إنّ أعظم ما يُمكن أن يُقدمه الآباء والأمهات والمربون هو بناء الثقة عند الأطفال الذين يُولدون صفحة بيضاء جاهزة للنّقش والتشكيل، للتصرّف في المواقف الحياتية المختلفة بكل ثقة، فمن الممكن أن يكتسب الطفل هذه الصفة مبكرًا، وتُصبح أساسًا لحياته وبناء شخصيته القادرة على اتخاذ القرارات المصيرية في المستقبل دون تردد أو إخفاق، وفي الوقت ذاته يُمكنه مواجهة المشكلات والعمل على حلها بثبات.
ويحتاج الطفل الصغير من الأبوين والمربين إلى التشجيع الكافي طوال فترة الطفولة، واحترام شخصه وتقديره، إضافة إلى عدم النقد المستمر لأفْعاله ومواقفه، والتحرر من الحماية الزائدة والقلق غير المبرر عليه، والبعد عن إخضاعه إلى مقارنات سلبية قد تتسبب في تآكل تقديره لذاته وثقته في نفسه.
ومضات لبناء الثقة عند الأطفال
وفي دراسة أعدتها الباحثة آمال حسناوي، أشارت إلى كيفية بناء الثقة عند الأطفال من خلال معين النبوة الصافي الذي يُمكننا أن ننهل منه قطرات تربوية نروي بها ظمأ قلوبنا لتنشئة جيل يقود الأمة إلى النصر والعزة، وذلك من خلال هذه الومضات السبع:
الومضة الأولى: إن أول خطوة يخطوها المربي العاقل لغرس الثقة في نفس طفله تعليمه مبادئ الإيمان بالله تعالى، والخوف منه دون سواه؛ ففي سنن ابن ماجه عن جندب بن عبدالله – رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاورة (جمع الحزور، وهو الغلام إذا اشتد وقوي وحزم)، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا»، والشاهد هنا أهمية غرس قيم الإيمان بالله في سني الطفولة الأولى، وأن لها الأولوية على كل شيء، لأن لها ما بعدها من التربية والخلال الصالحة.
الومضة الثانية: المربي الناجح هو الذي يجعل الطفل يشعر بأهميته كإنسان مسلم؛ فعند مخاطبته يوجه إليه من الخطاب ما يشعر به الطفل أنه محترم، فيقول له: من فضلك، لو سمحت، فلا بد من استئذانه فيما يخصه، وأخذ رأيه ومشاورته.
إنّ هذه الأساليب السهلة الميسورة تجعل الطفل يشعر بأهميته الاجتماعية، وقيمته الذاتية؛ فيدفعه ذلك إلى ارتقاء المعالي وركوب الغايات الجليلة؛ ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد – رضي الله عنه- أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أتي بشراب، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: “أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟”، فقال الغلام: لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا، فتله في يده. الشاهد أنه – صلى الله عليه وسلم- استأذن الغلام وأخذ برأيه وأعطاه حقه، وهذا من صميم غرس الثقة في نفسه.
الومضة الثالثة: مشاركة الطفل في أموره الخاصة، والاهتمام بأسئلته، حتى وإن كانت شؤون الطفل في نظرنا تافهة؛ فقائد هذه الأمة – صلى الله عليه وسلم- وله ما له من القضايا المهمة للأمة، أوجد وقتا ليسأل أخا أنس “رضي الله عنه” عن طائره؛ ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك “رضي الله عنه” قال: إن كان النبي – صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا، حتى يقول لأخ لي صغير: “يا أبا عمير، ما فعل النغير؟”؛ فيا ترى ما شعور ذلك الطفل والنبي الكريم – صلى الله عليه وسلم- يهتم به ويسأله عن طائره؟ إنه غرس الثقة في نفس الطفل منذ الصغر.
الومضة الرابعة: مما يؤثر في نفس الطفل ويرفع من همته وذوقه، اصطحابه إلى مجالس الكبار النافعة، ففي تلك المجالس العامرة بالفائدة ما يغرس في نفس الطفل معاني جميلة، ويتعلم منها ما يجعله يحسن مواجهة صعوبات الحياة بثقة، ولنا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام القدوة الحسنة؛ ففي صحيح البخاري وغيره عن ابن عمر “رضي الله عنه” قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟” فوقع الناس في شجر البوادي؛ قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: “هي النخلة”، فابن عمر كان أصغر الجالسين وهم كبار الصحابة، وفيهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم-؛ ومع ذلك أكبروه وجبروا خاطره، ولم يستهينوا بصغر سنه، بل سمحوا له بمجالسة الكبار ومخالطتهم والإفادة منهم.
الومضة الخامسة: الرفق بالطفل وعدم استعمال أسلوب التهديد الذي يخلق منه شخصية هشة، يسهل كسرها وتوهين عزيمتها، في مقابل أسلوب التجاهل والتغاضي عن بعض الأمور؛ فهو من أنجع وسائل التربية؛ وقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس “رضي الله عنه” قال: “خدمت النبي – صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لي: أف! ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت”.
الومضة السادسة: إظهار محبة طفلك من أبرز ما يشيع الطمأنينة في نفسه، والثقة في عطائه، وإظهار الحب شعور جميل، ولكنه لا يكفي وحده؛ بل علينا أن نشعرهم بهذا الحب؛ ففي صحيح البخاري عن البراء “رضي الله عنه” قال: رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم- والحسن بن علي على عاتقه، يقول: “اللهم إني أحبه فأحبه”؛ أخبر ابنك أنك تحبه، وضمه بعطف ولطف إلى صدرك؛ وسيعطيه ذلك مخزونا هائلا من الثقة لمواجهة عراك الحياة، ومن صميم الحب أن تمدح طفلك أمام الغير إذا قام بما يستحق عليه المدح.
الومضة السابعة: أوكل إلى طفلك مهمة يقوم بها، وحمله مسؤولية أمر ما، على حسب سنه وقدراته، وتجنب تحميله من العبء ما لا يطيق، واترك له فسحة في اتخاذ قرارات تخصه، وشاركه أمرًا يكون بينكما، وعلمه كتمان السّر، وبين له أنك ما خصصته بهذا الأمر إلا لأنه أهل لتحمل الأمانة.
جاء في مسند أحمد عن ثابت البناني عن أنس “رضي الله عنه” قال: خدمت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يوما، حتى إذا رأيت أني قد فرغت من خدمته، قلت: يقيل رسول الله – صلى الله عليه وسلم-؛ فخرجت إلى صبيان يلعبون؛ قال: فجئت أنظر إلى لعبهم، قال: “فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فسلم على الصبيان وهم يلعبون، فدعاني رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فبعثني إلى حاجة له، فذهبت فيها، وجلس رسول الله في فيء حتى أتيته”، واحتبست على أمي عن الإبان (الحين والوقت) الذي كنت آتيها فيه، فلما أتيتها، قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله في حاجة له، قالت: وما هي؟ قلت: هو سر لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-، قالت: فاحفظ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- سره.. قال ثابت: قال لي أنس: “لو حدثت به أحدا من الناس أو: كنت محدثا به، لحدثتك به يا ثابت”.
التربية والثقة بالنفس
وبناء الثقة عند الأطفال يجب أن يكون بعيدًا عن ظاهرة تتجلى في كثير من البيوت، وهي حجر الآباء على رغبات وميول الأبناء، مثل أن تكون الأم طبيبة فترغب في أن يكون طفلها طبيبا في يوم من الأيام، حتى وإن كانت له ميول مختلفة يريد صقلها بالدراسة.
إنّ كثيرًا من الأمهات والآباء يُريدون رؤية أنفسهم في أطفالهم، سواء من الناحية الشكلية أو من الناحية السلوكية، كما أن كثيرًا منهم يَجد صعوبة شديدة في تربية أطفالهم إذا كانت شخصياتهم مختلفة عنهم.
قد يحاول أحد الأبوين دفع طفله المختلف عنه لأن يتبع طريقته نفسها، لكن هذا ليس حلًّا، فمن الضروري أن نقبل أطفالنا بشخصياتهم هم؛ لأننا لو لم نفعل ذلك سيعانون. على سبيل المثال، إذا دفعت طفلا ميوله أدبية لكي يتميز في العلوم لأن هذا هو مجالك، فقد يصبح طفلك متفوقا في مادة العلوم، لكنه لن يبرع في هذا المجال لأنه ليس المجال الذي يرى فيه نفسه ويشبع مواهبه هو، وكنتيجة لهذا قد يضعف تقديره لذاته.
عندما نحاول فعل أشياء نحن مجبرون عليها أو مضطرون إليها بدلا من الأشياء التي تنبع من داخلنا، فإن ذلك لا شك يُولّد شعورًا دائما بعدم الثقة بالنفس، كما أن جزءًا كبيرًا من ثقتنا بأنفسنا ينبع من إيماننا بقدرتنا وكفاءتنا على فعل الأشياء التي نحاول القيام بها.
الأبناء الذين يجبرون دائما على القيام بأشياء لا تلائم طبيعتهم يكون إيمانهم بقدرتهم وكفاءتهم على القيام بهذه الأشياء ضعيفًا، وبالتالي لن يشعروا بالحماس لعمل أي شيء جديد لشكهم وعدم ثقتهم في قدرتهم على النجاح، أما الأبناء الذين لديهم إيمان قوي بقدرتهم وكفاءتهم، فغالبًا ما يتمتعون بحماسة أكبر لأن توقعاتهم للنتائج التي يُمكن أن يحققوها تكون إيجابية.
لذا، علينا أن نكتشف بأنفسنا ميول ومواهب وإمكانات أبنائنا وهم في سن الطفولة، ومن ثم تعزيز وثقل هذه القدرات والميول ومراعاتها طوال عملية التوجيه والتربية والتعليم.
ويمكن اكتشاف تلك الميول والمواهب وتنميتها وثقلها لتعزيز الثقة بالنفس لدى الأبناء عن طريق:
- إشراكهم في أي من الأندية والجمعيات المختصة منها بممارسة الأنشطة الثقافية أو الرياضية…الخ.
- محاولة استشارة أحد المختصين في علم التربية لكي يساعد بشكل أكبر في تنمية اتجاهاتهم.
- محاولة الإجابة على جميع الأسئلة التي يطرحونها ببساطة وسهولة.
- عدم نهرهم على أسئلتهم.
- محاولة توفير الأدوات التي تساعدهم على إظهار ميولهم؛ كتوفير أدوات الرسم إذا كانوا يحبون الرسم…الخ.
إن أبناءنا ليسوا قوالب جامدة، بل كل ابن بداخله الكثير من الاختلافات، فقد تكون لديه نقاط قوة ونقاط ضعف، قد يجيد شيئا ولا يجيد آخر، مثله مثل كل البشر.
مقومات الثقة عند الأطفال
وهناك مقومات لا بُد من الانتباه إليها، من أجل بناء الثقة عند الأطفال وتربيتهم على تحمل المسؤولية والتصرف في المواقف المختلف، وهي:
- الدفاع عن الحق بكل الوسائل.
- التوازن العاطفي.
- البحث عن الحلول باستمرار.
- احترام الذات.
- التعامل الجيد مع القريب والبعيد .
- التحكم في المزاج.
- التحلي بالهدوء.
- الثبات في القول وعدم التردد.
- التحقق والتبين عند كل غموض.
- تقديم العقلانية على السطحية.
- العزة من غير تكبر، والتواضع من غير ذلّة.
- تحمل نتائج الأعمال مهما كان الثمن.
- حب الحق والحقيقة.
القسوة تدمر ثقة الطفل بنفسه
يعتقد بعض الآباء والأمهات أنّ العقاب الدائم والشدة والقسوة في التعامل مع أبنائهم هي أساس التربية السليمة والناجحة، لكنهم لا يدركون أن العقلية التي يتعاملون معها هي عقلية طفل لا تدرك الكثير من المعاني والمفاهيم التي يسعون إلى توصيلها بتلك الأساليب الخاطئة في التربية التي تُؤدي حتما إلى تدمير الثقة عند الأطفال.
ولقد انتهت الدراسات والأبحاث إلى أهمية التوجيه النبوي في منع الإساءة إلى الطفل، وحسن معاملته، لما لذلك من آثار إيجابية تنعكس على صحته النفسية وثقته بنفسه، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- موجها ومربيا: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا” (الترمذي).
فالتوجيه النبوي بالرحمة بالصغير، أي تنشئته في مناخ تربوي يراعي تكوينه النفسي والبدني ولا يعرضه للإساءة. ويقصد بالإساءة إلى الطفل أنها: “الفعل المقصود غير العرضي الصادر عن الوالدين، أو المربين القائمين على رعايته وتنشئته، الذي ينتج عنه إيذاؤه وإلحاق الضرر به، جسميًّا أو صحيًّا أو نفسيًّا أو انفعاليًّا”، وتندرج تحت هذا التعريف أنواع شتى من الإساءات إلى الطفل، مثل: الإساءة الجسمية، الإساءة الجنسية، الإساءة الانفعالية، والإهمال.
ورغم تعدد أشكال الإساءة إلى الطفل، فإن الإساءة النفسية والانفعالية تُعد من أخطر أنواع الإساءات تأثيرًا، لأنه من الصعب إزالة الآثار المترتبة عليها، خصوصًا إذا لم تُعالج، فتظل عظيمة التأثير في حياة الطفل ومستقبله.
فالقسوة مع الطفل قد تتسبب في أعراض سلوكية تشمل: الهروب من المنزل، والانسحاب، والأمراض الجسدية، والكوابيس، والرهاب، وقد تضطرب في ذهنه المخططات المعرفية، فتتصف إدراكاته بالتشوه المعرفي، ويصير العالم بالنسبة إليه عدائيًّا يصعب التنبؤ به.
ولاشك أنّ الاهتمام بالطفل في المجتمعات المتقدمة قد أدى إلى الفهم الصحيح لهذا الكائن، وبالتالي التعامل العلمي معه. من هنا، فإن التعرف على الطفولة لا يعني دراسة خصائصهم الطبيعية، سواء كانت نفسية أو اجتماعية وحسب، بل يتعدى ذلك إلى دراسة تفاعل الأطفال مع كل المثيرات البيئية المختلفة، أي العناصر الحضارية، والثقافية التي فرضها التقدم العلمي والتطبيق التكنولوجي.
الخلاصة:
إنه من الضروري تجاوز العقبة الكؤود التي تتلخص في أنّ كل أب يتصرف مع أولاده بالطريقة التي تصرف بها أبوه معه، حتى لا يتسبب ذلك في فقدان الثقة عند الأطفال سيّما أن اختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والظروف الاجتماعية، يشكل دافعا مقنعا للفرد على تغيير النمط الاجتماعي الذي عاشه في طفولته.
ولا بُد من أن يَعي أولياء الأمور والمربّون، أنه إذا ازدادت ثقة الطفل بنفسه قوى اعتماده عليها وأصبح قادرًا على مواجهة المواقف الطارئة التي يتعرض لها، لذلك أولت المجتمعات المتقدمة الاهتمام والرعاية بالطفل منذ نعومة أظافره، وبدءًا من مرحلة الروضة، فأطلقوا له العنان في بناء ثقته بنفسه، ولما يتدخلوا إلا بالتوجيه المناسب الذي يقومه ولا يكسره.
المصادر:
- إبراهيم بن أحمد الحراثي، كتاب: كيف تنمي الثقة بالنفس لدى أطفالك؟
- مريم سليم، كتاب: كيف ننمي تقدير الذات والثقة بالنفس والنجاح عند أبنائنا؟