اعتنى الإسلام بالمرأة وأعلى من شأنها ومكانتها، واختص الله- عز وجل- المرأة بصفاتٍ كثيرةٍ؛ لتكون واحة للسّكن والمودّة والرّحمة، وقادرة على تربية أجيالٍ تحمل الدِّين وتُحافظ على الأوطان وتنهض بها.
وانطلق النموذج النّبوي في التربية العبادية للمرأة المسلمة، من الغاية التي خلق الله- تبارك وتعالى- من أجلها الإنسان، وهي تحقيق العبودية له وحده، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56].
لماذا خلق الله المرأة؟
أعلن الله- سبحانه وتعالى- لملائكته أنه سيجعل في الأرض خليفة ليُعمّر هذا الجزء من الكون بذكر الله وتقديسه، ويَسّر الله لسيدنا آدم- عليه السلام- السبل لتحمل العيش في هذه الأرض، وكتب الموت عليه لديمومة الذكر في أجيال متعاقبة، لذا وهبه زوجة تقاسمه العبادة والمهام التي ألقيت على عاتقه، فأصبحت المرأة شقيقة الرجل بوصف النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إنَّما النِّساءُ شقائقُ الرِّجالِ” (صحيح أبي داود).
لهذا، كان حصول المرأة على قسط وافٍ من التربية العبادية أمر في غاية الأهمية، فهي ليست أقل شأنًا من الرجل، أو أداة في يدي الرجل يستخدمها كيفما شاء، أو سلعة يبيعها وقتما شاء، أو شيئًا لا قيمة له في الكون. بل مثلها مثل الرجل في التكريم، وإن اختلفت خصائص كل منهما، لكن لها مثلما له من حقوق في حدود النظام الاجتماعي الذي وضعها الله لتنظيم الشؤون بين الرجل والمرأة(1).
والحديث عن مكانة المرأة في الإسلام من أهم ما ينبغي أن تنصرف الاهتمامات إليه، ومن أعظم ما ينبغي التركيز عليه، وذلك أن المجتمع الإسلامي مبني على الأُسر، ويتكون منها، والأسر تقوم على المرأة، ويتخرج أفرادها على يديها، ويتلقون مبادئهم عنها، فهي محور ارتكازه، وعمود بنائه، وأساس أركانه، وبدونها لا يكون أبدًا، بل لا يتصور في ذهن أن يقوم مجتمع دون المرأة.
وإن الحديث في بيان مكانة المرأة في الإسلام ليس بدعًا من القول، بل هذا كتاب ربنا سبحانه وتعالى ليس فيه سورة، بل ولا آية، إلا وللمرأة فيها نصيب.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً}[النساء:1].
وقال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}[آل عمران:195].
وروى أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قوله: “واسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا؛ فإنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعْوَجَ شَيءٍ في الضِّلَعِ أعْلاهُ، فإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أعْوَجَ، فاسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا” (البخاري).
ورفع النبي- صلى الله عليه وسلم- من شأنها، وحفظ ضعفها بقوله :”إِنَّي أُحَرِّجُ عليكم حقَّ الضعيفينِ: اليتيمُ، والمرأةُ” (ابن ماجه)(2).
النموذج النبوي في التربية العبادية للمرأة المسلمة
لقد اهتم النبي- صلى الله عليه وسلم- بغرس التربية العبادية للمرأة المسلمة من خلال بعض النماذج ومنها:
- الصدقة وحفظ اللسان: حيث حثها أن تحرص على حفظ لسانها وتهذب نفسها، وحذّر رسول الله- صلى الله عليه وسلم – النساء من فحش الكلام، كاللعن، وكثرة الشكاية وبيّن للنساء، لأنّ ذلك من أسباب دخول النار فقال: “يا معشرَ النساءِ تصدقْن فإنكنَّ أكثرُ أهلِ النارِ فقالت امرأةٌ: وما لنا أكثرُ أهلِ النارِ قال : لأنكنَّ تكثرْن اللعنَ وتكفرْن العشيرَ” (البخاري).
- العناية بالعبادة والحرص عليها: مثل قيام الليل وغيرها، حتى إن بعض النساء عُرِفْنَ بهذا الأمر في التاريخ الإسلامي. بل طالب الرجال على الأخذ بيدي أزواجهن في هذا الأمر، فقال: “رحِمَ اللَّهُ رجلًا قامَ مِن اللَّيلِ فصلَّى وأيقظَ امرأتَه، فإن أبَتْ نضحَ في وجهِها الماءَ” (أبي داود).
- حسن الجيرة: من أجل أن يسود التآلف والتآخي والترابط بين المسلمين، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “يا نِساءَ المُسْلِماتِ، لا تَحْقِرَنَّ جارَةٌ لِجارَتِها، ولو فِرْسِنَ شاةٍ” (البخاري ومسلم)(3).
ولما انطلقت صيحات كثير من أعداء الإسلام يتهمون النبي- صلى الله عليه وسلم- بأنه قد ظلم المرأة، نظرنا لأوضاعهم فوجدناهم هُمْ مَن ظلموها ظلما بيّنًا جليًّا، في حين أن الإسلام أعلى من شأنها علوًّا عظيمًا.
ولم ينظر الغرب إلى المرأة كونها شقيقة الرجال في إطارها الاجتماعي، لكنه حاول أن يُلقي عليها بعبء تحمّل نفسها مثل الرجل، وحرة في تصرفاتها مثل الرجل، وغرس فيها وفي الرجل أن كل شيء يقدم بمقابل، فإذا أطعم الرجل زوجته أو أمه فهو بذلك يمنّ عليهما.
وأكد واقع الغرب أنّ المرأة لا بُد من أن تصرف على نفسها ولا تكون عالة على الرجال، ما دفعها لمزاحمة الرجال في العمل، بل ولجوئها إلى منحدر أخلاقي لتتمكن من توفير احتياجاتها، وهذا ما رفضه الإسلام ونبي الإسلام.
والنبي- صلى الله عليه وسلم- أكرم النساء، وأوصى الرجال بهن خيرًا، لأنهن ضعفاء، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “استوصُوا بالنِّساءِ خيرًا” (البخاري).
وجمعت كتب السنة بين دفتيها الكثير من الأحاديث التي اختص بها النبي الكريم المرأة، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “رِفقًا بالقَواريرِ” (البخاري).
وهذه عائشة- رضي الله عنها- تجلي جانبًا آخر من جوانب تعظيم الرسول- صلى الله عليه وسلم- لمكانة المرأة في الإسلام، فتقول: “كنتُ أتعرَّقُ العَظمَ وأَنا حائِضٌ فأعطيهِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فيضعُ فمَهُ في المَوضعِ الَّذي فيهِ وضعتُهُ وأشرَبُ الشَّرابَ فأُناولُهُ فيضعُ فمَهُ في المَوضعِ الَّذي كنتُ أشربُ مِنهُ” (رواه أبو داود).
وكان- صلى الله عليه وسلم- يُنادي عائشة- رضي الله عنها- بـ”عائش”، وهو ما يُعد نوعًا من التدليل والحب. وفي الغزوات كان يُسابق عائشة فيسبقها وتسبقه دون أن يتحرّج، فعن عائشةَ- رضيَ اللَّهُ عنها- أنَّها كانَت معَ النَّبيِّ- صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ- في سفَرٍ قالت: فسابقتُهُ فسبقتُهُ على رجليَّ، فلمَّا حَملتُ اللَّحمَ سابقتُهُ فسبقَني فقالَ: هذِهِ بتلكَ السَّبقةِ. (رواه أبو داود).
ومن أسمى وأرقى معاني التكريم ما رُوي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لمّا رجع من غزوة خيبر وتزوج صفية بنت حيي- رضي الله عنها- كان يُدير كساء حول البعير الذي تركبه يسترها به، ثمّ يجلس عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفية- رضي الله عنها- رجلها على ركبته حتى تركب. ولم يكن هذا المشهد بعيدًا عن أعيُن الناس، فالذي رواه أنس- رضي الله عنه-، وكأنه صلى الله عليه وسلم يعلمنا أنه- صلى الله عليه وسلم- (وهو نبي الله) لا يُنْقِص من قدره أن يتواضع لزوجته ويعينها، ويدخل عليها السرور ويسعدها(رواه البخاري) (4).
وأوجب الله- سبحانه وتعالى- على النساء العبادة كغيرها من المخلوقات، فالعبادة ليس لها علاقة بالظروف المتباينة التي تعيشها النساء، فمهما كانت المسؤوليات والالتزامات، فلا بُد من أن تحتل العبادة الأولوية الأولى من حيث الاهتمام، وليس من حيث الوقت، حيث تتعدد أشكال العبادة ما بين صلاة وذكر وتلاوة للقرآن ورعاية لأسرتها وزوجها، فكلها أمور تستطيع المرأة أن تتعبد لله بها إذا أخلصت النية، فمثلًا فلتجعل المرأة المسلمة من مطبخها محرابًا تتعبد فيه، وبالتالي لا يتعارض وقوفها فى المطبخ مع تأدية عبادتها وتقوية علاقتها بربها.. وليكن لسانها رطباً بذكر الله عز وجل قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (5).
مجالات التربية العبادية للمرأة في الخطاب النبوي
اهتمت السنة النبوية بمجالات التربية العبادية للمرأة المسلمة، فحرصت على ترسيخ العقيدة الصحيحة لديها، وغرس القيم الأخلاقية وإكسابها الفضائل ومحاسن السلوك، وغيرها من المجالات:
- الجانب الروحي والتعبدي: اعتبره المنهج النبوي من أهم الجوانب التي يجب تنميته في تربية المرأة من أجل هداية العقل وتزكية النفس وتهذيب الأخلاق لتحمل مسؤوليتها والرسالة المكلفة بها، لأنّ الحياة الروحية هي الضابطة للحياة المادية والموجهة لها.
والعبادة تنظم علاقة المرأة المسلمة بربها وتظهر عبوديتها له، وهو المعنى الذي أكده النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله: “إذا صلَّتِ المرأةُ خَمْسَها، وصامَت شهرَها، وحصَّنَتْ فرجَها، وأطاعَت زوجَها، قيلَ لها: ادخُلي الجنَّةَ مِن أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شِئتِ” (أخرجه أحمد).
- الجانب التعليمي: حرص النبي- صلى الله عليه وسلم- على أن تعي المرأة أمور حياتها، وأن تتعلم فقه دينها وأحكامه لتعبد الله على علمٍ.
- الجانب الأخلاقي: حرص النبي- صلى الله عليه وسلم- على تزكية أخلاق المرأة المسلمة وحثها على ذلك فحينما سبّت عائشة- رضي الله عنها- أُناسًا من اليهود، قال لها النبي- صلى الله عليه وسلم- :”يا عَائِشَةُ لا تَكُونِي فَاحِشَةً” (البخاري ومسلم).
- الجانب الاجتماعي والتروحي: حثّ النبي- صلى الله عليه وسلم- المرأة على الاهتمام بهذا الجانب من أجل تماسك الأسرة والمجتمع، وطلب منها أن تصل أمها حتى ولو لم تكن مؤمنة، فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: “قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وهي مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قُلتُ: وهي رَاغِبَةٌ، أفَأَصِلُ أُمِّي؟ قالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ” (البخاري ومسلم).
كما طلب منها رعاية أسرتها وأبنائها، وأوصاها بجيرانها خيرًا بمشاركتها أفراحها وأحزانها، وطلب منها- أيضا- التواضع وعدم الكبر أو الغيبة والنميمة، حتى يتوحد المجتمع. بل اهتم النبي- صلى الله عليه وسلم- بالجانب التّروحي للمرأة، حيث كان يُسابق عائشة ويلاعبها.
بل اهتم المنهج النبوي بأساليب تربية المرأة من خلال التربية بالقدوة والحوار والقصة والتربية بالموعظة والترغيب والترهيب وغيرها من الأساليب النبوية (6).
اهتم النبي- صلى الله عليه وسلم- بتربية المرأة في كل المجالات، ومنها التربية العبادية، فكانت في حياته لها مكانة كبيرة ومنزلة رفيعة لا نظير لها في أي مجتمع آخر مهما ادعى الحفاظ على حقوقها وكرامتها، وكان لهذه التربية مردودها على المرأة كونها تعمل على الارتقاء بروحها وقلبها ونفسها، وتخلصها من كل المعوقات التي تمنع رقيها، وتكاملها من الأنانية والحقد والرياء والنفاق والجشع وغيرها من الأمراض النفسية والجسدية.
المصادر والمراجع:
- محمد عبدالله برات: تربية وتعليم المرأة في الإسلام، 29 مارس 2016
- إسماعيل صديق عثمان: المرأة تحت مظلة الإسلام مكانتها وصون حقوقها، مجلة جيل حقوق الإنسان، العدد الرابع، 17 مارس 2017م.
- محمد حسانين إمام حسانين: النموذج النبوي في التربية العبادية للمرأة المسلمة، 1 سبتمبر 2020،
- حسام حسن كيوان: كيف كرم رسول الله المرأة ؟؟،
- فاطمة عبدالرؤوف: المرأة المسلمة وفقه الأولويات، 19 سبتمبر 2017،
- هناء عبدالرحمن محمد النجار: الخطاب التربوي الموجهة للمرأة المسلمة كما جاء في السنة النبوية، رسالة ماجستير، كلية التربية الجامعة الإسلامية، غزة، 2009، صـ 30- 53.