعلم، وأكد علي بن أبي طالب ذلك في وصيته لابنه الحسن بقوله: “ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلفت الناس فيه من أهوائهم مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر قد لا آمن عليك به الهلكة ورجوت أن يوفقك الله لرشدك، وأن يهديك لقصدك”.
من الآراء التربوية عند على بن أبي طالب
لقد تربّي الإمام عليٌ – كرم الله وجهه- في مدرسة النبوة وكانت آثارها في نفسه قوية، انطبعت على سلوكه، تعلم منها الإيمان والإخلاص والصدق، وتعلم منها تحمل المسؤولية والتفاني من أجلها، اتخذ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- مثلا أعلى وقدوة، فكان قويًّا في الله عادلًا تربويًّا من طراز رفيع، وكان هذا منطلق اهتماماته التربوية إلى جانب أنه كان لديه الاستعداد الكافي لتحمل هذه المسؤولية التربوية وساعدته ثقافته على ذلك، فكان من نخبة المتلقين للعلم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، ومن نخبة المثقفين في العربية وكان وافر السهم في ثقافة قومه وعصره.
إلا أنّ الجانب العملي في ثقافته كان أغلب وأظهر من جوانبها النظرية لِمَا خلّفه من آثار علمية في شتى العلوم تجسدت فيما نُسب إليه من آثار في الآتي:
- شعرا: نُسب إليه ديوان شعري يحتوي على نحو 1500 بيت في الزهد والابتهالات والأقوال.
- نثرا: فقد تميز بنبوغه في هذا الجانب تاركًا مجموعة من الآثار.
وهناك كثير من خطبه كرم الله وجهه وأقواله متفرقة في كتب الأدب كالمخلاة والكشكول لبهاء الدين العاملي.
إن الاهتمامات التربوية لابن عم الرسول، تنبع من إحساسه بعبء المسؤولية التي أعلن عنها في توجيهاته التربوية ونصائحه في وصيته لابنه الحسين، حيث أوصاه بقوله: “وتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب رغبته وتجربته، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، وأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه، واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه” وتتبيّن أهمية الرجوع إلى الخبرات السابقة إذا علم أنّ الوجود المادي للإنسان محدود في هذه الحياة الدنيا.
ويرى علي – رضي الله عنه- أنّ التربية من الحقوق الإنسانية التي يجب على الحاكم أداؤها للناس كافة، فقال: “إن لي عليكم حقا ولكم على حق، وأما حقكم فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، ونعلمكم كيلا تجهلوا” وقد أدى هذا الحق على خير وجه فحلقته العلمية بمسجد الكوفة دليل واضح على ذلك، كما أنّه مارس تعليم أصحابه وهو في ساحة القتال.
فعن الأصبغ بن بناتة، أنّ رجلا سأل عليًّا وهو في مسيره للقاء معاوية، عن وضوء رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فدعا بمخضبٍ قد ناصفه الماء، قال علي: “من السائل عن وضوء رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقام الرجل فتوضأ على ثلاثة ومسح برأسه واحدة، وقال هكذا رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يتوضأ”.
وكان علي بن أبي طالب، يطلب من ولاته على الأقاليم أداء هذا الحق للرعية، فمن كتاب له لأحد عماله “أما بعد، فأقم للناس الحج وذكرهم بأيام الله، واجلس لهم العصرين فأفت المستفتي، وعلم الجاهل”.
لذا، كانت الاهتمامات التربوية عند علي بن أبي طالب، حقًا مكفولًا لكل أفراد المجتمع صغيرهم وكبيرهم، حتى لمن هُم في ساحة القتال، وجسّد هذا الأمر تطبيقًا وتوجيهًا عبر رسائله للولاة، مثل: كتابه إلى زياد بن النضر الذي قال فيه كرم الله وجهه: “فإني قد وليتك هذا الجند، فلا تستطيلن عليهم وإن خيركم عند الله اتقاكم، وتعلم من عالمهم وعلم جاهلهم”.
المصادر:
- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 18، ص 185.
- نهج البلاغة: ضبط صبحي الصالح، كتاب 31.
- أبو نعيم: الحلية 1/80.
- الخطيبُ البغدادي: الفقيه والمتفقه 1/182.
- ابن عساكر: تاريخ دمشق 14/18.
- ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/329.