الوِشاية: السُّمُّ الذي يَفْتِكُ بالأفرادِ والمجتمعاتِ
في قصرٍ عريقٍ جلس الملكُ وحوله مُستشاروهُ،
إذ دخل عليه رجلٌ يَشكو من انتشارِ الواشينَ في مملكتِه،
فأمره الملكُ بنثرِ كيسٍ من الريشِ في السوقِ، ثم طلبَ منه جمعَه.
فلمّا عجزَ الرجلُ، قال الملكُ: هكذا الكلمةُ إذا خرجتْ من فمِكَ،
لا تستطيعُ استعادَتَها،فكيفَ إذا خرجتْ من فمِ الواشي؟
فكلماتُ الواشينَ تنتشرُ كالريشِ في الريحِ، لا تُجمَعُ ولا يُصلَحُ ضررُها
إنَّ الوِشايةَ داءٌ عُضالٌ، ووباءٌ خَفِيٌّ،
يَسري في شرايينِ المجتمعاتِ كالسُّمِّ الزُّعافِ،
فهي ليستْ مجرَّدَ نقلٍ للكلامِ،
بل هي إشعالٌ للفِتنِ، وتفريقٌ وتمزيقٌ للجماعاتِ، وتدميرٌ للثِّقةِ
فالوَاشي نارُه تأكلُ الأخضرَ واليابسَ، وسُمُّه يَفْتِكُ بالصحيحِ والسَّقيمِ،
يَدْفَعُه قِصَرُ نظرِهِ للوِشايةِ، علَّهُ يَنالُ بها مَصلحةً هنا،
أو تَقَرُّبًا من شخصٍ أو جهةٍ هناك لكنه لم يشعرْ أنَّهُ بسوءِ فِعْلِهِ هو
{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (القلم: 11).
لا يَهدأُ له بالٌ حتى يُفَرِّقَ الجَمْعَ، ولا يَسكنُ له قلبٌ حتى يُبَدِّدَ الشَّمْلَ،
يَنقُلُ الحديثَ مُحرَّفًا، ويَروي الخبرَ مُزيَّفًا، ويَقصُّ الروايةَ مُجتزأةً، يَزرَعُ الشَّكَّ بين الأحبَّةِ،
ويَغرسُ العَداوةَ بين الإخوةِ كلمتُه سَهمٌ مَسمومٌ، إنْ أصابتْ قلبًا أهلكَتْه،
وإن مرَّتْ على أُذُنٍ أفسَدَتْها، يُظهِرُ الودَّ ويُضمرُ الغَدْرَ، يُلقي بالكلامِ ثم يَختفي كالجَبانِ
لا يَدْخُلُ الجنةَ نَمَّامٌ فكيفَ بمَنْ يجعلُ مِنَ النَّميمةِ دَيدَنَه، ومِنَ الوِشايةِ حِرْفَتَه؟
والنَّمَّامُ في دينِ الإسلامِ فاسقٌ مردودُ الشهادةِ، فلا يُصدَّقُ أبدًا،
{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (القلم: 10-11)،
فَنَهْيُهُ عن فِعْلِهِ واجبٌ، وبُغضُهُ في اللهِ مَندوبٌ، وحِكايَةُ حكاياتِهِ أو نَقْلُها حرامٌ،
وقد أحسنَ الشاعرُ في قَوْلِهِ:
تَنَحَّ عنِ النَّميمةِ واجتنبها…
فإنَّ النَّمَّ يُحبِطُ كلَّ أجرِ يُثيرُ أخو النَّميمةِ كلَّ شرٍّ…
ويَكشفُ للخَلائقِ كلَّ سِرِّ ويَقتلُ نفسَهُ وسِواهُ ظلمًا…
وليسَ النَّمُّ مِنْ أفعالِ حرِّ!
والوَاشي حربٌ على الأُلْفَةِ، وعدوٌّ للمحبّةِ،
يُحوّلُ البيتَ السّعيدَ إلى سجنٍ كئيبٍ،
ويُبدّلُ المودّةَ بين الإخوةِ إلى جمرةٍ تحتَ الرمادِ
فكمْ من مجتمعٍ كانَ جَنّةً من السّكينةِ،
فتحوّلَ إلى جحيمٍ بفعلِ هَمَساتِ الواشينَ،
وكمْ من صداقةٍ عميقةٍ مَزَّقَها كلامُ النّمّامينَ،
إنَّ الواشيَ كالنّارِ تأكلُ بعضَها إن لم تجدْ ما تأكُلُه،
فهوَ لا يَهدأُ حتى يرى العلاقاتِ الطيبةَ تتحوّلُ إلى رمادٍ.
والوَاشي يُؤلمهُ رُقيٌّ باهِرٌ،وإبداعٌ متميّزٌ، وعملٌ مُتصافٍ.
والوِشايةُ داءُ الفريقِ كما هيَ داءُ الفردِ،
تُحوّلُ العملَ من إنتاجٍ وإبداعٍ إلى مُراقبةٍ وتجسّسٍ وترصّدٍ،
الإنتاجيّةُ تتراجعُ، والطّاقاتُ تُهدرُ، والمواهبُ تُزهقُ.
تقاريرُ مُزيَّفةٌ، وشائعاتٌ مدسوسةٌ، ومعلوماتٌ مغلوطةٌ،
وشُبُهاتٌ وهميّةٌ، تُسقَطُ بها الكفاءاتِ، وتُزهَقُ بها الأخلاقَ،
وتُفقَدُ بها الثقةُ بين الناسِ
والوَاشي لا يَنجو مِن فَعلَتِه، تُضعِفُ ثِقَتَهُ بنفسِه،
تُوحِشُهُ عن أهلِه، تُظلِمُ قلبَه، تُسقِطُ هيبتَه،
تُضيِّعُ مروءَتَه، وتُبقيهِ في وَحشةٍ وندامةٍ فَتَبًّا لِخُلُقٍ يُفقِدُ المَرءَ إنسانيَّتَه،
ويُدَنِّسُ إيمانَه، حتى إنْ حقَّقَ بوشايتِه عَرَضًا ضَيِّقًا من دنيا
فكما أنَّ عاقبةَ الواشي وخيمةٌ، فَعاقبةُ مَنْ يتركُ لهُ مجالًا ويُصَدِّقُه أليمةٌ
فهُناك إِثْمٌ شرعيٌّ آخرُ على مَن يَستمعُ لأمرِ الوِشايةِ والوُشاةِ ويفتحُ لهم بابَه،
فقد قالَ الحكماءُ قديمًا:
قبولُ السِّعايةِ شرٌّ من السِّعايةِ (والسِّعاية هنا بمعنى المَشي بالوِشايةِ)،
لأنَّ السِّعايةَ دِلالةٌ، والقبولَ إجازةٌ، وليسَ مَن دلَّ على شيءٍ فأخبرَ بهِ كَمَنْ قبِلهُ وأجازهُ ومَرَّرهُ.
فاتقُوا السّاعيَ، فلو كانَ صادقًا في قولِه؛ لكانَ لئيمًا في صِدقِه؛حيثُ لم يَحفَظِ الحُرمةَ ولم يَستُرِ العورةَ.
وها هوَ خامسُ الخلفاءِ الراشدينَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يُدرِكُ هذا المعنى،
فحينما دخلَ عليه رجلٌ، ذاكِرًا له عن رجلٍ شيئًا، قال له عمرُ:
إنْ شئتَ نظرنا في أمرِك، فإن كنتَ كاذبًا فأنتَ من أهلِ هذه الآيةِ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6)،
وإن كنتَ صادقًا فأنتَ من أهلِ هذه الآيةِ: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (القلم:11)،
وإنْ شئتَ عَفَوْنا عنك. فقال: العفوَ يا أميرَ المؤمنين، لا أعودُ إليهِ أبدًا.
فَيا كُلَّ صاحبِ دعوةٍ وقضيّةٍ ورِسالةٍ، إنْ وجدتَ مِن حديثِكَ عن غيرِكَ خيرًا،
فتحدّثْ لتجمعَ القلوبَ، وإنْ وجدتَ مِن قولِكَ ما يُفرِّقُ الجَمْعَ ويُشتِّتُ القلوبَ…
فاحذرْ، وإنْ لم تستطعْ، فاعلمْ أنَّ في الصمتِ حكمةً، وتعلّمْ جُرأةَ وشرفَ المواجهةِ،
وأخلاقيّةَ التربيةِ مِن معينِها الإسلاميِّ الصّافي، والتزِمْ بنُبلِ الأخلاقِ ورِفعتِها.
فَتِلك هي دُرُوعُ الصيانةِ والحمايةِ، وسُيوفُ المواجهةِ والاجتثاثِ.
ولنكنْ حُكماءَ نَعرِفُ للكلمةِ وَزنَها، فالكلمةُ الطيّبةُ كالشجرةِ الطيّبةِ التي يستظلُّ بها الناسُ،
والكلمةُ الخبيثةُ كالشجرةِ الخبيثةِ ما لها مِن قرارٍ.
قالَ النبيُّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم-:
مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، فليقلْ خيرًا أو لِيَصمُتْ (البخاري ومسلم).
فلنحفظْ ألسنتَنا، ولنكنْ بُناةً لا هَدّامينَ، ولنَعملْ على لَمِّ الصُّفوفِ لا تَفريقِها،
فبذلكَ تُرَبَّى الأفرادُ، وبذلكَ تُبْنى الجماعاتُ، وتُرْفَعُ المؤسساتُ وتُحْفَظُ المجتمعاتُ.