رغم أن الأصل في الزواح أنه عقد دائم، فإنّ الله- عز وجل- شرع الطلاق إذا استحالت العشرة بين الزوجين، ويكون ذلك بعد محاولات الإصلاح، ووجود محكّم بين الزّوجين للحفاظ على الميثاق الغليظ بينهما قبل اللّجوء إلى الانفصال الذي يترتب عليه حياة جديدة للطرفين وللأبناء.
وغالبًا ما يُؤثِّرُ الانفصال على الأبناء بالسّلب، فهم يشعرون بأنّ العالم الخاص بهم قد انتهى، ويُصابون بالقلق والغضب والحزن، ويخافون من التخلي عنهم أو فقدان حب الأب والأم لهم، سيما أن كلا منهما ينشغل بحياته الجديدة، وقد يكونان في حالةٍ من الغضب والعدائية تجاه بعضهما، وهو ما يُشعر الأطفال بالذنب وأنهم جزء من المشكلة التي وقعت، ومن جهة الآباء والأمهات فإنهم يقعون في أخطاء تربوية كبيرة في التعامل مع أولادهم بعد الانفصال.
الطلاق في ميزان الشرع
ويُعرف الطلاق في اللغة، بأنه حل الوثاق، وهو مشتق من الإطلاق؛ وهو الإرسال والترك، فيُقال: أطلقت الأسير: إذا حللت قيده وأرسلته، ويُقال: فلان طلق اليد بالخير؛ أي: كثير البذل والعطاء، ويُقال: طلق البلاد إذا تركها، ويُقال للإنسان إذا عُتق: طليق؛ أي: صار حرًّا”. وهو في الشرع حل رابطة الزواج، وإنهاء العلاقة الزوجية، وقد جاء لفظه بمشتقاته المختلفة في القرآن الكريم أربع عشرة مرة.
والطّلاق مشروع في الإسلام، فيقول الله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229]، وقال- سبحانه وتعالى-: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [البقرة: 236]، وقال- عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) [الطلاق: 1].
وروي عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنه طلَّق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسأل عمرُ بن الخطاب رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “مُرْهُ فليُراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلَّق قبل أن يمس، فتلك العِدَّة التي أمر الله أن تُطلَّق لها النساء” (البخاري ومسلم).
وعن الحكمة من مشروعيته، قال الإمام ابن قدامة- رحمه الله-: “والعبرة دالة على جواز الطّلاق، فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء النكاح مفسدةً محضةً، وضررًا مجردًا بإلزام الزوج النفقة والسكنى، وحبس المرأة مع سوء العشرة، والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شَرْع ما يزيل النكاح؛ لتزول المفسدة الحاصلة منه”.
أسباب الطلاق
وتتعدد أسباب الطلاق، ومن أبرزها ما يلي:
- ضعف الإيمان: ويكون ذلك بسبب عدم مراقبة الله تعالى في التصرفات، والوقوع في المعاصي والظلم، والجهل بالحقوق الزوجية، والواجبات الأسرية، والله- عز وجل- يقول: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ) [النساء: 19].
- كثرة الاشتغال بالأجهزة الحديثة: من الهواتف النقالة، وبرامج التواصل المختلفة، وغالب هذه الأجهزة شرها أكبر من نفعها في نفوس بعض الأزواج.
- سوء الظن بين الزوجين: وربما اطلاع أحد الزوجين على ما يخص الآخر، وتجسسه عليه، وبخاصة المرأة التي تسعى للتفتيش في أجهزة زوجها، وقد تجد ما لا يسرها.
- سوء الألفاظ: فيتفوه أحد الزوجين نحو الآخر بألفاظ نابية، وبخاصة من الرجال الذين يطلقون الألفاظ المهينة على زوجاتهم، ويجرحونهن، ويلجؤون للضرب بغير سبب، وهي كلها خلاف خلق الأتقياء الأخيار.
- كثرة اشتغال كل طرف بنفسه: فيغيب الزوج عن بيته وأولاده وأسرته، ويهمل واجباته، وكأنه أعزب بلا أسرة.
- إهانة بعض الأزواج لأقارب الآخر: وبخاصة الوالدين، فيصعب على الطرف الآخر أن يتقبل إهانة والديه، فيرى أن الانفصال حل لا بد منه.
- تدخل الأهل: وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: “ليس للزوجة أن تطيع أمها فيما تأمرها به من الاختلاع من زوجها أو مضاجرته حتى يطلقها: مثل أن تطالبه من النفقة والكسوة والصداق ليطلقها، فلا يحل لها أن تطيع واحداً من أبويها في طلاقه إذا كان متقياً لله فيها”.
- عوامل نفسية وصحية: فالأوضاع الصحية، والجسمية، والنفسية تعيق الفرد عن دوره الأسري، وكذلك الانحرافات السلوكية والانحطاطات الخلقية، وضعف الوازع الديني.
- الأسباب الاقتصادية والاجتماعية: ومنها ضعف الدخل، عدم استطاعة تحمّل تكاليف المعيشة، وعدم القدرة على تأمين السكن، والوفاء بمستلزمات الأسرة، واستقلال المرأة بدخلها الشهري، ونزولها لميدان العمل وعدم تبعيتها للزوج، والاختلاف في المكانة الاجتماعية، سواء كانت مكتسبة، أو موروثة، واختيار كل منهما للآخر لمصلحة مادية أو معنوية، وعدم بناء الاختيار على أساس هدف الزواج السليم.
- الاستعجال وعدم الأناة: فالرجل إذا غضب واشتد غضبه أول ما يفكر، يفكر في الطّلاق ويسارع إليه، ولو لأتفه الأسباب، فعلى الزوج إذا غضب، وعلَتِ الأصوات، واشتدت الخلافات بينه وبين زوجته أن يتحلى بالصبر، ويتحكم في ألفاظه، وأن يراعي الآداب النبوية عند الغضب.
- إفشاء الأسرار الزوجية: خصوصًا الأسرار الخاصة بين الزوجين، فهي طريق خراب للبيوت، وقد عدها بعض الأئمة من الكبائر، حيث تذهب المرأة فتفشي أسرار بيتها لأمها أو لجارتها أو لصاحبتها، وكذا الرجل يفعل ذلك، فتخرب البيوت وتتهدم الأسر، وهذه خَصلة قبيحة، وصاحبها من شرار الخلق عند الله.
أخطاء تربوية بعد الانفصال تضر الأبناء
ويرتكب كثير من الرجال والنساء أخطاءً تربوية في حق الأبناء بعد الطلاق وانفصال كل طرف عن الآخر، من ذلك:
- تحميل الأبناء المسؤولية: فبعد الانفصال وغياب أحد الوالدين، يُحمّل الأبناء مسؤوليات الطرف الغائب؛ فيقال للأكبر بين إخوته: “أنت رجل البيت”، وهو ما قد يثقل كاهله بمهام الكبار.
- التقليل من شأن أحد الوالدين: قد يصعب التحكم في مشاعر الغضب في بعض المواقف؛ مثل: أن يقول الطفل أمام أبيه، “أمي تسمح لي بمشاهدة التلفاز وقتا أطول”، ما قد يُشعر الأب بالاستياء من تصرف الأم، وينتقد قراراتها أمام الطفل، وهو ما قد يضر بعلاقة الطفل بوالديه.
- التنافس لنيل محبة الطفل: ويكون ذلك على حساب التربية، ففي خِضَم المنافسة تتلاشى أهمية تربية الطفل وتعليمه القواعد اللازمة، فيميل لمَن هو أكثر تساهلا معه.
- تجميل سلوك الطفل: يحاول أحد الوالدين تجميل سلوك الطفل والتحدث بشكل إيجابي فقط عما يفعله ابنه عندما يكون معه؛ مثل قول: “إنه مهذب جدا عندما يكون معي. لا أعرف لماذا يتصرف في منزلك بشكل سلبي”، لكن إهمال السلوك السلبي لن يفيد في تربيته التي تحتاج إلى تعاون الطرفين.
- استخدام الطفل للتجسس: ويكون ذلك من الطرفين بتكليف الطفل بنقل أخبار كل طرف للآخر، وتحميل الطفل مشكلات البالغين التي لا يقدر على فهمها.
- رفض التعاون معا: فعندما يأتي الانفصال بعد تصاعد الخلافات وتراكم المشكلات، قد يصبح كل طرف معبأ بمشاعر الإحباط والغضب التي قد تعميه عن النظر لمصلحة الأبناء، ويرفض التعاون مع الطرف الآخر لحل مشكلات الأطفال.
- تخريب علاقة الطفل بأحد الوالدين: المشاعر التي قد يحملها الوالدان المنفصلان تجاه بعضهما بعضًا ليست بالضرورة هي مشاعر الطفل تجاههما، وأحيانا تدفع المشاعر السلبية التي يحملها أحد الأبوين إلى تخريب علاقة الطفل بالطرف الآخر.
- معاملة الطفل كأنه ضحية: تأثر الطفل عند انفصال الزوجين قد يدفعهما إلى النظر إليه كونه ضحية الطّلاق، وقد يخرقان القواعد ويتساهلان مع سلوكه السيئ المتكرر، ما قد يعزز عقلية الضّحية لديه.
كيف نحافظ على الأبناء بعد الانفصال؟
ويمكن المحافظة على الأبناء بعد الطلاق وانفصال الوالدين، بمراعاة العديد من الأمور، منها:
- تربية الطفل ضمن الأبوة والأمومة المشتركة إن أمكن لما لها من تأثير إيجابي على علاقة الطفل بوالديه.
- تقديم الاهتمام والتركيز على الطفل كونه الهاجس الأول لدى الوالدين، وأن له أهمية أكبر من مسببات الانفصال.
- الابتعاد عن استخدام الأبناء كوسيلة لنقل المعلومات بين الآباء، وفي حال رغبة أحدهم بإعلام الآخر بأمر ما يجب التواصل المباشر معه وإبعاد الأبناء عن ذلك.
- تجنب طرح المشاكل العائلية أمام الأطفال أو مناقشتها في وجودهم، ويجب احترام الوالدين لبعضهما البعض أمام أطفالهما.
- توليد شعور الأمان لديهم؛ لما له من تأثير في مقدرتهم على تجاوز هذه الفترة بأقل الأضرار.
- تجنب كسر القواعد التي كان يتقيد الطفل بها قبل الانفصال لما يُولّد لديه حالة من عدم الشعور بالطمأنينة.
- تجنب المبالغة في تعويض الطفل عن الحياة التي خسرها نتيجة الانفصال.
- مساعدة الأطفال في التعبير عما يفكرون ويشعرون به.
- الحرص على حضور مناسبات الطفل، بداية دخوله الدراسة، والتواجد معه في عطلاته وفي حفلاته المدرسية والمناسبات العامة.
- استمرارية التواصل مع الأطفال حتى بعد مرور فترة زمنية على الانفصال وتقدمهم في العمر ونضوجهم.
- التحلي بالصبر في التعامل مع الأطفال إلى حين تقبلهم لفكرة الانفصال.
- اتباع سياسة واحدة من الأم والأب لنظام المكافآت للأطفال.
- التحدث مع الطفل عن مشاكله، ولا نجعل علاقتنا معه سريعة وسطحية، بل يجب أن تكون علاقة عميقة.
- تأمين بيئة مريحة وآمنة للأطفال لتربيتهم بها، وأن تكون مشتركة بين الأم والأب قدر الإمكان.
- تربية الأطفال على التقاليد والعادات الحسنة وتحملهم للمسؤولية، وأن يكونوا مسؤولين عن تصرفاتهم وأفعالهم بحسب أعمارهم وقدراتهم.
- توفير الأساسيات من ملابس وألعاب وأدوات للنظافة في كل من منزل الأم ومنزل الأب؛ لإشعار الطفل بأنه ينتمي إلى المنزلين وعدم إشعاره بأنه ضيف عند أحدهما.
- الابتعاد عن محاولة إثبات أفضلية أحد الأطراف على الآخر، حتى لا يتسبب ذلك في تشتت الطفل.
- يمكن شرح مفهوم الطّلاق للأطفال إذا كانوا في سن يسمح بذلك، لأن هذا يساعدهم على التأقلم في حياتهم الجديدة.
فحياة الأطفال لن تستقيم بعد الطّلاق إلا باتفاق الوالدين على اتباع وسائل تربوية تحميهم من تبعات الانفصال، وتجعلهم يتكيفون مع الوضع الجديد ويتعاملون معه بشكل متفهم، لتجاوز هذه المرحلة دون الشعور بمشاعر متضاربة من الغضب والقلق، فهم دائمًا في حاجة إلى دعم معنوي ونفسي لمصلحتهم وسعادتهم المستقبلية.
مصادر ومراجع:
- ابن منظور: لسان العرب 4 /2693.
- محمد فؤاد عبد الباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن، ص 427 و428.
- ابن قدامة: المغني 10/ 323.
- ابن تيمية: مجمع الفتاوى 32/261.
- جمال علي يوسف فياض: أسباب الطلاق ومخاطره.