في خضم العصور التي يعلو فيها صوت الطغيان ويشتد وطيس الاستبداد، تأتي شخصية مثل سيد قطب لتقف صلبة كالجبل في التصدي. لم يزل سيد قطب شوكة في حلق الطغاة رغم إعدامه على أيديهم منذ أكثر من 59 عامًا، فلم تزل كلماته وأفكاره حية رغم فناء جسده، وكيف لا وهو القائل:
“لا حياة لفكرة لم تتقمص روح إنسان، فكل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان حي، أما الأفكار التي لم تتطعم هذا الغذاء المقدس فقد وُلدت ميتة”.
حقًا قد وفت كلماته ثمن دمائه. لم يكن قطب أديبًا بارعًا فقط، بل كان مفكرًا مناضلًا في وجه الاستبداد، رسم بقلمه ودمائه معالم الطريق نحو الحرية الحقيقية، وهذه بعض ملامح هذا الطريق.
- التوحيد والعقيدة: أساس مواجهة الطغاة
إن كلمة التوحيد ترفض الخضوع لأي سلطان غير سلطان الله، وتتحرر من كل عبودية لغيره، فالطغيان لا مكان له في ظل التوحيد. هكذا أعلنها سيد قطب صريحة مدوية، تجدها مبثوثة في كل كتاباته، فالاعتداء على سلطان الله هو سبب الطغيان:
“فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء على عباده، وما مَهانة الإنسان في الأنظمة الجماعية وما ظلم الأفراد والشعوب.. إلا أثرٌ من آثار الاعتداء.. وإنكار الكرامة التي قررها الله للإنسان” (معالم في الطريق، ص: 10).
فالعقيدة ليست جامدة بل هي قوة حية تشتبك مع الواقع ومشكلاته:
“إن التصور الإسلامي ليس تصورًا سلبيًا يعيش في عالم الضمير، إنما هو تصميم لواقع مطلوب إنشاؤه” (خصائص التصور الإسلامي، ص: 162).
“فالإسلام ليس مجرد عقيدة، بل هو إعلان عام لتحرير الإنسان” (معالم في الطريق، ص: 63).
هذا الفهم للتوحيد يعزز من مفهوم الحرية الحقيقية التي لا تتأتى إلا بعبودية خالصة لله وحده، مما يضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع أي طاغية يحاول فرض إرادته على حساب سيادة الله. ومن هنا، فإن التوحيد في فكر سيد قطب يمثل نواة المقاومة لكل أشكال الظلم والطغيان.
- استمرارية الصراع بين الحق والباطل
أعلنها سيد قطب أن هذا الصراع متصل السند بالصراع الأول، فالمعركة التي يخوضها الإسلام اليوم مع الجاهلية ليست معركة جديدة، بل هي معركة قديمة، معركة بدأها الإسلام منذ اللحظة الأولى التي نزل فيها الوحي على محمد -صلى الله عليه وسلم-. رأى سيد قطب أن الجاهلية ليست مجرد حقبة تاريخية قديمة، بل هي حالة تستمر كلما تحكم البشر في حياة بعضهم البعض بعيدًا عن شرع الله. هذا الفهم يؤكد أن المعركة بين الإسلام والجاهلية لا تتوقف أبدًا. بهذا المعنى، فإن مواجهة الجاهلية تصبح واجبًا على كل مسلم يعيش في أي مجتمع يسوده الطغيان أو تفرض عليه قوانين بشرية تخالف شريعة الله. يعتبر قطب أن هذه المواجهة ليست مجرد معركة سياسية أو اجتماعية، بل هي معركة فكرية وروحية تهدف إلى إعادة إرساء شريعة الله في الأرض.
- المفاصلة الفكرية والشعورية: تمايز لا انعزال
يرى سيد قطب أنه لا سبيل للنصر سوى مفاصلة الجاهلية في الأفكار والأخلاق والمشاعر والمظاهر، فلا بد من إزالة الالتباس بين الجاهلية والإسلام وعدم الانصياع تحت ضغط المجتمع الجاهلي:
“فلا بد إذًا أن نتجرد فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية ونرجع إلى النبع الصافي” (معالم في الطريق، ص: 18).
ومع ذلك، يوضح سيد قطب أن هذه المفاصلة ليست انعزالًا عن المجتمع، بل هي تميز واضح في الموقف والقيم والأخلاق والعواطف. يعتبر أن المفاصلة تعني الاستقلالية الفكرية والروحية للمسلم، بل يدعو إلى أن يكون المسلمون متفاعلين مع مجتمعهم يعملون على تغييره وإصلاحه من الداخل، منطلقين من قاعدة فكرية وشعورية مستقلة تستمد قوتها من التوحيد.
- ضرورة العمل الجماعي: قوة في مواجهة الطغاة
يشدد سيد قطب على أن مواجهة الطغاة والمستبدين لا يمكن أن تتم بجهود فردية، بل تحتاج إلى عمل جماعي منظم. يؤكد أن تكوين جماعة مسلمة واعية وقوية هو الأساس لمواجهة الجاهلية والطغيان. هذه الجماعة يجب أن تكون مؤمنة بهدفها، ومتماسكة في بنيتها، ومستعدة للتضحية في سبيل تحقيق أهدافها. الجماعة في فكر قطب ليست مجرد تجمع بشري، بل هي كيان حي يحمل رسالة الإسلام ويعمل على تطبيقها في الواقع. ويرى أن الجماعة هي الأداة الوحيدة القادرة على مقاومة الطغيان وتحقيق التغيير الحقيقي في المجتمع، وأنها تمنح الفرد المسلم الدعم والقوة اللازمة لمواجهة الطغاة. العمل الجماعي يعزز من قدرة المسلمين على التغيير، ويجعلهم أكثر فعالية في تحقيق أهدافهم:
“لا بد من إعادة وجود هذه الأمة لكي يؤدي الإسلام دوره المرتقب في قيادة البشرية” (معالم في الطريق، ص: 6).
- مركزية التربية
تعد التربية أحد المحاور الرئيسية في منهج سيد قطب لمواجهة الطغاة والمستبدين. يرى سيد قطب أن بناء مجتمع قوي قادر على مواجهة التحديات لا يمكن أن يتم إلا من خلال تربية أفراد مسلمين متمسكين بعقيدتهم، واعين بأهمية دورهم في التغيير، وقادرين على تحمل المسؤولية في مواجهة الظلم والاستبداد. في نظر سيد قطب، تبدأ التربية بتعميق الفهم الصحيح للعقيدة الإسلامية في نفوس الأفراد، بحيث تكون عقيدة صافية خالية من أي شوائب، وتربيتهم كما رَبَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة من قبل. هذا الجيل الذي سماه “الجيل القرآني الفريد” تَرَبَّى على صفاء المنبع وهو القرآن، ومنهج التلقي للتنفيذ والانخلاع من الجاهلية السابقة. في فكر سيد قطب، تظهر التربية كركيزة أساسية لمواجهة الطغاة والمستبدين. إنها ليست مجرد إعداد للأفراد لمواجهة التحديات اليومية، بل هي إعداد شامل للحياة، تتضمن تعزيز الإيمان، وتحرير العقل، وتأكيد العدل والحرية، وبناء الجماعة المتماسكة.
- تحقيق العدل والحرية كغاية شرعية: دعوة للتحرر
يرى سيد قطب أن العدل والحرية هما من القيم الأساسية التي يجب أن يسعى المجتمع الإسلامي لتحقيقها. يعتبر أن الطغاة والمستبدين يعملون ضد هذه القيم بشكل مباشر، وأن الإسلام جاء ليحرر الناس من كل أشكال العبودية لغير الله، ويحقق العدالة بينهم. في فكر قطب، لا يمكن للإسلام أن يتعايش مع أي نظام يقوم على الظلم والاستبداد، لأنه دين يدعو إلى العدل في كل شيء، ويعتبر الظلم والطغيان من أكبر المخالفات للشريعة. يشدد قطب على أن العدل والحرية ليسا مجرد شعارات تُرفع، بل هما غايتان شرعيتان يجب العمل لتحقيقهما بكل الوسائل الممكنة. ويرى أن الإسلام يتطلب من المسلمين أن يكونوا قوة تسعى إلى تحقيق هذه القيم.
- الاستعلاء الإيماني: فخر وثقة لا تتزعزع
في فكر سيد قطب، يمثل الاستعلاء الإيماني حالة من الثقة الراسخة في الحق الذي يحمله المؤمن، والإيمان العميق بالقدرة على تجاوز كل التحديات والضغوط التي يفرضها الطغاة والمستبدون. الاستعلاء الإيماني هو أن يرى المؤمن نفسه أعلى وأسمى من أن يخضع لأحكام البشر أو أن ينحني لقوة طاغية، لأنه يدرك تمامًا أن ولاءه الوحيد لله، وأن قوته تنبع من صلته بالله. بهذا الاستعلاء، يكتسب المؤمن ثقة داخلية لا تتزعزع مهما اشتدت المحن وتعاظمت الصعوبات:
“المؤمن هو الأعلى.. الأعلى سندًا ومصدرًا.. فما تكون الأرض كلها؟ وما يكون الناس؟ ما تكون القيم السائدة في الأرض؟ وهو من الله يتلقى، وإلى الله يرجع، وعلى منهجه يسير” (معالم في الطريق، ص: 165).
يشدد سيد قطب على أن الاستعلاء الإيماني ليس تكبرًا أو غرورًا، بل هو شعور بالعزة والكرامة ينبع من الإيمان الكامل بأن الله هو الحق المطلق، وأن المؤمن، بموقفه النابع من التوحيد، هو في الصف الصحيح دائمًا. هذا الاستعلاء يجعل المؤمن ثابتًا أمام التحديات، ويدفعه للمضي قدمًا في مواجهة الظلم دون تردد أو خوف، لأنه يعلم أن ما يحمله من إيمان هو القوة الحقيقية التي لا تقهر. الاستعلاء الإيماني هو الدافع الذي يحفز المؤمن على رفض كل أشكال الإذلال أو الخضوع لغير الله. فهو يدرك أن كرامته ومكانته تأتي من كونه عبدًا لله وحده، وليس لأي نظام أو قوة بشرية. وبالتالي، يصبح الاستعلاء الإيماني سلاحًا روحيًا قويًا يمكن من خلاله مقاومة الطغاة والمستبدين، وهو القوة الدافعة التي تعطيه القدرة على الصمود والاستمرار في طريق الحق:
“الاستعلاء مع ضعف القوة.. وقلة العدد.. كالاستعلاء مع القوة.. والكثرة والغنى على السواء” (معالم في الطريق، ص: 163).
- تحرير العقل: من شبهات الجاهلية إلى صفاء الإسلام
بين العناصر الأساسية في منهج سيد قطب لمواجهة الطغاة والمستبدين يأتي تحرير العقل، وهو العنصر الذي يُعتبر أساسًا لكل عملية تحرر شاملة. يرى سيد قطب أن العقل المسلم يجب أن يتحرر من كل القيود التي تفرضها الجاهلية، سواء كانت هذه القيود ناتجة عن تقاليد بالية أو عن أفكار مغلوطة تتسلل إلى المجتمع الإسلامي تحت مسمى الحداثة أو التطور. تحرير العقل يبدأ بتخليصه من كل أنواع التبعية الفكرية التي تُفرض عليه من قبل الأنظمة الطاغية، ويشمل القدرة على التفكير المستقل والنقدي الذي يستند إلى منبع الإسلام الصافي.
- الثبات وتقديم القدوة في التضحية
إن سيد قطب لم يخضع لطاغية عصره، ولم يوافقه على ما أراده عليه، ولم ينثنِ أو يعطِ الدنية في دينه وفكره وعقيدته، بل وقف كالطود الشامخ والجبل الأشم في عزة وشموخ واستعلاء تليق بمثله وتليق أمام هؤلاء الزبانية، حتى قدم روحه رخيصة في سبيل الله، وفي سبيل ما يحمل من إيمان وعمل وجهاد. وهذا يمثل نموذجًا بطوليًا يعشقه المسلمون لا سيما في عصور الاستضعاف والهزيمة والهوان. وهذا لا شك يغيظ أنظمة الاستبداد، ويقض مضاجعهم، ويزعج نفوسهم، فيريدون أن يشوهوه أمام الأجيال حتى لا يتمدد أنموذجه وينشأ في الأجيال ما فيه من مشابه. فلا تُنسى كلماته يوم إعدامه والتي بقيت بعده في الأمة حيّة:
“إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة، لَيرفض أن يكتب حرفًا واحدًا يقرّ به حكم طاغية”.
في نهاية المطاف، ندرك أن كلمات سيد قطب لم تكن مجرد حروف على ورق، بل كانت نارًا تشعل قلوب الأحرار وتضيء دروب المستضعفين. منهجه الذي استند إلى التوحيد الخالص والإيمان العميق بقدرة الإسلام على تحرير الإنسان من كل أشكال العبودية، يدعونا إلى الانخراط في معركة الحق ضد الباطل، حيث لا مجال للتردد أو الضعف. إن دعوتنا اليوم هي اتباع هذا المنهج الذي يتحدى الطغاة والمستبدين، ويثبت أن الحرية الحقيقية تبدأ بالتحرر من قيود الهوى والجهل، وتنتهي بالإيمان بأن الله هو المستحق للعبودية عن من سواه. يا من تبحث عن نور الحق في ظلمات الجهل والطغيان، اعلم أن طريقك يبدأ حيث وقف سيد قطب بثبات، متمسكًا بالتوحيد الخالص، رافعًا راية الحرية والعدل في وجه الطغاة والمستبدين. استلهم من كلماته التي نبعت من قلب مؤمن بأن لا سلطان إلا لله، ومن عزيمته التي لم تلن أمام قوى الظلم. فهيا، أمسك بيد أخيك الكريم، لنتتبع تلك المعالم التي رسمها هذا العملاق بدمائه قبل قلمه.
المصادر والمراجع:
- معالم في الطريق – سيد قطب.
- خصائص التصور الإسلامي – سيد قطب.
- السمات العشر لمنهج سيد قطب – وصفى عاشور أبو زيد.
- سيد قطب: لماذا يزعج الأنظمة الطاغية؟ – وصفي عاشور أبو زيد.